ما بعد المستقبل

مقال لحسين الحاج

المقال خاص بـ Boring Books

يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه


سنة 2014، خرجت ورقة من البنك الدولي قالت عن أزمة التكدس المروري في القاهرة إن "السرعة في بعض الشوارع سيئة إلى درجة إنه من اﻷسرع لو قمت بمشاويرك القصيرة على قدميك"، وقالت إن "في ساعات الذروة، يتراوح متوسط سرعة المركبات في شوارع القاهرة ما بين 6 إلى 25 كيلو متر / الساعة"، يعني تقريبًا ما بين سرعة بغل وسرعة حمار! تخيل لو جدك سنة 1914 رايح مشوار على حمارته وأنت بعد ميت سنة رايح نفس المشوار في عربيتك اللي فيها محرك 1400 سي سي بقوة 100 حصان بس على نفس سرعة حمارة جدك، يبقى أنت مفروض تبطل تصدق في حاجة اسمها المستقبل.

المنظر الماركسي اﻹيطالي فرانكو [بيفو] بيراردي بيبدأ كتابه "ما بعد المستقبل" (2011) بادعاء إن القرن العشرين كان قرن مختلف عن القرون اللي قبله ﻷنه كان أكتر القرون اللي صدّقت في شيء اسمه "المستقبل"، بس مع وصولنا للألفية التالتة يبدو إن البشرية خفت من هوسها بالمستقبل، دلوقتي ما حدش  عنده تصور مختلف أو أحسن للمستقبل، والخيال اليوتوبي اللي صاحب النطة التكنولوجية الواسعة في القرن العشرين انتهى واستبدلناه بتخيلات نهاية العالم بتحصل في ديستوبيات كابوسية.

بيراردي شاف أول لمحة من فكرة "إلغاء المستقبل" حصلت بعد فشل ثورات 1968، لما أجيال ما بعد الحربين خرجت للشوارع في آخر الستينيات عشان ترفض صفقة دولة الرفاه الاجتماعية السيئة لكن انتهى بيها اﻷمر بإنها وقعت في فخ النيوليبرالية في السبعينيات. السبب ورا فشل الثورات دي -في رأي بيراردي- إنها "ما كانش عندها قدرة سياسية كافية لكسر السيطرة الرأسمالية على التكنولوجيا". السيطرة دي بقت واضحة أكتر وأكتر في التسعينيات مع اشتعال الحماسة ليوتوبيا الثقافة السيبرانية (من خلال الكومبيوتر واﻹنترنت)، ﻷنها بدال ما تخلق عقل كوني فيه كل شيء متصل ببعضه لمصلحة البشرية، خلت الرأسمالية قادرة على تسليع اﻹنترنت حتة حتة لحد ما وصلنا دلوقتي للحظة اللي فيها كل خواطرنا ومشاعرنا بقت بيانات منتظمة من خلال الخوارزميات عشان تتباع للمعلن المناسب.

وده سبب توسع مناقشة بيراردي لمفهوم "السيمو-رأسمالية أو رأسمالية العلامات" اللي مش بس بتقوم على تسليع اﻷفكار والتعبيرات والرغبات لكنها بتحول كل نشاطنا الذهني ﻹنتاج رأسمالي، أو زي ما بيراردي بيقول، "الرأسمالية المعاصرة ممكن تعريفها برأسمالية علامات ﻷن الشكل العام للسلع له طبيعة سيموطيقية". الطبيعة السيموطيقية للرأسمالية قلبت أبناء الطبقة العاملة في المصانع أو البروليتاريا في المدن والحواضر الكبيرة لطبقة من العمال اﻹدراكيين أو حسب تعبير بيراردي "كوجنتاريا" Cognitariat. والفرق بين أنماط اﻹنتاج في الرأسمالية الصناعية ورأسمالية العلامات مهم جدًا في رأيه، ﻷنه شايف إن الطريقة اللي بنفسر بيها كلمة "المستقبل" ليها سياق تاريخي، أو بعبارة تانية المستقبل مجرد ظاهرة ثقافية وإسقاط بيتغير لما اﻷنظمة الاقتصادية والسياسية بتتغير.

الحقيقة إن المستقبل ما بقاش اعتقاد يقيني إلا من خلال تقدم الرأسمالية الصناعية في النص التاني من القرن التسعتاشر والنص اﻷول من القرن العشرين، وأسطورة التقدم نحو المستقبل كانت ترجمة لحقيقة نمو الاقتصاد الرأسمالي خلال الفترة دي، وعشان كدا إذا كنا عايزين نعرف إيه اللي خلا أيديولوجيا المستقبل في القرن العشرين مختلفة عن أيديولوجيا نهاية العالم في قرننا الحالي ضروري نفهم إزاي الناس تخيلت المستقبل وهما شاهدين على سرعة حركة التصنيع وعظمتها؟ 

بيراردي بيجاوب على السؤال دا بمناقشة تاريخ الحركة المستقبلية، وهي حركة فنية أوروبية ظهرت في أول القرن العشرين وتبنت قيم التقدم الصناعي والسرعة والتكنولوجيا وكمان العنف لدرجة إنها التحمت بالفاشية من أول لحظة صعودها في إيطاليا. تمجيد فيليبو مارينيتي في بيان الحركة اللي كتبه 1909 لجمال المكن وسرعتها في التصنيع له مدلول كبير عند بيراردي في علاقة اﻹنسان بالتكنولوجيا عمومًا في أول القرن العشرين، حيث إن العربية أو الطيارة في نظر مارينيتي قطعة فنية جميلة ﻷنها أحسن تمثيل مادي لسرعة التقدم الصناعي ناحية مستقبل أفضل للبشرية.

بالنسبة لبيراردي فكرة انفصال المكنة عن جسم اﻹنسان مهمة جدًا ﻷن الانفصال دا سمح للناس إنها تحتفظ باستقلاليتها الذهنية لما بتتعامل مع التكنولوجيا وده معناه إن شغل طبقة البروليتاريا ممكن يتقاس بطريقة مظبوطة وإن قيمة العمل لسه مرتبطة بالوقت اللي بيقضيه العامل في إنتاج السلعة، عشان كدا الوقت في الرأسمالية الصناعية مقسم لفترات ثابتة سمحت للعامل إنه يركز على مهمة مادية واحدة وواضحة، فلو كنت عامل في مصنع عربيات من اللي بيمجدها مارينيتي كنت هتبقى عارف إمتى هتخلص شغلك وتبقى حر نفسك، وبالتالي اﻹنتاج الصناعي سمح للعمال إنهم يلاقوا وقت يتخيلوا ويحلموا بمستقبل أحسن.

خيال أبناء العصر الصناعي عن المستقبل بيوضح لنا إنه كان بالنسبة لهم معروف ومحسوس وقادرين يوصلوا له باﻹرادة البشرية والفكر الاقتصادي والنشاط السياسي ﻹن باين البشرية بتتحرك في اتجاه واحد واضح، حتى لو انحرفت مرة أو مرتين في حروب كانت هتجيب أجلها، أومال إيه اللي حصل لفكرة المستقبل لما دخلنا عصر رأسمالية المتأخرة واقتصاد المعرفة؟

بيراردي شايف إن المستقبل ما بقاش موضوع مريح للناس دلوقتي ﻷن تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات خلت حياتنا وسياساتنا معقدة قوي وسريعة قوي لدرجة إن مفيش قانون عقلاني أو اتجاه خطي يقدر يلقط لنا تصور للمستقبل، وبقينا عايشين في عالم من الجموح التكنولوجي يصعب عليك توقع أي نتيجة ﻷي فعل بتاخده.

بالنسبة لبيراردي ما بقاش فيه مستقبل ﻷن الواقع ببساطة متقلب بشدة، فمن ساعة ما الخوارزميات وتدفق المعلومات سيطروا على كل جوانب حياتنا اليومية، قدرتنا على إننا نبني مستقبل مختلف اتشلت ﻷننا ما بقيناش قادرين نشوف بديل للمسارات الرأسمالية اللي بتوصلنا للدمار والفقر والعنف، وده عشان ما بقاش فيه فرق بين التكنولوجيا الرأسمالية والقدرات الذهنية للفرد في اقتصاد المعرفة. أو زي ما بيراردي بيقول، "في الشبكة الرقمية العالمية، الشغل بيتحول لشذرة من الطاقة العصبية بتلمها ماكينة جامعة.. والعمال بيتحرموا من الاتساق الفردي.. وبصورة واضحة، ما بقاش فيه عمال من اﻷصل، إنما وقت العمال موجود على الشبكة، ومتاحين للاتصال على الدوام عشان ينتجوا للتبادل قدام أجر مؤقت". 

بعبارة تانية بيراردي شايف إن الشغل بقى "خلوي"، بمعنى إنه بقى سهل التنقل من مكان لمكان زي الشغل على الموبايلات واللابتوبات وكمان خلوي بمعنى إنه بقى متشظي شبه الخلية الصغيرة اللي بتتكون منها أعضاء الجسم. الناس دلوقتي بتشتغل بصورة مقلقلة وبتاخد أتعابها لما تعبيرها السميوطيقي يتحسب منتج حتى لو كان يومهم كله خاضع لتدفقات سريعة بشكل معجز من البيانات.

بيراردي بيعترف إن مفيش مخرج من حالة رأسمالية العلامات دي، ﻷن النيوليبرالية دمرت كل اﻷجسام الثقافية المضادة اللي قاومت الرأسمالية في القرن العشرين وساعدت الناس في تخيل المستقبل. في آخر كتابه "معزوفة مقلقلة" (2009)، بيراردي بيعارض البيان المستقبلي لمارينيتي ببيان سماه "ما بعد المستقبلية"، ومن ضمن ما قاله في البيان إن "العربيات راح منها طعم ندرتها وفوق كدا مش هتقدر تأدي المهمة اللي اتعملت عشانها من دلوقتي، ﻷن السرعة اتبطئت، فالعربيات بقت واقفة زي السلاحف الغبية في زحمة المدينة". والمستقبل في العصر الرقمي في نظر بيراردي بقى عطلان في زحمة إنتاج رأسمالية العلامات زي ما عربيتك عطلانة في زحمة القاهرة.