العمل المنزلي

مقال لشهاب الخشاب

المقال خاص بـ Boring Books

يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه.


الرأسمالية تعتمد أيضًا على العمل المنزلي، ملصق لجماعة See Red Women's Workshop

ما لك يا ماما تعبانة؟ كل يوم الساعة 4 تقريبًا، كنت برجع من المدرسة وأحط شنطتي في أوضتي، وأروح أتفرج على التلفزيون أو أبص على النت أو أحضّر أكلة سريعة قبل العشاء. ساعات كنت برجع وألاقي البيت فاضي، عشان أبويا وأمي كانوا لسة شغّالين في الجامعة. وساعات كنت أرجع ألاقيهم نايمين من كتر ما كانوا تعبانين. وساعات كنت أرجع ألاقي أمي بتحضَّر الأكل أو بتنضف البيت أو بتساعد أخويا الصغير في حاجة. أبويا كان بيشارك معاها في الأمور دي طبعًا، بس أمي زي معظم الأمهات كانت متولية مسؤولية البيت بشكل أساسي.

 آخر اليوم، كنت ساعات أشوف أمي وهي قاعدة على الكنبة وشكلها مرهقة، وكنت أقعد أسألها «ما لك يا ماما تعبانة؟» وكانت غالبًا بترد رد بسيط – «مفيش...» – وتبتسم ابتسامة حنونة عشان تطمنني، وأنا أنسى الموضوع وأرجع أسأل نفس السؤال كل كام يوم. مع الوقت، بدأت أدرك إن تعب أمي مالوش علاقة بيها بشكل فردي، وإنما إنه تعب بنيوي، تعب مترسخ في بنية اليوم العادي في أي مجتمع رأسمالي ذكوري. التعب ده نتيجة إن الستات بقت بتشتغل وردية في شغلانة ما بالنهار، وبعدين تشتغل «وردية تانية» في البيت بالليل حسب تعبير عالمة الاجتماع أرلي هوخشايلد (Arlie Hochschild). إذن عشان نفهم تعب أمهاتنا، لازم الأول نفهم ماهية العمل المنزلي.

رغم تغيير تقسيمات العمل المنزلي بين الرجالة والستات في بعض المجتمعات أو بعض الفئات الاجتماعية، الافتراض الضمني في الغالبية العظمى من العالم إن شغل البيت هو شغل الستات، وإن الرجالة مجرَّد «بيساعدوا» أو «بيساهموا» مع الستات في الشغل ده. بالتالي تقسيم العمل المنزلي مش بس بيقع في إيد الستات معظم الوقت، وإنما مسؤولية التفكير والتخطيط والتدبير للأمور المنزلية بتقع غالبًا فوق دماغهم. التوقعات دي بقت واضحة جدًا بعد الحجر الصحي في زمن الكورونا: أول ما الولاد ما بقوش يروحوا المدارس، وأول ما الناس بقت مضطرة تقعد في بيوتها أوقات أطول وأطول، وأول ما شغل البيت زاد فجأة بسبب الحجر، المسؤولية الإضافية دي وقعت مباشرةً وبلا تردد على عاتق الأم والأخت والحفيدة.

في التيارات النسوية اليسارية الغربية، ظهرت مجموعة نقاشات حوالين طبيعة وجدوى العمل المنزلي في نهاية الستينات وبداية السبعينات. في مقال عنوانه «الاقتصاد السياسي لتحرر المرأة» (The Political Economy of Women’s Liberation)، المفكرة مارجريت بنستون (Margaret Benston) لاحظت إن النظريات الماركسية السائدة عن الشغل بتتجاهل دور الستات في تحليل الاقتصاد الرأسمالي العام. النظريات دي كانت بتركِّز في شغل المصانع والمكاتب بشكل رئيسي، اللي هو شغل الرجالة تاريخيًا، وكذلك كانت بتعتبر إن الاستغلال الرأسمالي بيتم بشكل طبقي بحت، وبالتالي المرأة العاملة زيها زي الرجل العامل، والمرأة البرجوازية زيها زي الرجل البرجوازي.

بنستون اعترضت على التحليل ده لأنه ما بياخدش في الاعتبار العمل المنزلي وتربية الأطفال، يعني الغالبية العظمى من شغل الستات في بيوتهم. في التصورات الشائعة عن العمل المنزلي، الشغل ده مالوش نفس قيمة الشغل في المصانع والمكاتب لأنه ما بينتجش أرباح ولا بيحصَّل أجور. الشغل «بجد» هو شغل الرجالة المأجور، هو نوع الشغل اللي «بيفتح بيوت»، بينما الطبيخ والمكوى والمسح والكنس والغسيل والتربية مالهمش نفس القيمة بوصفهم «شغل الستات». طبعًا التصور ده بيتغاضى عن الدور الجذري للعمل المنزلي في إعادة إنتاج القوى العاملة. لولا شغل الطبيخ والغسيل والرعاية وحتى الولادة اللي الستات بتقدمه ببلاش، عمّال المصانع والمكاتب ما كانوش يقدروا يشتغلوا كل يوم الصبح.

 المفكرة مارياروزا داللا كوستا (Mariarosa Dalla Costa) طوّرت تحليل مفهوم «شغل الستات» في مقال عنوانه «النساء والانقلاب الاجتماعي» (Donne e sovversione sociale). بما إن رأس المال بيعتمد على الأسرة عشان يعيد إنتاج العمالة بأقل تكاليف، دور الست بقى مقتصر على خدمة الرجل العامل وتربية أولاده، وده في سبيل خدمة عجلة الإنتاج عبر تحضير الرجالة للشغل كل يوم وإنجاب القوى العاملة المستقبلية. لذلك بتترسَّخ بعض التصورات الشائعة عن الستات «الضعيفة» أو «الحساسة»، اللي ما تقدرش تقوم بشغل المجال العام، وإنما تقدر تقوم بالتنظيف والطبيخ والتربية ببلاش وبلا حد – عكس شغل الرجالة اللي وقته وسعره متحددين.

انطلاقًا من التحليل ده، داللا كوستا شاركت مع مفكرات ومناضلات زي سلمى جيمس (Selma James) وسيلفيا فيديريتشي (Silvia Federici) في تأسيس حركة نسوية عالمية اسمها «الأجور مقابل الأعمال المنزلية» (Wages for Housework). زي ما فيديريتشي بتشرح في مقال باسم الحركة، هدفهم ما كانش بس إن الستات اللي شغَّالة في بيوتها تحصل على أجور مقابل شغلها، وإنما إن يكون فيه اعتراف مادي ومعنوي بإن شغل البيت عبارة عن شغل، زيه زي الشغل المأجور. الغرض الأهم كان إن الستات تخلق وسيلة مباشرة للتفاوض على شروط العمل المنزلي، والوسيلة دي كانت تحويل العمل المنزلي إلى عمل مأجور. وعلى المدى الطويل، الأمل كان إنهم يتفاوضوا على مسلمات تنظيم العمل المنزلي بشكل جديد تمامًا. بس مبدئيًا بدل ما تطلع روح الستات في البيوت ببلاش، الست تاخد حقها من دورها في إعادة إنتاج رأس المال، زي ما الرجل بياخد حقه من الإنتاج المباشر.

المفكرة أنجيلا ديڤيس (Angela Davis) انتقدت نظريات داللا كوستا وفيديريتشي في مقال عنوانه «التقادُم المقبل للعمل المنزلي» (The Approaching Obsolescence of Housework). اعتراض ديڤيس الرئيسي كان إن شغل البيت شاق وكادح في جوهره، وبالتالي الست اللي شغّالة في البيت طول اليوم مش عايزة تاخد أجر مقابل الشغل الكادح ده، وإنما عايزة تهرب منه بأي طريقة، إن لم يكن في شغلانة شاقة بره البيت. ديڤيس بتضيف إن العاملات اللي كانت شغّالة في بيوت الطبقات الراقية (وهمَّا ستات أفرو أمريكيات تاريخيًا، ومهاجرات من آسيا أو أمريكا اللاتينية حاليًا) بتمثل أدنى فئات القوى العاملة في أمريكا. بالتالي، دفع الأجور لستات البيت التانيين مش هيلغي الاستغلال البنيوي في العمل المنزلي، وإنما هيعمّمه على كل الستات بدل ما هو متركز في الفئات اللي امتهنت العمل المنزلي.

عكس داللا كوستا وفيديريتشي، اللي كانوا بيفرَّقوا باختصار بين مرحلة الرأسمالية ومرحلة ما قبل الرأسمالية، ديڤيس لاحظت إن شغل البيت – زي أي نوع من الشغل – له أنماط مختلفة حسب الزمن والمكان. ديڤيس بتشير مثلًا إلى إن تقسيم العمل بين الرجل والست في المجتمعات الترحالية مش نفس تقسيم العمل اللي كان موجود قبل القرن الـ19 في الولايات المتحدة. وفي رأيها، تحقير العمل المنزلي في أمريكا ظهر مع بدايات الاقتصاد الصناعي، لما المستلزمات المنزلية اللي الستات كانوا مضطرين ينتجوها في بيوتهم وأراضيهم بقت بتتصنَّع وتتباع في الأسواق التجارية، وبقى دور الست المحترمة يقتصر على الطبيخ والتنظيف والتربية لصالح الرجل اللي بيجيب أجر كافي عشان يشتري منه احتياجات البيت. وطبعًا الوضع ده اتغير تاني مع دخول الستات في المصانع والمكاتب بعد الحرب العالمية التانية، وتعميم ظاهرة «الوردية التانية» على وجه التحديد.

الاختلاف بين ديڤيس وداللا كوستا اختلاف تكتيكي ومش منهجي. الاتنين بينطلقوا من تحليل مادي وتاريخي لدور العمل المنزلي في إعادة إنتاج الاقتصاد الرأسمالي، ومشاركة الستات المباشرة وغير المباشرة في إنتاج القيمة. لكن بعيدًا عن المطلب المباشر للأجور مقابل شغل البيت، ديڤيس (ومعاها مفكرات تانية زي بنستون) كانوا شايفين إن أفضل وسيلة لتحرر المرأة هي الانضمام لصفوف العمل في المجال العام، اللي بيفتح فرصة المشاركة في التنظيمات العمالية ومكافحة الاستغلال الرأسمالي من خلالها، بما في ذلك الاستغلال في البيت. ديڤيس كان عندها أمل في تأسيس نظام اشتراكي للعمل المنزلي، بيتكوِّن من فرق محلية بتمتهن الطبيخ والتنظيف والمكوة زيها زي فرق المرافق العامة مثلًا، وتنظم العمل المنزلي على مستوى المجتمع بحاله وفي صالح الطبقات العاملة بالأخص. ديڤيس كانت واعية إن المشروع ده مش ممكن يتحقق في مجتمع رأسمالي ذكوري، بما إن شركات النظافة والرعاية بتبيع خدماتها للفئات الاجتماعية اللي تقدر تكسّبهم فقط، وشغل البيت عند العمَّال مش هيجيب همُّه بما إن النظام الأبوي القائم بيقدم نفس الخدمة ببلاش على حساب الستات.

 في نهاية الأمر، لا مشروع ديڤيس ولا مشروع «الأجور مقابل الأعمال المنزلية» نجح. الفشل التكتيكي للحركات دي ما يعنيش إن تحليلاتهم النظرية للعلاقة بين العمل المنزلي والرأسمالية ما كانتش مفيدة، بما إن معضلة «الوردية التانية» ما زالت موجودة، والتصورات عن «شغل الستات» في البيوت ما زالت شائعة، والتعب نفسه ما زال موجود، وما بيتوزعش بشكل متساوي بين الرجل والست. وطالما ما قدرناش نفهم قيمة العمل المنزلي كعمل، عمرنا ما هنقدر نفهم ليه ماما تعبانة.