ما معنى الكوجنيتاريا؟ العمل والرغبة والاكتئاب

مقال لفرانكو «بيفو» براردي

ترجمة: شهاب الخشاب

مراجعة: وليد الخشاب

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه

عن الأصل:

Franco Berardi. 2005. “What Does Cognitariat Mean? Work, Desire and Depression”, tr. Melinda Cooper. Cultural Studies Review, 11 (2): 57-63

فرانكو براردي (بيفو) فيلسوف وناشط سياسي. شارك في إنشاء ريكومبينانت (Rekombinant, www.rekombinant.org)، وهو فضاء افتراضي للتواصل غير الرسمي والنشاط الإعلامي والسياسي، وهو أيضًا مؤلف كتب كثيرة. تجري ترجمة أحدث أعماله إلى الإنجليزية، وهي «الحكيم والمقاتل والتاجر» (Il sapiente, il guerriero, il mercante).


براردي، عن white chapel gallery

حتى نستوعب معنى مفاهيم العمل الذهني والكوجنيتاريا (أي فئة العمال بالذهن)، علينا أن نحلل التحولات التي حدثت في سير العمل، ولكن علينا أيضًا أن نحلل البعد النفسي والرغبوي لمجتمع ما بعد الصناعة وما يحدث فيه. فيما يخص التعريف الاجتماعي للعمل الذهني، فإننا بصدد الجسد والجنسانية والبدنية الفانية واللاوعي. فالكوجنيتاريا هي التجسد الاجتماعي للعمل الذهني. يقترح پيير ليڤي (Pierre Lévy) مفهوم الذكاء الجماعي في أكثر كتبه التي حظيت باحتفاء، وهو «ثقافة الفضاء الالكتروني»[1] Cyberculture. ولكن لا يمكن اختزال الوجود الاجتماعي للعمال الذهنيين في الذكاء. في وجودهم الملموس، الكوجنيتاريون والكوجنيتاريات هم أجساد أيضًا، أي أعصاب تشتد في إجهاد مستمر لتبقى في حالة انتباه، وعيون تتعب من التحديق في شاشة ما. ولا يشمل الذكاء الجماعي الوجود الاجتماعي للأجساد التي تنتج هذا الذكاء ولا يحل إشكاليتها – تلك الأجساد الملموسة للكوجنيتاريين والكوجنيتاريات.

العمل الرقمي والتجريد

ما معنى أن تعمل اليوم؟ أصبح العمل يحمل طبعًا بدنيًا موحدًا: إننا نجلس أمام الشاشة ونحرك أصابعنا على لوحات المفاتيح ونكتب. ولكن أصبحت المحتويات التي يضمها العمل أكثر تنوعًا بكثير في نفس الوقت. يؤدي المعماري ووكيل السفر والمبرمج والمحامي نفس الحركات البدنية، ولكنهم لا يستطيعون استبدال وظائفهم بين بعضهم لأن كلًا منهم يؤدي مهمة موضعية محددة، وهي مهمة لا يمكن شرحها لشخص لم يتتبع مجالهم التعليمي الخاص أو شخص غير مطلع على هذا المحتوى المعرفي المعقد.

 اتصف العمل الميكانيكي الصناعي بخاصيتين، وهي قابلية الاستبدال وعدم الشخصنة. بالتالي فكان يُنظر إلى هذا العمل كشيء خارجي، أي مهمة يتم تأديتها فقط لأن المرء يتلقى منها مرتبًا في المقابل. لقد مثّل العمل التابع بالمرتب خدمة وقت صافية.

 فتحت التكنولوجيات الرقمية أفقًا جديدًا تمامًا للعمل. أولًا، غيَّرت العلاقة بين التصميم والتنفيذ، ثم العلاقة بين محتوى العمل الفكر وتنفيذه اليدوي. يُؤدى العمل اليدوي غالبًا عبر تركيبات ميكانيكية يتم السيطرة عليها أوتوماتيكيًا، بينما يتمركز العمل الابتكاري (والذي ينتج النصيب الأكبر من القيمة) في العمل الذهني. تُحاكى المادة التي يجب تحويلها عبر تسلسلات رقمية. أصبح محتوى العمل ذهنيًا، ولكن حدود العمل الإنتاجي غير مؤكدة في نفس الوقت. أصبح مفهوم الإنتاجية نفسه غير دقيق، فلا يمكن تثبيت العلاقة بين الوقت وكمية القيمة المنتجة إلا بصعوبة، بما أن كل ساعة من ساعات عمل العامل الذهني لا تتساوى إنتاجيتها.

يحتاج المفهوم الماركسي للعمل المجرَّد إلى إعادة تعريف. ما معنى «العمل المجرَّد» في لغة ماركس؟ إنه يعني انتزاع الوقت بدون اهتمام بجودته وبدون علاقة بالفائدة المحددة الملموسة للأشياء التي يخلقها. يميل العمل الصناعي إلى التجريد لأن فائدته الملموسة لا علاقة لها بوظيفته في التقييم الاقتصادي إطلاقًا.

هل يمكننا أن نقول إن هذا الاختزال التدريجي عبر التجريد يستمر في زمن الإنتاج المعلوماتي؟ أجل، بمعنى ما. فبمعنى ما، يمكننا أن نقول بالفعل إن هذا الميل مُضخَّم إلى أقصى درجة، إذ تختفي كل شذرة من المادية الملموسة من عملية الشغل، وتبقى فقط التجريدات الرمزية: البيتات والأرقام وتفاوت المعلومات، وهي موضع فعالية النشاط الإنتاجي. يمكننا أن نقول إن رقمنة سير العمل سوَّت بين كافة أنواع العمل من المنظور البدني أو الإرجونومي[i]. كلنا نفعل نفس الشيء: نجلس أمام شاشة ونضغط على أزرار لوحة المفاتيح، وتحوِّل الماكينات الأوتوماتيكية نشاطنا إلى سيناريو للتلفزيون أو عملية جراحية أو سيارة. لا يوجد فرق من المنظور البدني بين وكيل السفر والفني في مجال البترول والكيمياء وروائي الألغاز أثناء تأديتهم عملهم.

بل في الوقت نفسه، أصبح العمل جزءًا من عملية ذهنية تتضمن إعداد الإشارات (signs) المحمَّلة بالمعرفة. أصبح العمل أكثر تحديدًا وأكثر تخصصًا بكثير. يتموقع المحامي والمعماري وفني الحاسوب وعامل السوبر ماركت أمام نفس الشاشة، ويضغطون كلهم على نفس الأزرار، ولكن لن يستطيع أحد منهم أن يحل محل الآخر، بما أن محتوى نشاطهم الإعدادي غير قابل للترجمة، ويختلف عن النشاط المعتاد بشكل غير قابل للاختزال.

ينشغل العامل الكيميائي وعامل ميكانيكا المعادن في أشغال مختلفة تمامًا من المنظور البدني، ولكن بوسع عامل ميكانيكا المعادن أن يكتسب المعرفة العملية لأداء عمل العامل الكيميائي في بضعة أيام وبالعكس. كلما كان العمل الصناعي مبسّطًا، أصبح قابلًا للاستبدال. أما أمام الحاسوب وفي اتصال مع نفس الماكينة العالمية للإعداد والتواصل، فتؤدي جميع المحطات البشرية نفس الحركات البدنية. لكن كلما أصبح عملهم بسيطًا من المنظور البدني، أصبحت هيئاتهم المعرفية وقدراتهم وخدماتهم أقل قابلية للاستبدال.

يتعامل العمل المُرقمن مع إشارات مجردة تمامًا، ولكن يعد أداؤه -عبر إعادة التركيب- أكثر تحديدًا وأكثر شخصنة، وهكذا تقل قابليته للاستبدال بشكل متزايد. بالتالي يميل العمال في مجال التكنولوجيا الرفيعة إلى النظر لعملهم كأهم وأخص جانب من حياتهم وأكثرها شخصنة – فهذا هو النقيض التام لموقف العامل الصناعي، الذي كانت تمثل بالنسبة له ثماني ساعات العمل نوعًا من الموت المؤقت، ولا يستيقظ منه إلا عندما تدق سارينة إيقاف العمل.

الشركة والرغبة

لا نستطيع أن نفسر كيف أصبحت ظواهر الاستياء من العمل والغياب عنه هامشية تمامًا خلال العشرين سنة الماضية، بينما كانت تلك الظواهر شائعة في نهاية العصر الصناعي، إلا إذا أخذنا كل ما سبق في الاعتبار. توضح الدراسات التي أنجزتها جولييت شور (Juliet Schorr) عن «الأمريكي المُرهَق في العمل» (The Overworked American) أن وقت العمل المتوسط زاد بمعدل كبير في الثمانينيات (بل وأكثر من ذلك في التسعينيات). في 1996، خصص كل عامل في الولايات المتحدة 148 ساعة إضافية للعمل في المتوسط مقارنةً بزميله أو زميلته في 1973. زادت نسبة الناس التي تعمل أكثر من 49 ساعة في الأسبوع من 13% عام 1976 إلى 19% عام 1998 حسب المكتب الأمريكي لإحصائيات العمل (US Bureau of Labor Statistics). أما بالنسبة للمديرين، فزادت النسبة من 40 إلى 50%.[2]

كيف يمكننا أن نفسر تحول العمال من الاستياء إلى الالتزام؟ يمكننا أن نفسره بالتأكيد بالنظر إلى الهزيمة السياسية التي تعرضت إليها الطبقة العاملة بعد نهاية السبعينيات – نتيجة لإعادة البناء التكنولوجية والبطالة الناجمة عنها والقمع العنيف تجاه طلائع الطبقة العاملة. وإنما لا يكفي هذا. حتى نفهم تغيير الموقف النفسي الاجتماعي تجاه العمل تمام الفهم، لا بد أن نضع في الاعتبار تحولًا ثقافيًا حاسمًا يرتبط بإزاحة مركز الجاذبية الاجتماعي من دائرة العمل الصناعي إلى دائرة العمل الذهني.

على عكس العامل الصناعي، ينظر العامل الذهني إلى العمل كأهم جزء من حياته أو حياتها، ولم يعد يعترض على إطالة يوم العمل، ويميل بالفعل إلى إطالة وقت العمل باتفاقه أو اتفاقها الشخصي. ويحدث هذا لأسباب عديدة. في بادئ الأمر، أصبح المجتمع المديني الاجتماعي أقل إثارة للاهتمام تدريجيًا في العقود الأخيرة، وأصبح متقلصًا أسفل غطاء ميت من العلاقات الخالية من الإنسانية والمتعة. تحول الجنس والود تدريجيًا إلى ميكانيزمات موحّدة ومضبوطة، وتم استبدال الحاجة إلى هوية مشبّعة بالتوتر بمتعة الجسد الفريدة تدريجيًا. كما يثبته مايك ديڤيس (Mike Davis) في كتب مثل «مدينة الكوارتز» (City of Quartz) و«إيكولوجيا الخوف» (Ecology of Fear)، تدهورت جودة الحياة من المنظور المشاعري والنفسي نتيجة لخلخلة العلاقات الجماعية وتعقيمها لدواع أمنية.[3]

يبدو أن المرء يفقد المتعة والاطمئنان في العلاقات الإنسانية والحياة اليومية وتواصل المشاعر شيئًا فشيئًا. وإحدى نتائج زوال إيروسية الحياة اليومية هو استثمار الرغبة في العمل، بوصفه المكان الوحيد للتأكيد النرجسي المجدد على الفردية التي اعتادت النظر إلى الآخر وفقًا لقواعد المنافسة، أي بوصفه خطرًا وإفقارًا وحاجزًا، وليس منبعًا للتجربة والمتعة والإثراء.

التأثير الذي استولى على الحياة اليومية في العقود الأخيرة هو تأثير إنهاء التضامن المعمّم. أصبحت ضرورة المنافسة طاغية على العمل والتواصل والثقافة، عبر تحويل ممنهج للآخر إلى منافس وبالتالي إلى عدو. احتل مبدأ الحرب مركزًا مسيطرًا في الحياة الاجتماعية، في كل نواحي الحياة اليومية وفي كل جوانب العلاقات. والأمر الحاسم هو أيضًا التفاقم الشديد لسوء ظروف الحماية الاجتماعية، وهذا تسبب فيه عشرون عامًا من إلغاء ضوابط الاقتصاد وتفكيك بنيات التعاون العام.

كلما خصصنا وقتًا لاقتناء وسائل الاستهلاك، تقلص الوقت المتبقي لنستمتع بالعالم الفعلي. كلما استثمرنا طاقاتنا العصبية لاقتناء قدرة الاقتناء، تقلصت قدرتنا على استثمارها في الاستمتاع. إن مسألة السعادة والتعاسة تدور حول هذه الإشكالية –التي يتجاهلها تمامًا الخطاب الاقتصادي– في مجتمع الرأسمالية الفائقة. حتى نحصل على قدرة اقتصادية أكبر (أموال أكثر، وقروض أكثر)، علينا أن نخصص وقتًا أكثر وأكثر للعمل المُعتمد اجتماعيًا. وإنما يعني هذا أن علينا تقليل وقت الاستمتاع والتجربة؛ أو ببساطة، أن نقلّص الحياة.

تنخفض الثروة كاستمتاع بالتناسب مع نمو الثروة كتراكم اقتصادي لسبب بسيط، وهو أن الوقت العقلي يُخصص للتراكم وليس للاستمتاع. في المقابل، تنمو الثروة كتراكم اقتصادي عندما تتقلص متعة الاستمتاع. ويشارك الاحتمالان في إنتاج نفس التأثير: يتصادف اتساع المجال الاقتصادي مع تقليص المجال الإيروسي. عندما تدخل الأشياء والأجساد والعلامات في نموذج علاماتي للاقتصاد، وتصبح جزءًا منه، لا يمكن أن تتحقق تجربة الثروة إلا عبر التوسيط والتفكير الذاتي والتأجيل. لم تعد الثروة تضم الاستمتاع بوقت الأشياء والأجساد والعلامات، بل تحتوي على إنتاج غيابهم المتسرع والمتفاقم، حيث يتحولون إلى قيمة تبادل وإلى توتر. يمكننا أن نفهم عند هذه النقطة لماذا اكتسب العمل وضعًا مركزيًا في المشاعرية الاجتماعية: فقد دمرت الهجمة الليبرالية الحس الاجتماعي إلى درجة أن العمال أصبحوا مجبرين على قبول الرشوة البدائية – اعملوا كلما أراد المدير وبقدر ما يريد، أو اغرقوا في الفقر. بالإضافة إلى ذلك، فإن إفقار الجانب الاجتماعي وإلغاء إيروسية التجربة جعلا الحياة اليومية تعيسة إلى درجة أن العمل يبدو في النهاية الوضع الوحيد الذي يمكن تقبله. إننا نتصالح مع العمل لأن البقاء الاقتصادي قد أصبح أكثر صعوبة والحياة في المدن الكبرى أصبحت تعيسة إلى درجة أنه يُفضل استبدال المال بها.

متلازمة الهلع الاكتئابي والمنافسة

في كتاب عنوانه «تعب أن تكون ذاتك» (La fatigue d’être soi)، يصف آلان إيرنبيرج (Alain Ehrenberg) الاكتئاب كمرض ذي محتوى اجتماعي قوي، يتصل تحديدًا بموقف يتميز بالتنافسية.

بدأ الاكتئاب في فرض نفسه عندما أفسح النموذج الانضباطي الطريق إلى معايير تحث الجميع على المبادرة الفردية وتحفزهم على أنهم يصبحوا أنفسهم – هذا النموذج الانضباطي لإدارة السلوك وقواعد السلطة واحترام التابوهات أصبح هو الذي يحدد أقدار الطبقات الاجتماعية والأجناس. بسبب تلك المعيارية الجديدة، تركزت المسؤولية عن حياتنا تركزاً كاملًا بداخل كل واحد مننا. بالتالي يظهر الاكتئاب كمرض المسؤولية، حيث يسود إحساس بالقصور. إن المكتئب أو المكتئبة دون المستوى، ومُتعَب أو مُتعَبة من أنهما مضطران لأن يصبحا نفسيهما.[4] يتصل الاكتئاب بشكل حميم بأيديولوجيا تحقيق الذات وضرورة السعادة. فالاكتئاب –في لغة علم النفس المرضي (psychopathology)– هو أيضًا وسيلة لتشخيص نوع من السلوك الذي لم يكن تشخيصه ممكنًا مرضيًا خارج السياق التنافسي الإنتاجي الفردي. بحسب إيرنبيرج:

يواجه الاكتئاب إشكالية قد يسيطر فيها الكبت والتبطيء والأستثينيا[ii] asthenia أكثر من الألم المشاعري، وهذا الشعور الحزين العتيق يتحول إلى حاجز أمام الفعل في سياق تصبح فيه المبادرة الفردية هي مقياس الشخص.[5]

تتضمن التنافسية إثارة للنرجسية ذات المخاطرة العالية لأن المتنافسين بالطبع كثيرون والمصطفين قلائل في السياق التنافسي (مثل سياق الاقتصاد الرأسمالي في العموم، ولكن بشكل أكثر تفاقمًا، مثل سياق الاقتصاد الجديد بالأخص). في المقابل، لا يعترف العرف الاجتماعي باحتمال الفشل، ويتم تعريفه باعتبار أنه فئة من الأمراض النفسية. ليس هناك تنافس دون هزيمة ولا فشل، ولكن لا يمكن أن يعترف العرف الاجتماعي بأن الفشل أمر عادي بدون أن يشكك في أساسه الأيديولوجي وفي كفاءته الاقتصادية.

 إن استخدام المواد المُنبِّهة أو المضادة للاكتئاب هو بالطبع الوجه الآخر للاقتصاد الجديد. كم من عمال الاقتصاد الجديد يبقون على قيد الحياة بدون البروزاك والزولوفت والكوكايين؟ إن الاعتياد على المواد المؤثرة، بما في ذلك تلك التي يمكن شراؤها من الصيدلية وتلك التي يمكن شراؤها من السوق السوداء، هو عنصر بنيوي في اقتصاد المرض النفسي. عندما تتحول الضرورة النفسية الأساسية للتفاعل الاجتماعي إلى تنافس اقتصادي، تظهر ظروف الاكتئاب الجماهيري. وهذا بالفعل ما يحدث أمام عيوننا.

يلاحظ علماء النفس الاجتماعيون أن الهلع والاكتئاب أصبحا مزمنين خلال العقود الأخيرة. يعد الهلع (panic) متلازمة لا يعرف علماء النفس عنها الكثير، فيبدو أن هذا النوع من الأزمات كان نادرًا في الماضي. لم يتم تشخيص متلازمة الهلع بوصفها ظاهرة محددة إلا منذ قريب، ولا يتم التعرف على أسبابها البدنية والنفسية إلا بصعوبة شديدة، ولا يتم تحديد علاج مناسب لهذه المتلازمة إلا بصعوبة أشد. لا أزعم أنني أبدي شرحًا –ناهيك عن علاج– للمشكلة المرضية التي تتمثل في تلك المتلازمة. إنني ألتزم بحدود بعض الأفكار عما يعنيه الهلع، فهو الشعور الذي نختبره عندما نشعر بأننا مغمورون في مواجهة مع لانهائية الطبيعة، ولا نستطيع أن نتقبل في وعينا أطياف المثيرات اللانهائية التي يحفزها العالم بداخلنا. يأتي أصل الكلمة في الواقع من الكلمة اليونانية التي تعني «كل شيء في الوجود» (pan)، والإله بنفس هذا الاسم (پان) كان يجعل حضوره محسوسًا كحامل لجنون رهيب، كما كتب جيمس هيلمان (James Hillman) في «مقال عن پان».[6] أما في السياق الاجتماعي للمجتمع التنافسي، حيث يتم تعبئة كل الجهود في سبيل السيادة، وفي السياق التكنولوجي لإيقاعات الماكينة العالمية المتسارعة دومًا، يصبح الهلع أثرًا اجتماعيًا لتوسع الفضاء الإلكتروني الدائم بالنسبة إلى قدرات أداء المخ الفردي المحدودة وإلى الوقت الإلكتروني.

إن الاتساع اللانهائي للفضاء المعلوماتي يتخطى قدرات أداء الجسم الإنساني، كما تتخطى الطبيعة الرهيبة قدرات الرجل اليوناني المشاعرية عندما يظهر الإله پان على الأفق. إن سرعة توسع الفضاء الإلكتروني اللانهائية وسرعة التعرُض للإشارات التي تبدو ضرورية للبقاء على قيد الحياة تعرِّض الجسم لتوتر إدراكي وعقلي ونفسي يتصاعد بخطورة عبر تسارع جميع الوظائف الحيوية، أي التنفس ونبضات القلب، حتى نقطة الانهيار.

 إذن فما هو على المحك هنا ليس تشخيص المرض النفسي الفردي، وإنما التجلي الفردي لتشخيص مرض نفسي اجتماعي شائع.


[1] Pierre Lévy, Cyberculture, trans. Robert Bononno, University of Minnesota Press, Minneapolis, 2001.

Juliet Schorr, The Overworked American: The Unexpected Decline of Leisure, Basic Books, New York, 1991. [2]

[3] Mike Davies, City of Quartz : Excavating the Future in Los Angeles, Verso, London, 1990; Ecology of Fear: Los Angeles and the Imagination, Metropolitan Books, New York, 1998.

[4] Alain Ehrenberg, La Fatigue d’être soi, Odile Jacob, Paris, 1998, p. 10

[5] Ehrenberg, p. 18

[6] James Hillman, ‘An Essay on Pan: Serving as a Psychological Introduction to Roscher’s Ephialtes’, in Wilhelm Roscher, Pan and the Nightmare, Spring Publications, New York, 1972.


[i] الإرجونوميا هو علم يختص بتوفير أفضل سبل للعمل الإنساني، ويشير الكاتب تحديدًا إلى توحيد نمط العمل حول الحاسوب والمكتب والكرسي في وضع يوفر أفضل سبل للعمل الذهني. (المترجم)

[ii] Asthenia  التعبير اليوناني الذي يشير إلى الضعف المرضي والتعب البدني العام. (المترجم)