الرعاية

مقال لشهاب الخشاب

المقال خاص بـ Boring Books

يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.


هل النمو الاقتصادي بيأكِّل عيش؟ إحساس الواحد تجاه السؤال ده بيختلف حسب خبرته الحياتية. في المجالات المزدهرة اقتصاديًا، الناس بتحس إن حركة التجارة رايحة وجاية، وإن البضاعة شغَّالة والفلوس دايرة، وبالتالي النمو الاقتصادي حاجة كويسة ومفيدة، حتى لو مش كل الناس بتستفيد بنفس الدرجة. في المقابل، في المجالات اللي مالهاش نفس الحظ من التجارة والشغل والفلوس، الناس بتحس إن النمو ده كذب وأي كلام، وإن الشغل مش جايب همّه، وإن الناس التانية بتكسب ملايين وهمّا يا دوب بيجيبوا لقمة العيش.

بعيدًا عن الإحساس ده، فيه نوعية من البشر بتعتبر إن النمو الاقتصادي مالوش علاقة بمكاسب وخساير الناس الحقيقيين، وكأن النمو عبارة عن إله لازم نعبده عشان الدنيا تبقى فيها بركة. النوعية دي موجودة في جميع أنحاء العالم، وبيبقوا غالبًا رجالة في نصف عمرهم، وغالبًا متعلمين بتوع مدارس، وغالبًا بيلبسوا بدل وكرافتات وشرابات حرير، وغالبًا بيتكلموا لغة الوقائع والأرقام، وبيجوا على الهوا في جميع القنوات التلفزيونية ويقولوا: «المؤشرات كويسة، والنمو جاي، وكلنا هنستفيد... استحملوا معانا شوية...».

في الخمسين سنة اللي فاتوا، سواء كان في وقت السادات أو مبارك أو بعد الثورة، ياما الخبراء اللي بيعبدوا النمو الاقتصادي طلعوا في التلفزيونات المصرية وكرروا نفس الكلام، وكأن مشاكل البلد كلها هتتحل إذا صبرنا شوية ومسكنا إيد بعض وسيبنا عجلة الاقتصاد تشتغل. وفي الكام سنة اللي فاتوا – أخيرًا – اتحققت كل أحلامهم وأمنياتهم، والنمو الاقتصادي المصري رجع إلى معدلات كويسة جدًا، والسوق اشتغل، وأكيد الأرقام ما بتكدبش. واللي مش حاسس بالنمو لازم يصبر عشان هيفرح كمان شوية، واللي هيقف في طريق النمو يبقى خطر على مستقبل مصر.

الخبراء اللي بيتكلموا ليل ونهار عن النمو الاقتصادي لهم رؤية محدودة للاقتصاد وأهميته. في وجهة نظرهم، لما الشركات والمتاجر والبنوك بتحقق أرباح كويسة، وتقدر تضُخ حجم استثمارات أكبر وأكبر في البلد، الدنيا كلها ربيع والجو بديع، والناس هتشتغل والفلوس هتدور والسعادة هتحوم بين مصر وأبنائها. طبعًا الفلوس دي ما بتتوزّعش بشكل عادل بين أصحاب الشغل والناس اللي شغّالة والناس اللي مش لاقية شغل. طبيعة الربح الرأسمالي قايمة على استغلال مجهود البشر وإبقاء جزء كبير منهم كعمالة هامشية، عشان أصحاب الشغل يستخرجوا أكبر قيمة ممكنة من عرقهم بالنسبة للي بيدفعوه في أجورهم (اللي هو «فائض القيمة» بالمعنى الماركسي). بالتالي اللي عنده شغل عمره ما هيحس بالنمو الاقتصادي زي اللي عنده مصنع، واللي مش لاقي شغل خالص مش هيحس بالنمو من أساسه.

رغم الاختلاف الجذري في رؤية الخبراء المؤيدين والمعارضين للنظام الرأسمالي، الإتنين بيشتركوا غالبًا في نقطة (ذكورية) مهمة، وهي إن الاقتصاد عبارة عن ساحة محدودة بين الإنتاج والاستهلاك؛ بين استثمار رجل الأعمال اللي بيشتري مصانع ومَكَن وعمّال، والأرباح اللي ممكن يحققها لما الناس تشتري اللي بيبيعه. التصور ده بيوازي بين السوق والاقتصاد، وأي حاجة خارج الإنتاج والاستهلاك في السوق مالهاش قيمة ولا وجود اقتصادي. بالتالي أي نوع من الشغل بره دايرة الإنتاج والاستهلاك ما تقدرش تنتج قيمة بنفس الشكل، بما في ذلك شغل البيت وشغل الرعاية، اللي كان طول عمره غالبًا شغل الستات.

الافتراض الضيق ده بينعكس في المؤشرات الاقتصادية اللي الخبراء بيستخدموها عشان يستشرفوا مستقبل الاقتصاد. في كتاب عنوانه «ألا تعول على شيء» (Counting for Nothing)، الاقتصادية النسوية مارلين ويرينج (Marilyn Waring) شرحت إزاي المؤشرات المستخدمة في تقييم الاقتصاد القومي (زي الناتج المحلي الإجمالي والناتج القومي الإجمالي مثلًا) ما بتاخدش في الاعتبار الموارد الطبيعية المُستهلكة في عملية الإنتاج، وما بتاخدش في الاعتبار شغل البيت والرعاية اللي بيتعمل برة السوق. يعني المؤشرات الرسمية بتقيّم «الاقتصاد» وكأن الشجر والقمح اللي بيتحول إلى خشب وعيش متاحين طول عمرهم، ومش محتاجين وقت ولا مجهود عشان يتزرعوا ويكبروا. كذلك المؤشرات دي بتتعامل وكأن العمّال بيصحوا الصبح شغّالين في المصانع وبيقضوا لياليهم في المولات والكافيهات، وكل التنضيف والطبيخ وتربية الولاد ورعاية المسنين والمرض مالهمش أي لازمة؛ وكأن الرجالة بياكلوا عيش أول ما ياخدوا أجرهم وأرباحهم، ومش لما الستات تأكّلهم عيش من إيديهم في البيت.

طبعًا في مجرى الحياة اليومية، شغل الرعاية أساسي في إعادة إنتاج القوى العاملة اللي بيستغلوها أصحاب الشغل. عجلة الإنتاج والاستهلاك مش ممكن تستمر لولا إن الولاد بيتربوا وبيروحوا المدارس وبيتعالجوا عشان يبقوا عمّال زي الفل ومُنتجين في يوم من الأيام، ولا ممكن تشتغل لولا إن فيه حد بياخد باله من العمّال وصحتهم وعائلاتهم كل يوم. في الترتيب الذكوري التاريخي، الشغل ده كان بيتم ببلاش وبيتوزع بين الأخت والأم وبنت العم والجدة، اللي بيأدوا دور المعلمة والأخصائية الاجتماعية والممرضة في نفس الوقت وبلا مقابل. كذلك الناس اللي بتشتغل في المدارس والمستشفيات بتبقى ستات في الغالب، وبتتقاضى أجور زهيدة بالنسبة لحجم الشغل والساعات اللي بيقضوها في الشغل بما إنهم بيشتغلوا «بالحب». في الشغلانات دي، «الحب» نوعًا ما بيحبس العاملات، اللي ما تقدرش تتفاوض على أجورها زي باقي العمّال عشان طبيعة شغلهم بتحتاج للحنان والعاطفة والارتباط بالناس اللي بياخدوا بالهم منهم (والصفات دي طبعًا تُعتبر صفات «نسائية» بامتياز).

زي اقتصاديات نسويات تانيين، ويرينج كانت واعية بإن الستات بتعمل شغل كتير بلا مقابل، ولكن ما كانتش بتطالب بإنهم يتقاضوا أجور مقابل الشغل ده. الغرض من كتابها كان إن الشغل اللي مالوش قيمة في المنهج الاقتصادي الذكوري المهيمن يتشاف ويبان قيمته الحقيقية، وبناءً على التقييم ده، إن الستات تضغط على حكومات العالم عشان تواجه عدم المساواة الناتجة عن سوء تقدير مساهمتهم في البيت والرعاية. كذلك في مقال عنوانه «إصلاح الرعاية» (Reforming Care)، الاقتصادية النسوية نانسي فولبري (Nancy Folbre) بتقترح إن الضغوط السياسية اللي بتهدف لتحقيق المساواة في الأجور بين الرجل والست، وكذلك بتهدف لإتاحة الحضانات والمدارس العامة عشان تخفف العبء على ربات المنازل، لازم تعتني بجميع نواحي الرعاية في المجتمع. في رأيها، المساواة الحقيقية مش ممكن تحصل إلا إذا إجمالي المجهود اللي بيتحط في تربية الأطفال ورعاية المسنين والمرضى اتوزع بشكل عادل وبدعم عام.

طبعًا نوع الضغوط السياسية اللي ممكن تحصل في سبيل العدالة بين الرجالة والستات مالهاش شكل موحّد في جميع أنحاء العالم، ولكن التقييم والتقدير الرمزي لشغل الرعاية مش حل في حد ذاته. عشان نفتح أفق التفكير في الاقتصاد بوصفه عملية إنسانية واسعة ومش بس مسألة بيع وشراء، لازم نفكر في الرعاية كنوع من الشغل بيتوزّع بشكل غير عادل بين الرجالة والستات، وبدون أثر في المؤشرات الاقتصادية الرسمية. بمعنى بديهي، النمو الاقتصادي ما بيأكّلش عيش لأن عمر ما النمو راح يشتري العيش في السوق ويحضّر الأكل كل يوم الصبح. بالتالي عبادة النمو الاقتصادي بتأدي إلى رؤية مختزلة للاقتصاد، وبتتغاضى عن عدم المساواة بين العمّال ورجال الأعمال في المجال العام، وبين الرجالة والستات في المجال الخاص.

إذا تتبعنا كلام عالم الإنسان ديڤيد جريبر (David Graeber)، اللي هو نفسه بيستند للكتابات النسوية عن الرعاية، التفكير في شغل الرعاية كنموذج للشغل في العموم ممكن يغيّر رؤيتنا للاقتصاد بوصفه إنتاج واستهلاك فقط. «الطبقات الراعية» (caring classes) حسب تعبير جريبر تستاهل دعم أكبر في أداء مهامها اليومية، عشان المهام دي هي اللي بتربط المجتمع ببعضه وبتحسّن مستوى معيشة البشر. والطبقات دي أكيد تستاهل اهتمام أكبر من الناس اللي بتلبس بدل وكرافاتات وشرابات حرير، وبتطلع في التلفزيون تقول لنا: «استحملوا معانا شوية...»

اقرأ المزيد: موسوعة الملل | العمل المنزلي