العمل المقلقل

مقال لشهاب الخشاب وحسين الحاج

المقال خاص بـ Boring Books

يحتفظ الكاتبان بحقهما في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقالهما دون إذن منهما.

عمالة مؤقتة عن البوابة نيوز

فين أيام الشغلانة الثابتة؟ من معالم الخيال البرجوازي الصميم إن الشاب المحترم لازم يبدأ مشوار حياته بالدراسة، ثم ياخد الشهادة، ثم يحصل على الشغلانة، ثم يتجوز ويخلَّف ولاد محترمين هيدرسوا وياخدوا شهادات ويشتغلوا ويخلفوا برجوازيين كيوت تانيين. طبعًا الواقع المُر بالنسبة للأبهات والأمهات المحترمين حاليًا إنهم مايقدروش يعيدوا إنتاج نفسهم بالشكل ده، عشان الدراسة في حد ذاتها ما بقتش تجيب همَّها، والشهادة مالهاش معنى من غير واسطة، والشغلانة بقت أشبه بالمصلحة المؤقتة. في الظروف دي، الأبهات والأمهات بيحنوا لزمن الشغلانة الثابتة والمرتب الثابت، زمن نمو الوظائف الحكومية وجواب القوى العاملة، زمن الترقيات والمعاشات الزهية.

لكن بمراجعة بسيطة لتاريخ الاقتصاد الحديث، تقدر تعرف إن معظم العمال كانوا دايمًا عمال باليومية أو "مُقلقلين" (precarious). العمل المقلقل نوعية من الشغل معروف بإنه زي الـ"ظهورات"، شغل بيظهر ويختفي، والعامل فيه شغال "على كف عفريت" وممكن يمشي في أي لحظة. من ساعة ما الكورونا ركبت على ضهر الاقتصاد، الكلام عن العمالة اليومية زاد، وكأن الناس فجأة اكتشفت إن القطاع الغالب من العمال بيقبضوا باليومية. ده حتى بقى فيه إعلانات بتدعو للتبرع للمؤسسات الخيرية تحت دعوى إنهم بيساعدوا العمال. يا ترى اللي اشتغلوا في اﻹعلانات دي مش برضه عمال باليومية؟ ويا ترى الناس اللي بتموّل المؤسسات الخيرية ما بيشغَّلوش العمالة في مصانعهم ومكاتبهم باليومية؟ منظر الفواعلية اللي بيقعدوا على اﻷرصفة وقدامهم عدة الشغل ومستنيين اللي يجمعهم لشغلانة هنا ولا هناك مش جديد خالص. احتمال تلاقي إنهم بيتوصفوا بكلمة تقيلة وكل الناس بتتلجلج فيها. 

أيوة صح! همَّا البروليتاريا!

مين البروليتاري ده؟ أغلب الترجمات بتقول ببساطة إنه عامل، وأحيانًا بيتقال عليه "شغّيل"، يعني بيشتغل كتير قوي وما عندوش وقت ﻷي شيء تاني في يومه. في الفكر الماركسي، العامل البروليتاري هو العامل اللي مالوش نقابة ينضم ليها، عامل بلا رابطة ينتمي إليها. وده من أهم أسباب اغترابه عن نفسه وعن شغله، ﻹن دور النقابات هي الدفاع عن حقوق أعضائها العاملين في أجور كويسة وساعات عمل إنسانية وامتيازات تانية كتيرة. وبالتالي البروليتاري عبارة عن شخص وحيد أوي، مش عشان نفسه يبقى وحيد ويتساب في حاله، وإنما عشان الضغوط الاقتصادية بتحسّسه بالاغتراب عن شغله ومنتجات شغله واللي جابوا له شغل أصلًا.

ماركس (ولينين بعده) كانوا مرتابين من النقابيين ﻹن امتيازاتهم الطبقية بتمنعهم من إنهم يثوروا بشكل كامل ضد اﻷيدولوجيا الرأسمالية اللي النقابات جزء منها، خاصةً النقابات اللي بتتحول إلى مؤسسات بيروقراطية بتدير علاقات العمل مع أصحاب الشغل بهدف الدفاع عن أعضائها فقط دونًا عن جميع العمال. وبما إن البروليتاري بره التنظيم النقابي، فهو عنده فرصة إنه يثور ضد الرأسمالية. الماركسيين شايفين إن الحزب الشيوعي بقيادة طليعة المثقفين اليساريين هي الوسيلة اﻷمثل لتنظيم العمال اللي مالهمش نقابة تدافع عن حقوقهم. أما اﻷناركيين، فكانوا أكثر تقبلاً للفكر النقابي وتنظيماته الاجتماعية، وكانوا شايفين إن المجتمع الاشتراكي الجديد هيتولد من رحم قشرة المجتمع القديم، ومن هنا بدأوا ينظّروا لمجتمع اشتراكي تحرري ما فيهوش مؤسسات غير النقابات وبس.

بين الفكر الماركسي اللي بيدعم التنظيم الحزبي الخاص للبروليتاريا بهدف إلغاء النظام الرأسمالي، والفكر الأناركي اللي بيتحرك من جوه النقابات بنفس الهدف، طبقة العمال في أوروبا وأمريكا قدرت تضغط على النظام الرأسمالي عن طريق المظاهرات واﻹضرابات عشان تحدد أيام العمل لست أيام وأحيانًا خمسة بدل ما كانوا سبعة، وتقلل ساعات العمل الرسمية لـ8 ساعات بدل ما كانت بتوصل لـ12 ساعة وأكتر. المكسبين دول كانوا بداية مكاسب تانية كتيرة للطبقة العاملة اﻷوروبية واﻷمريكية في النصف اﻷول من القرن الـ20، ﻹنهم إدوا فرصة لإن العمال يلاقوا وقت يفكروا مع بعض، ويدبروا إزاي يقدروا ياخدوا مكاسب أكتر من أصحاب المصانع واﻷشغال، من بينها التأمين الصحي ضد مخاطر العمل وإلغاء عمل اﻷطفال وغيرها كتير من حقوق العمال اللي عرفناها مع الشغلانة الثابتة.

الصراع بين النقابات العمالية ورأس المال بقى قوي في العالم الشمالي الغربي من القرن الـ19، بما إن العالم ده كان من أوائل مناطق العالم اللي تتنظم بناءً على القومية الصناعية. أما في باقي العالم المُستَعمَر رسميًا أو الواقع تحت سطوة البلاد الغربية اقتصاديًا، فما كانتش أنماط اﻹنتاج الصناعي اتطورت ولا اتوسعت بشكل كافي عشان تمهد لإنشاء نقابات عمالية أو حتى أحزاب شيوعية قوية. بين القرن الـ19 والنهاردة، النقابات العمالية والمهنية بقت تتقادم يوم بعد يوم مع التحولات والنقلات الكبري في أنماط اﻹنتاج الرأسمالي، بين الـ"رأسمالية العليا" (high capitalism) المبنية على التصنيع القومي واستغلال الأراضي، والـ"رأسمالية المتأخرة" (late capitalism) المبنية على اقتصاد الخدمات والتكنولوجيا الرفيعة. 

خط تصنيع القماش في القرن الـ19 مثلًا عمره ما كان بيبدأ بزراعة القطن لحد ما جدك يشتريه منسوج من الوكالة والترزي يفصلهوله. خط الإنتاج بيبدأ لما الحكومات اﻷوروبية بتحشد العمالة الزايدة في بلادها عن طريق التجنيد اﻹجباري، وبتشحن الجنود دول على مراكب جاهزة بمدافعها وبنادقها عشان تروح تفتح سواحل غرب أفريقيا، وتسهّل شحن اﻷفارقة المستعبدين لمزارع الجنوب اﻷمريكي والبرازيل. العبيد بيزرعوا القطن وبيحصدوه عشان يبعتوه للعمال اللي شغّالين في مصانع مانشستر في إنجلترا، اللي بينتجوا منه منسوجات تسمح ﻷصحاب المصانع بإنهم يروحوا يبيعوها في أسواق البلاد المستعمرة مرة تانية، ويضاربوا بالأرباح في بورصة القطن في لندن. ولما الحرب اﻷهلية قامت في أمريكا، والعبيد اتحرروا رسميًا، جت بريطانيا بجيوشها تستعمر مصر وسيطرت على زراعة القطن فيها، وفضل القطن بسعر التراب. شفت بقى كام تجارة وكام صناعة عشان جدك يتكسي؟

دلوقتي فكر في عمال مناجم استخراج المعادن النادرة في قلب أفريقيا، اللي بيشتغلوا تحت تهديد سلاح أمراء الحروب اﻷهلية ومرتزقة الشركات الدولية، اللي بتشحن المعادن دي لعمال مصانع فوكسكون للإلكترونيات في شرق آسيا، اللي عملوا الجهاز اللي بين إيديك وبتقرا عليه السؤال الآتي: فرق إيه بؤس رأسمالية القرن الـ19 عن بؤس رأسمالية اليومين دول؟ مين في كل دول متثبّت بعقد وعنده تأمين صحي؟ مين في كل دول عنده وظيفة ومعاش محترم؟ الرأسمالية اعتمدت تاريخيًا على أنماط الشغل العبودي، سواء كان دائم أو مؤقت (indentured labor)، أكتر مما كانت بتعتمد على الشغل المأجور، واللي التعيين الدائم أقل ما فيه. والحقيقة إن أغلب الكوكب حاليًا بقى بروليتاري أو مُعرض لأنه يصبح بروليتاريًا، ومافيش نقابات تقدر تلم البروليتاريا العالمية بحالها. 

بالتالي زمن الشغلانة الثابتة عمره ما هيرجع، لإن الزمن ده عمره ما حصل من أساسه، أو على الأقل عمره ما حصل بالنسبة لمعظم سكان الكوكب. الحنين لزمن الشغلانة الثابتة مش مرتبط بواقع التجربة التاريخية، وإنما بتشكيل الطبقات اللي اتعوّدت على إنها تحصل على بعض المزايا من إعادة توزيع الموارد الحكومية، من غير ما تمتلك وسائل الإنتاج ولا تضطر لإنها تنضم إلى صفوف البروليتاريا. الطبقات دي بيتقال عليها "الطبقات الوسطى"، لكن المصطلح ده مش دقيق بما يكفي عشان يعبّر عن خيال الشغلانة الثابتة تحديدًا. الخيال ده ناتج عن مجموعة من البشر مستعدة للتحالف مع الدولة والرأسمالية الكبرى عشان تضمن شغلانة مستقرة، علمًا بإن معظم الإنسانية مالهاش شغلانة مستقرة، واحتقارًا للإنسانية دي في بعض الأحيان. يعني الحنين لزمن الشغلانة الثابتة مش نابع من الرغبة في إتاحة حياة كريمة ومتساوية لجميع العمال، وإنما من رغبة لاحتكار توزيع الموارد في صالح طبقة محددة من الإداريين المتعيّنين في الدولة والشركات الكبيرة.

في خيال الطبقة دي، العمل المقلقل عبارة عن فشل فردي، فشل في الحصول على الشهادة والشغلانة والجوازة الصح. بس الشغل باليومية مالوش علاقة بالفشل، وإنما بتنظيم الاقتصاد الرأسمالي نفسه، اللي بيهمّش غالبية العمالة وبيخلّيها دايمًا محتاجة تشتغل عشان تعيد إنتاج نفسها. القرارات اللي الواحد بياخدها في الدراسة والشغل والجواز مش جاية من جوة دماغ الواحد فقط، وإنما بتتاخد حسب بعض العوامل البنيوية زي النوع والعرق والطبقة. العوامل دي بتحجّم طموحات البعض وبتفتح سقف طموحات البعض الآخر، زي طموحات الشخص اللي بيتوقع شغلانة ثابتة وطموحات الشخص اللي ما يقدرش يعيش إلا اليوم بيومه. وإذا كنا عايزين نواجه مشكلة العمل المقلقل، الحل مش إننا نشتغل أحسن وأكثر، ولا إننا نطالب بعودة الـ"زمن الجميل" (اللي عمره ما كان جميل بالنسبة للجميع)، وإنما إننا نغيّر الدولة والاقتصاد الرأسمالي نفسه.