الشُغل
مقال لشهاب الخشاب
خاص بـ Boring Books
يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.
***
إيه شغلانة المُجند؟ إذا اقتنعنا بالكلام الرسمي، هنقول إن المُجند بيخدم الوطن أثناء تجنيده، والخدمة دي مهمة لأنها بتخلِّيه راجل سِيْد الرجالة، والرجولة هي الوطنية والقومية المُشَرِّفة، ولازم الأوامر تتنفذ عشان نعيش في وطن عزيز وكريم. طبعًا مع مرور الزمن مضمون «خدمة الوطن» اتغيَّر، وما بقاش بس إن الشباب يتدرَّب على الحرب عشان نواجه العدو المتوقع، وإنما كمان إن الشباب يساهم في الهوتيلات والبنزينات والنوادي اللي بنوها حماة الوطن، ويشتغل في المصانع والأكشاك اللي بتدعم الشعب بعد رفع الدعم، ودي كمان خدمة بمعنى إن المُجنَّد بيتحول إلى عامل في مجال الخدمات، زي أي شاب شغَّال دليفري أو بيَّاع متجوِّل أو سواق تاكسي.
يعني شغلانة المُجنَّد اتحولت من مجرد التضحية بالروح في سبيل الوطن إلى مجموعة أوسع من خدمات المواطنين، والتحول ده بيرجَّعنا للسؤال الأول: إيه اللي يفرَّق شغلانة المُجندين عن أي نوع تاني من الشغل؟ إذا المُجند اللي بيشتغل في البنزينة الوطنية بيعمل نفس شُغْل العامل اللي بيشتغل في بنزينة توتال، إشمعنى بنسمي واحد منهم «مُجند» والتاني «عامل»؟ في تقديري، التفرقة دي تستدعي مفهومين مختلفين عن طبيعة الشغل في عالمنا الرأسمالي الحالي.
نقدر نربط المفهوم الأول للشغل بالاتجاه البنيوي الوظيفي (structural-functionalist) في علم الاجتماع. الاتجاه ده بيَنظُر للمجتمع في ظاهره، وكأنه مجموعة من المنظومات والمؤسسات المتشابكة في بعضها، وبتعيد إنتاج نفسها عشان تحافظ على استمرار المجتمع ككل. في الرؤية دي، الفروق بين الشغلانات عبارة عن فروق بين الوظائف الرسمية اللي الناس بتأديها في مؤسسات المجتمع. لذلك نقدر نفرَّق بين الجندي والعامل والفلاح، لأن كل واحد منهم بيلعب دور محدد في مؤسسات الجيش والزراعة والصناعة، والدور ده بيحافظ على استمرارية المؤسسات دي في سبيل الله والوطن. إذن المُجند عبارة عن مُجند لأن حياته محكومة بضوابط قانونية وأخلاقية معيَّنة، والضوابط دي هي اللي بتحدد كينونته بحالها جوه المؤسسة العسكرية.
في التفكير البنيوي الوظيفي، الشغل عبارة عن دور في مسرحية الحياة، كل واحد مننا بيأديه بجودة وحرفية مختلفة، وما عندوش قدرة لإنه يغيَّره إلا إذا المؤسسات نفسها اتغيَّرت من فوق أو إذا الواحد غيّر الدور – مثلًا إذا الفلاح راح يشتغل في مصنع وبقى عامل، أو إذا العامل راح الجيش وبقى جندي. الرؤية دي بتتغاضى أولًا عن المجهود الفعلي اللي بتبذله الناس في الشغل، وتفاصيل الشغل اللي بتكوِّن حياتهم اليومية، وبتَعتبر ثانيًا إن الناس ما تقدرش تغيَّر طبيعة الشغل بنفسها، لأن الطبيعة دي من الثوابت الكونية جوه المؤسسات.
المفهوم الثاني عن الشغل نابع من الماركسية الكلاسيكية، وما بيكتفيش بظاهر المؤسسات والوظائف في تعريفه للعمل. المفهوم الماركسي بيربط بين الشغل ودوره في إنتاج القيمة. في كتاب «رأس المال»، ماركس اقترح فرق مهم بين «الشغل الملموس» و«الشغل المُجرَّد». الشغل الملموس عبارة عن المجهود الفعلي العملي اللي بيبذله الإنسان عشان ينتج منتجات بعينها. المجهود ده ممكن يتغيَّر عبر المكان والزمان، لأن مفيش شغلانة بتفضل ثابتة في تفاصيلها، والتغيير ده في الغالب نتيجة الصراع الدائر بين أصحاب الشغل واللي شغالين عندهم. الكتابات اللي بتتحاور مع الماركسية في السنين اللي فاتت بتحلل بعض التغيرات دي في القرن الواحد وعشرين، زي مثلًا شغل بيفو بيراردي (Bifo Berardi) عن العمل الذهني والمجهود اللي بيبذله العامل عشان يظبط مزاجه ويكون مُنتج.
أما الشغل المُجرًّد، فهو إجمالي الوقت المتوسط اللي لازم يقضوه العمال في الشغل عشان ينتجوا مُنتج معيَّن. فمثلًا الشغل المُجرَّد في حالة إنتاج الجمبري هو الوقت المتوسط اللي بياخده جميع عمال خط إنتاج الجمبري، رغم اختلافاتهم الفردية واللحظية، عشان ينتجوا الجمبرياية الواحدة. النوعين من الشغل بينتجوا نوعين من القيمة: أولًا الشغل الملموس بينتج قيمة استعمال المنتج، بما إن التفاصيل الملموسة في الشغل هي اللي بتحدد ملامحه، وبتِظْهِر الفروق بين الجمبري والموز والبنزين مثلًا؛ وثانيًا الشغل المُجرَّد بينتج قيمة مبادلة المُنتج، باعتبار إن المفروض قيمته في السوق تكون بالضبط تَمَن الموارد المادية والبشرية اللي دخلت في صناعته.
طبعاً المستثمر الرأسمالي العاقل اللي بيشتري تَمَن الموارد الأولى لصناعة المنتج وتَمَن العمال اللي بيشتغلوا في الصناعة ما يقدرش يبيع المُنتَج بنفس الأتمان دي، ولازم يحاول يوفّر في تَمَن الموارد أو في تَمَن الشغل عشان يعرف يجيب أرباح. بما إن التوفير في الموارد مش دايمًا متاح، المستثمر ما يقدرش يوفّر في الغالب إلا في عَرَق الناس اللي شغَّالة، وبالتالي الأرباح الزيادة اللي بياخدها على حساب المُنتج هي في الواقع استغلال للمجهود اللي بذلوه العمال في الشغل، لأن المستثمر مضطر يديهم أقل من حقهم في سعر المُنتج عشان يعرف هو يكسب (أو في التعبير الماركسي، عشان يستولى على فائض القيمة).
ماركس ما اخترعش فكرة ارتباط القيمة بالشغل، لأن نفس الفكرة موجودة في أعمال المفكرين الاقتصاديين الأوروبيين الكلاسيكيين زي آدم سميث (Adam Smith) وديڤيد ريكاردو (David Ricardo). ابتكار ماركس كان إن الشغل دايمًا معرض للاستغلال في النظم الرأسمالية سواء في حالته الملموسة أو المُجرًّدة. فمثلاً المفكرين الكلاسيكيين كانوا بيعتبروا إن مرتب أو أجرة العمال عبارة عن تَمَن عادل للشغل بتاعهم، وكل الأرباح اللي بياخدوها المستثمرين هي حقهم الشرعي أمام الله. في المقابل، ماركس كان شايف إن أجر العمال عبارة عن تَمَن الشغل بوصفه سلعة بيتم استهلاكها زي أي سلعة ثانية، والإنسان اللي بيبيع قدرته على الشغل ما يقدرش يتحكم في تَمَنها جوه سوق العمل لأسباب تاريخية متعددة، بتخلّيه دايمًا مُعرَّض لأن أي حد يتعيِّن مكانه من جيوش البشر اللي مش لاقيين شغل.
إيه علاقة الرؤية الماركسية دي بشغلانة المجندين؟ إذا طبَّقنا الفرق بين الشغل الملموس والشغل المُجرَّد على حالة الشاب المُجند المعاصر، نقدر نلاحظ التحوُّل في الشغل الملموس بتاع جزء كبير من المُجندين، لدرجة إن ما عادش فيه فروق كتيرة بين الشغلانات المتاحة للناس اللي شغالة في القطاع العسكري وفي القطاع الخاص. نقدر نشوف كمان إن مفيش فرق كبير في استغلال الشغل المُجرَّد بتاع المجندين، لأنهم شغَّالين زيهم زي العمال التانيين وما بياخدوش من سعر المنتجات اللي بينتجوها أو الخدمات اللي بيقدموها إلا اللي حيلتهم من خير مصر، وهي دي التضحية الحقيقية في سبيل الوطن. وزي ما القطاع الخاص قادر يعتمد على جيوش من الناس اللي ما عندهاش شغل عشان أسعار الأجور تنزل، القطاع العسكري عنده جيش احتياطي من الشباب المجبرين على إنهم يُخشوا ماكينة إنتاج «وطنية».
باختصار، التحليل الماركسي الكلاسيكي ما يقدرش يشرح بنفسه إيه هي شغلانة المجندين، لأن ظاهر الأمور هيفضل إنهم جزء من مؤسسة شغالة بضوابطها وأخلاقها الخاصة، وطبيعة الخدمة اللي بيأدوها عمرها ما هتبقى بس مرتبطة بالإنتاج المادي بتاعهم (حتى في حالة الناس اللي شغَّالة في خط إنتاج الجمبري). شغلانة المجند زي شغلانات ثانية كتيرة مش شرط تكون مرتبطة بالإنتاج المباشر، وإنما يمكن يكون لها طابع الخدمة أو تيسير الحياة اليومية أو المحافظة على الأمن والأمان. رغم كده، الرؤية الماركسية بتوضَّح إن الشغل مش بس دور في مسرحية ولا وظيفة في ماكينة المجتمع. الشغل أولًا عبارة عن مجهود عملي فعلي وتفاصيل يومية ملموسة ممكن تتغيَّر مع الزمن، بعيدًا عن العناوين الوظيفية الرسمية. وثانيًا، الشغل برضه سلعة معروضة للبيع والشراء، وتَمَن السلعة دي بيقع بسبب الوفرة كبيرة للناس اللي لازم تشتغل عشان تاكل عيش، واستيلاء المستثمرين الرأسماليين على الموارد والآليات اللي تقدر تمشي أمور الناس. والفرق بين تَمَن عَرَق الناس وتَمَن إنتاجهم وخدماتهم هو بالفعل تَمَن استغلالهم.