موسوعة الملل | المشاعة

مقال لحسين الحاج

المقال خاص بـ Boring Books

يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه.


كل الناس فاكرة إن زمان، لما كانوا يحبوا يروحوا البحر، كان البحر مفتوح للناس من غير أسوار ولا تذاكر لدخول الشواطئ. مجرد ما بتفرش ملاية وعليها الفوط على الرملة وتقضي وقتك أنت وأهلك زي ما تحب. زمان البحر كان مُشاع لكل الناس. طبعًا كان دايمًا فيه شواطئ خاصة لشركات وفنادق، لكن في النهاية نسبة المتخصص بالنسبة للمشاع ما كانش يُذكر. زمان الناس كانت بتقدر تتمشى أو تقعد على الرمل لأنه جزء من الاستمتاع بالطبيعة الساحلية. دلوقتي في إسكندرية وقرى الساحل الشمالي مثلًا، أمن الشواطئ بيمنعوا ده، حتى لو الشاطئ عام وانتي مش جاية بكرسي وشمسية ومش جاية للسباحة، بس عايزة تدخلي تتمشي على الشاطئ زي ما كل الناس بتحب التمشية على البحر.

بالنسبة لعموم الناس، مفيش غير نوعين من الملكية: ملكية عامة بتديرها الحكومة باسم الدولة، وملكية خاصة ﻷفراد (حقيقيين أو اعتباريين زي الشركات). سهل جدًا إننا نفهم الحكمة ورا الاختزالية دي لسببين: اﻷول إن في عالمنا النهاردا، نسبة اﻷراضي المباحة اللي مش بتخضع لسلطة أي دولة تكاد لا تُذكر إلا على سبيل الطرافة، والتاني إن الفرق بين الملكية الشخصية والملكية الخاصة هو فرق القدرة على استخراج قيمة مادية من الملكية الخاصة، ودا فرق نابع عن العرف والمنطق أكتر منه عن قانون، زي ما الهدايا ليها قيمة اجتماعية عند هاديها بتضيق على المهدي إليه حرية التصرف فيها إلا بإذن من الهادي، أو زي إنه مش منطقي تأجر أو تبيع شيء شخصي بتستخدمه طول الوقت إلا لو الفلوس زنقاك بجد.

بس المشاعات مش ملكيات، المشاعات هي طريقة للتمتع بأي مورد مشترك بين الناس بصورة مستدامة وبدون الاعتماد على ضوابط الدولة أو قوى السوق. أغلب الاقتصاديين بيتخيلوا إن دا مستحيل، وبيقولوا إن الناس هتدمر أي مشاع باﻹفراط في استهلاكه، فمثلًا الشواطئ المجانية هتتملي بالزبالة من كل نوع وكمان تلوث البحر اللي بتشترك فيه شواطئ تانية. الفكرة اللي بتقول إن الناس عاجزة عن إدارة أي مورد مشترك للصالح العام بدون تأميم الدولة أو خصخصة السوق اسمها "مأساة المشاعات".

"مأساة المشاعات" هو تعبير صكه عالم البيئة اﻷمريكي جاريت هاردن Garrett Hardin لما نشر مقال في مجلة ساينس العلمية بنفس الاسم سنة 1968. هاردن وصف خطر استنزاف الموارد الطبيعية المحدودة لو اتسابت مفتوحة لكل المستهلكين عن طريق ضرب المثل بمجموعة من رعاة البقر سايبين مواشيهم بتحش في نجيلة المراعي المفتوحة. لو كل راعي حريص على إنه يكتر من بهايمه عشان يكبر ثروته الحيوانية، ولكن بهايمه بتاكل من نفس المراعي كل يوم، هتكون النتيجة إن المراعي تبور ومش هيفضل أي مرعى عشان البهايم تاكل منه بعد كدا وهتموت. هاردن كان يقصد إن اﻹفراط في استغلال المشاع بيوصل على المدى البعيد لتدميره تمامًا.

في واقع اﻷمر إن الزيادة السكانية كانت بؤرة تركيز هاردن، وهو ما كانش بيعمل حاجة أكتر من إنه يعيد تقديم النظرية المالتوسية اللي قدمها القس والاقتصادي اﻹنجليزي توماس مالتوس Thomas Malthus سنة 1798 في كتابه "بحث في مبدأ السكان". مالتوس بيقول إن كل وفرة في الغذا واﻷكل بتسبب تحسن في مستوى الحياة واللي راح تدفع الناس إنها تخلف أكتر تحت تأثير وهم النعمة اللي طرأت عليهم، وبالتالي يحصل انفجار في عدد السكان. لكن عمر ما وفرة اﻷكل والغذا هتقدر تواكب سرعة النمو السكاني وبالتالي التحسن دا هيبقى مؤقت وتبدأ تحصل مجاعات والناس تموت. 

الفرق بين مالتوس وهاردن هو إن مالتوس عبّر عن مشكلته مع الانفجار السكاني بشكل مباشر، لكن هاردن ضرب مثال من خياله. لكن دا ما كانش الفرق الوحيد. الحقيقة إن لا مالتوس كان عنده بيانات حقيقية عن النمو السكاني، ولا هاردن كان عنده بيانات حقيقية عن استخدام المشاعات. إلا إن أبحاثهم كان ليها دور في الدواير الاقتصادية والسياسية الرجعية والمحافظة في التبرير للداروينية الاجتماعية -اللي مبدأها "البقاء للأصلح"- وتأييد النظام الرأسمالي والخصخصة على وجه التحديد. 

المثال اللي ضربه هاردن كان فيه مشكلة قاتلة كشفتها عالمة السياسة اﻷمريكية إلينور أوستروم Elinor Ostrom لما قالت إن هاردن اتخيل أصحاب المواشي دول على إنهم مجرد أفراد مش بيتكلموا مع بعض ولا بيتوافقوا على حلول مشتركة، واﻷسوأ إنهم خاضعين تمامًا لعملية تدمير مراعيهم بدون رجعة، وكل واحد فيهم سايب بهايمه تاكل قد ما تاكل ولا هامه غير مصلحته الشخصية وبس، ﻹنه افترض إن الناس عجزة ولازم يكون فيه حكومة بتدير مواردهم بدالهم أو بتخصخص الموارد دي ﻷفراد معنيين (سواء كانوا حقيقيين أو اعتباريين) عن طريق طرحها في اﻷسواق. المهم إن لازم يكون فيه سلطة ما فوق الناس تمنعهم من تدمير المراعي، وكأن السلطة دي من عينة ناس مختلفة عنهم! بس في النهاية أصحاب المواشي وموظفين الحكومة وملاك اﻷراضي كلهم ناس من لحم ودم!

إلينور أوستروم كانت أول ست تاخد جايزة نوبل في الاقتصاد في 2009 لأنها قدرت تثبت بالوقائع والبيانات كدب فرضية هاردن. في أغلب الحالات اللي درستها أوستورم، لقت إن المنتفعين الحقيقيين من المشاعات قدروا ينظموا قواعد ويلاقوا حلول ما بينهم تمنع كارثة تدميرها، وإن ممكن تدخُّل الحكومات ورأس المال يكون هو السبب الحقيقي في تدميرها. فمثلًا شعب الماساي في شرق أفريقيا كان عندهم نظام في تربية مواشيهم لقرون طويلة عن طريق التنقل كل فترة بين المراعي في مساحات واسعة قوي، بحيث إنهم يدوا وقت للمراعي اللي عدوا عليها قبل كدا إنها تكبر وتزيد من تاني. لما الاستعمار اﻹنجليزي جه واحتل المنطقة بالكامل، وزع أراضي كتيرة على المستوطنين المزارعين. وبعدين جت الحكومة الكينية بعد الاستقلال ووزعت هي كمان شوية أراضي على مواطنيها، وما فضلش للقبيلة غير شوية بقع بسيطة ما كانتش كافية إنهم يحافظوا بيها على تربية مواشيهم، فاضطروا هما كمان إنهم يشتروا اﻷراضي اللي كانوا بيرعوا فيها عشان الدولة ما تديهاش لحد غيرهم، وعملوا اتفاقات ما بينهم وبين بعض تحافظ على تقاليدهم في تربية المواشي، وبالتالي لقيوا طريقة يتأقلموا بيها مع التحديات الصعبة اللي حطتها قدامهم الحكومات الاستعمارية والوطنية على السواء.

لو إن حياتنا كلها معتمدة على الموارد اللي حوالينا، فالموارد دي المفروض تكفي كل واحد فينا. لكن العالم اللي عايشين فيه مختلف، ﻹن الطبيعة بتتطوق بأسوار، والمساحات الاجتماعية بتخصخص، وطرق التعليم بتتسلع، وحرية المعلومات بتتقفل بالاحتكار. الاقتصاديين بيقولوا "هي دي حقوق الاستخدام"، بس السبب ورا كل دا بسيط. اللي يعرف يسلَّع حاجة يقدر بعد كدا يخليها نادرة، واللي يعرف يخلق الندرة قادر يطلع منها ثروة كبيرة لنفسه على حساب الغير. وكل دا يبان معقول، ﻹن اﻷسطورة بتقول إن اللي يسيب أي حاجة مشاع للناس بيحكم عليها بالقضا المستعجل. لكن الاقتصادي ديفيد بوليار David Bollier بيقول إنه مش مفروض نعامل المشاعات على إنها "حاجة" منفصلة عننا، لكنها عملية بتضم كل واحد في المجتمع عشان يشاركوها مع بعض ويوزعوا منافعها بينهم. الناس بتخلق المشاعات كل يوم وبتحافظ على وجودها عن طريق التوافق حوالين أفضل الطرق في إدارتها وتوفير البنية التحتية لاستمرارها جيل بعد جيل، يعني مفيش مشاعة من غير "مشيعة" commoning. وفي رأيه كل شيء قابل للمشيعة*، من أول صيد السمك، للبحر اللي السمك بيعيش فيه، للشط اللي الناس بتروح له تاكل سمك وتعوم في البحر.


* مصادر أكتر عن المشاعات هنا