تقليص النمو

مقال لحسين الحاج

المقال خاص بـ Boring Books

يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه.


تخيل عزيزي القارئ إنك عندك سلسلة محلات عصاير زي القبيصي -ملك المانجو والفراولة. بتشتري المانجا من الإسماعيلية وتبيعها عصير وترمي قشرها في صفايح زبالة كبيرة، وبعدين يجيلك صبي دمياطي شغال في فرعك اللي في فيصل ويقولك على طريقة تعمل بيها عصير أكتر وقشر أقل، فأنت تسمع كلامه فتتكلف أقل في شرا المانجا وتبيع العصير أرخص عشان تلم زباين أكتر، وساعتها تلم مكسب أكبر وتفتح فروع أكتر. بس بسرعة تلاقي نفسك بتنتج زبالة أكتر من قشر المانجا، وكمان بتشتري مزارع مانجا عشان توفر شرا المانجا وتوسع اﻹنتاج وتكسب أكتر عشان تعمل عصير مانجا أكتر.

هي دي -عزيزي القارئ- حكاية النمو.

بس بدل قشر المانجا والمحلات، عندنا انبعاثات كربون بتدمر البيئة، ودلوقتي الاقتصاد بعد التطور التكنولوجي بيسمح لنا نطلع طاقة أكتر وأرخص من نفس كمية الوقود اﻷحفوري المعفن، وبالتالي الناس بتزود استهلاكها من الطاقة، ولما بقى أسهل للمصانع تنتج أكتر بوقود أقل، كل السلع هتبقى أرخص، ولما يكون في قدرة الناس تشتري أكتر مفيش سبب تاني هيمنعها، يعني استهلاك أكبر ونفاية أكتر.

الاقتصاديين النيوكلاسيكيين واقعين في التناقض دا، وشايفين إن من خلال تحسين كفاءة اﻹنتاج، نقدر نكمل نمو لانهائي بمخاطر بيئية أقل، بس دا مش حاصل خالص لحد دلوقتي ولا حتى مقرّب إنه يحصل. لحد دلوقتي الانبعاثات الكربونية ما قلتش أبدًا على مستوى العالم رغم كل الوعود البيئية من الدول الكبيرة.

لو كنت فاكر إن النمو الاقتصادي بيقضي على الفقر على المستوى المحلي، فأنا بقولك إنه مش بالضرورة خالص! صحيح الناتج المحلي اﻹجمالي ارتفع بأرقام كبيرة في الخمسين سنة اﻷخيرة، لكن أحوال الطبقات اﻷفقر ما اتحسنتش حقيقي ﻹن مفيش عدالة في توزيع الناتج دا. أومال تفتكر مين اللي بيعمل فلوس لما الدخل القومي يزيد؟ الفقرا بيزدادوا فقر، واﻷغنيا بيزدادوا غنا!

أما بالنسبة للفقر العالمي، فالنمو الاقتصادي واحدة من مسبباته، ﻹن الناتج المحلي اﻹجمالي بيحسب الفلوس المصروفة على المنتجات الجديدة في الاقتصاد، فالطريق اﻷكيد للدول اﻷفقر عشان تحقق النمو إنها تبيع حاجات كانت في اﻷساس مشاعة للناس. فلما المحافظة تخصص الشواطئ العامة للكافيهات عشان الناس تشرب عصير المانجا اللي طالع من محلاتك، دا يعتبر نمو. ولو فكرت إن الناس مش لازم تشرب مانجا على البحر، فكر إن فيه جايحة عالمية بتقضي على البشر وفيه دول بتستغل اﻷزمة عشان تبيع لك رخصة إنتاج لقاح يمنع انتشارها في بلدك، ﻹن كل دا يعتبر نمو برضه.

قضية النمو مش سببها الندرة، ﻷن الشركات الكبيرة بتعدم فائض اﻹنتاج عشان أسعار سلعها ما تنزلش اﻷرض وتقف عليها بخسارة وتحافظ على نفس معدل النمو سنويًا، وبالتالي ممكن مثلاً تدمر كميات كبيرة من القمح واللبن والدرة حتى لو فيه مجاعات في أفريقيا، هنا ماتبقاش اﻷزمة أزمة نمو ﻷن هدر الموارد لحساب المكاسب هو المشكلة، حيث إن الرأسمالية مش بتحط عدالة التوزيع من أولوياتها أصلاً.

الناتج المحلي اﻹجمالي باﻷساس بيقيس التكاليف مش الفوايد، وإحنا ما نقدرش نعكس العملية ونخفض الناتج المحلي اﻹجمالي حيث إن الاقتصادات المؤسسة على النمو إما بتنمو أو بتنهار. أصلاً لو قضيت نص سنة بدون نمو بيتقال عليك عندك ركود. بس اﻷزمة الموجودة بيننا دلوقتي وما حدش راضي يتكلم عليها هي فكرة النمو الدائم، إزاي تقدر تنمو اقتصاديًا في عالم موارده محدودة؟ دا مستحيل حتى تقدر تكمل نمو بنسبة 2-3 % لميت سنة قدام!

عشان كدا فيه اقتصاديين تانيين زي سيرج لاتوش Serge Latouche وتيم جاكسون Tim Jackson بيدافعوا عن فكرة منطقية أكتر بتتكلم على الازدهار الاقتصادي بس بدون نمو، وبيسموها تقليص النمو Degrowth. الفرق بين تراجع النمو وتقليصه إن النمو ممكن يتراجع ﻷسباب خارج إرادة الحكومات والشركات، زي إننا نعدي ذروة إنتاج النفط عالميًا رغم إن الطلب عليه بيزيد، أو إن حركة شحن ونقل البضايع تقف وخطوط اﻹمداد والتموين تتعطل بسبب اﻹغلاق العام في أزمة الكورونا، أما تقليص النمو فهو تراجع مخطط في كل جانب من جوانبه.

تقليص النمو مش قايم على تخفيف معدل استهلاك الناس للمانجا بحرمانهم من المانجا، لكن بدل ما تخفض التكاليف عشان تعلي اﻷرباح وتزود عدد فروع محلاتك، نتأكد إنك بتدفع مرتبات محترمة للعمال اللي بتجيبهم من اﻷقاليم يشتغلوا في فروعك أو إن العمال يبقوا ملاك السلسلة دي كلها في تعاونية كبيرة، اللي هو باختصار إعادة توزيع الدخل والملكية. كمان نتأكد إن المانجا دي بتتزرع زراعة عضوية بدون مبيدات أو أسمدة صناعية، وندي أصحاب الجناين فرصة يزرعوها في مواسمها، يعني التركيز على تحسين نوعية اﻹنتاج.

مش لازم نخترع بدايل بيئية تتلائم مع النمو، لكن ممكن نركز على تحسين جودة الحياة ككل: للبشر والحاجات اللي بيستهلكوها، في كل اﻷحوال مفيش سيناريو جاهز لتقليص النمو. ممكن يكون معناه إننا نحط ضريبة على منتجي الكربون، ممكن نعمل برنامج دخل أساسي معمم لكل الناس عشان نديهم فرصة يشتغلوا حاجات ليها معنى بدل ما يقفوا في محلات العصير يخدموا على العربيات الراكنة قدام الفرع باليومية، فحتى لو كان الاقتصاد بينتج حاجات أقل في العموم، فأنت ممكن تبدأ تقدر اﻷعمال المجانية اللي بتتعمل في الضل من الناحية الاقتصادية وتبدأ تحاسب عليها زي العمل المنزلي وجميع شغلانات الرعاية وإعادة إنتاج العمل الرسمي اليومي. تقليص النمو في مجال زي الزراعة معناه إننا نتخلى عن الزراعة التجارية اللي بتسرق اﻷراضي والموارد من الدول اﻷفقر لصالح الدول الصناعية وبعدين تدمرها باﻹفراط في حراثتها لمحصول تجاري واحد بس، ونستبدلها بالزراعة التجديدية اللي بتجدد التربة الزراعية وبتزود التنوع البيولوجي في اﻷراضي الزراعية وتحسن دورة مياه الري. 

تقليص النمو في النهاية تحول ثقافي عام مش اقتصادي حصري. عقلية النمو-مهما-كانت-التكلفة بتقسم فائض اﻹنتاج ﻹستهلاك فرداني مدمر واستثمار جديد للنمو عشان تحقق فائض أكبر في المرة الجاية، في حين إن اتنين مليار بني آدم على اﻷرض مش عارفين يوصلوا للاحتياجات اﻷساسية. في عالم تقليص النمو، هنشارك الفائض دا عشان نعيش أحسن ونقرا كتب مملة ونشرب مانجا معمولة بيتي.