ثمة شيء معيوب بشدة في الوجود البشري، بحيث أن الناس يسعون عمدًا إلى تخريب رغباتهم وتطلعاتهم، ويخططون (بطرق غير معروفة لأنفسهم غالبًا) لكي يضمنوا انقلاب أمورهم منقلبًا سيئًا.

مقال: آرون شوستر

منشور في «The Trouble with Pleasure: Deleuze and Psychoanalysis» في عام 2016 عن دار نشر «MIT».

ترجمة: طارق عثمان

آرون شوستر أستاذ للفلسفة مقيم في أمستردام، نال درجتي الماجستير والدكتوراه من جامعة لوفان الكاثوليكية في بلجيكا، وتشغله أسئلة عابرة للتخصصات من عينة سياسات النوم، والتحليل النفسي للشكوى، موضوع النص الحالي.


لوحة ديفيد تينيرز الأصغر: «الحانة الريفية»، عن Wikimedia Commons

كم كنتُ عطشانًا

هناك نكتة يهودية تحكي أن:

في مكان ما، قديمًا في روسيا، استقل مسافر قطارًا، وجلس بجوار عجوز يهودي. وعاجلًا، شرع العجوز في التمتمة مشتكيّا: «آه، كم أنا عطشان». تجاهله المسافر لبعض الوقت، لكن العجوز واصل: «آه، كم أنا عطشان، آه، كم أنا عطشان». وفي نهاية المطاف، طفح بالمسافر الكيل. فقام من على كرسيه وذهب إلى العربة التي تُباع فيها المشروبات، واشترى زجاجة ماء، وأعطاها للعجوز، فقبلها منه ممتنًا، وشربها، وارتاح. وبعد مرور بضع دقائق، شعر المسافر بأن توترًا ما يتنامى بداخل العجوز، إلى أن غلبه، في النهاية، وصاح قائلًا: «آه، كم كنتُ عطشانًا!»

بالرغم من أن الكتابات الفلسفية في موضوع التشكي ليست كتابات مُفصّلة بالقدر الكافي إلا أن هذه النكتة بإمكانها أن تهدينا إلى الاتجاه الصحيح. إذ يمكن تحليلها على ثلاثة مستويات أساسية: المُشتكَى منه، والمُشتكَى إليه، وفعل التشكي نفسه. في المستوى الأول، توضح النكتة، وعلى نحو مقبول جدًا، التمييز اللاكاني بين الحاجة والطلب والرغبة: يمكن للمرء أن يلبي للآخر حاجته التي يصرح بها فيما يطلبه منه، لكن تظل، بالرغم من ذلك رغبة الآخر غير المصرح بها غير مشبعة، وبالتالي تستمر في الوجود. وهذا ما تخبرنا به تلك الـ«آه» المنحرفة الأخيرة: بالرغم من أن عطش العجوز قد ارتوى إلا أن ثمة شيء آخر، أبعد من حنكه الجاف، قد ظل عطشانًا، شيء لا يمكن إشباعه، وكما تشير النكتة، بأي شيء، وإنما هو يترعرع بفضل عدم اشباعه.[1]

ويوضح لنا مايكل ويكس، الذي يعتبر هذه النكتة نموذجًا حقيقيًا لـ«طباع الناطقين باللغة اليديشية»[2] قائلًا: «لو أن أغنية الرولنج ستونز ‹(لا يمكنني أن أنال أية) إشباع› قد كُتبت باللغة اليديشية فسيكون عنوانها: ‹(كم أعشق إخبارك طوال الوقت بأني لا يمكنني أن أنال أية) إشباع (لأن إخبارك بأني غير مشبع هو الشيء الوحيد الذي يمكن له أن يشبعني)›»[3] وبحسب جاك لاكان —وفرويد من قبله— هذه «الرغبة في رغبة غير مُشبَعة» هي الموقف الهيستيري بحذافيره، الموقف الذي يمكن تلخيص طبيعته الملتبسة في هذه العبارة: لا تعطني ما أطلبه منك، لأنه ليس هو ما أريده. ففي عين الشكّاء الحقيقي، كل شيء غير كافٍ، والحياة ليست سوى استعراض أبدي لـ«ليس هذا ما أريده، ليس هذا ما أريده».[4]

بمقدورنا أيضًا أن نفهم ديناميكيات مشهد القطار هذا من جهة علاقات التلاعب والسيطرة (المستوى الثاني: المُشتكى إليه). يعلمنا ألكسندر كوجيف —انطلاقًا من هيجل— أن الرغبة البشرية ليست، في جوهرها، رغبة في شيء ملموس، وإنما هي معركة على الوجاهة والمهابة (الاعتراف، التقدير)، صراع من أجل إخضاع رغبة الآخر لرغبة المرء. ومن هذا المنظور، يمكننا القول بأن ما يريده العجوز حقًا، بعيدًا عن إشباع حاجته الجسدية، هو أن يُعترف به كإنسان عطشان؛ أن يُخدم من طرف الآخر. الأمر شبيه هنا بالوضعية الأوديبية النمطية للأم المتلاعبة التي تشتكي على الدوام من شيء ما، فقط لكي تسيطر بدرجة أشد على ابنها (ليفيا في مسلسل آل سوبرانو —أم توني— هي نسخة إيطالية من هذه الأم). هنا يحوز التشكي قيمته من الدور الذي يلعبه في العلاقة الجدلية القائمة بين الذوات؛ وهذا التحليل يمكن توسعته ليشمل كل الأبعاد الاجتماعية للتشكي: الطرق التي يمكن من خلالها روابط التعاطف والانتماء، أو التي يعمل من خلالها كأداة للهيمنة والسيطرة. وتعتبر دراسة الأنثروبولوجية نانسي ريس عن التشكي والتذمر في روسيا جورباتشوف (حقبة البيرسترويكا) مصدرًا ثريًا لتفاصيل هذا الدور. ففي تحليلها للطرق التي تكلم بها الروسيون أثناء الفترة المضطربة من 1989 إلى 1990، وجدت أن اجترار الشكوى هو ما هيمن على أحاديث الحياة اليومية، من قصص الفقر والمعاناة إلى قصص التسوق البطولي، وسخافة العالم الروسي، الذي وصفه أحد قاطني موسكو بوصف جدير بالتذكر قائلًا إنه «نقيض ديزني لاند».[5] وإذا كانت هذه الاجترارات قد عملت على خلق الروابط الاجتماعية في أوقات المحنة، خلق «أمة من المتشاركين في نفس المعاناة»[6] إلا أنها —وبواسطة نفس الشعور بالانتماء والقيمة الأخلاقية الذي عززته هذه الاجترارات— «قد ساعدت في الحفاظ على العجز النسبي والاغتراب عن العملية السياسية في نفس الوقت الذي كانوا يتحسرون فيه على ذلك العجز وهذا الاغتراب».[7] وبذلك لم يكن التشكي مجرد شأنًا خاصًا وإنما لعب دورًا أيديولوجيًا علاوة على ذلك.

ولأغراضي هنا، أود أن أركز على واحد فحسب من الاستعمالات الأشد براعة لاجترار الشكوى التي عينتها نانسي ريس، والذي يوضح بجلاء ديناميكيته البين-ذاتية، وهو: إخفاء نجاح المرء النسبي عن الآخر. فواحد ممن تحاورت معهم قال لها شارحًا: «تعمل الشكوى، أيضًا، كحجاب. إن لها جانب تمويهي؛ فإذا تمكنت من جمع ثلاثة دولارات أكثر من شخص آخر، لا يمكنك أن تُفصح عن ذلك، عن أنك تعيش أفضل من أولئك الذين تعيش بينهم، لا لأن الشخص الروسي شخص متكتم وماكر، وإنما لأن شخصًا آخر سيشعر بالخزي إذا ما عرف أن لديك أكثر مما لديه».[8] هنا نجد نقيض فكرة ثوريستين فيبلين عن الاستهلاك المتباهي والاستعراضي، نجد استهلاك مستتر: تمتَّع، لكن في السر.[9] ليست المسألة هنا متعلقة بحماية المرء لمتعته الزائدة، لرفاهيته البسيطة الزائدة من ضياع محتمل أو سرقة محتملة، وإنما هي متعلقة بشيء آخر، شيء أكثر لباقة ومغالاة في عين الوقت. فبعيدًا عن موضوع الشكوى أيما كان، يرسل التشكي المزيف أو المغالي رسالة إلى الآخر، رسالة تعمل على تمتين الرابطة الاجتماعية، وهي: لا تقلق، فحياتي بائسة تمامًا مثل حياتك. إن الموقف الإيتيقي الأساسي للشكّاء هو تجنب إحراج الآخر وإخزائه عن طريق فضح نقصه؛ وما يهم حقًا هنا ليس قيمة الشيء الناقص بحد ذاته؛ بعض المال، أو بعض البقالة الزائدة، أو أيام راحة، أو أيّا كان، وإنما هو أن نقص هذا الشيء يمكن له أن يتخذ قيمة تأشيرية ثقيلة،[10] ففي بعض الأحيان يكون نقص بيضتين كافيًا لبيان مدى ضياع المرء الوجودي. لكن ثمة أمر آخر على المحك: بشكواه يسعى المرء إلى صد القوى الخبيثة التي قد تُفسد عليه نجاحاته الصغيرة. فحتى عندما لا يكون ثمة خطر حقيقي، بل خاصةً عندما لا يكون ثمة خطر حقيقي، يعمل التشكي، طقسيّا، على طرد نظرة الآخر الحاسدة. ألا نرى هنا واحدًا من أسس العيش في جماعة؟ فأن يتعلم المرء كيف يندمج في مجتمعه يعني أن يتعلم كيف يعامل متعته بحساسية وحرص شديدين؛ التشكي عبارة عن مزيج من التحفظ والتطيّر، مزيج من حسن الخلق والتعزيم السحري، عبارة عن تنظيم لعلاقة المرء بالآخر الصغير (جيرانه، وزملائه) وبالآخر الكبير (المرجعية الاجتماعية).[11] ويجد هذا السلوك السُلافي النموذجي نقيضه في الاختيال والتباهي الأمريكي، الحماسة الإيجابية الإلزامية الأمريكية، الميل الأمريكي الفاحش للمبالغة في إظهار المتعة. فإذا كان التشكي يعمل على ستر فائض المتعة،[12] فإن التحمس والاختيال المغالي يعمل على ستر النقص-في-الكينونة، الخواء والقنوط الجواني. إن رسالته المتلهفة هي: لا تقلق، فالحياة رائعة ومذهلة وفاتنة وإلخ. كم هو مفارق إذن أن تواجه المجتمعات الشرقية الفقيرة نسبيًا مشكلة الفائض بدرجة أكبر، بينما يتعين على المجتمعات الغربية الثرية مواجهة مشكلة النقص؛ ومن هنا يمكن القول بأن عنوان مسلسل لاري دافيد الكوميدي اكبح جماح حماسك (Curb Your Enthusiasm)، يرمي تحديدًا إلى تحجيم هذه المتعة المبالغ في إظهارها لصالح شيء من السلبية الواقعية.

أما الوضعية الوسط بين هذين الوضعين، وضعية التوافق المتناغم بين ما يشعر به المرء فعلًا وما يظهره للناس —لا تفرط في الحماسة، ولا تفرط في الشكوى، أو بالأحرى، تصرف على نحو متحمس عندما تكون متحمسًا بالفعل، واشتك عندما تكون أحوالك سيئة بالفعل— فهي وضعية مرفوضة، لماذا؟ لصعوبة العثور على هذا التوازن، وذلك لأن المتعة بحد ذاتها غير متزنة؛ إنها تتأرجح دومًا بين الفيض والنقص، فهي إما مفرطة على نحو خانق أو ناقصة على نحو تعيس، وما تطرحه الثقافة (المجتمع) ليس التناغم وإنما استراتيجيات مختلفة لإدراج هذا الاضطراب الليبيدي في المجال الاجتماعي —كاستراتيجية التذمر السلافي أو التحمس الأمريكي المفرط— من دون أن تكون قادرة على احتوائه أو السيطرة عليه بشكل كامل.

وثمة مستوى ثالث لتحليل هذه النكتة: متعة فعل الشكوى نفسه. ففي واقع الأمر، التشكي مثال ممتاز على الـ«jouissance»، وذلك بقدر ما يبين أن المتعة الحقيقية ليست متعلقة بالشعور بالمتعة بحد ذاته وإنما هي تكمن في الانقطاع لممارسة ما والاستسلام لها، ممارسة قد تتضمن حالات شعورية مختلفة بل حتى مؤلمة.[13] فالمشاق والإخفاقات والإساءات والإهانات الاجتماعية والغباء إلخ، هي أشياء نادرًا ما تكون ممتعة، لكن التشكي منها يمكن له أن يكون مشغلة أخّاذة للغاية. وبكلمات الكاتب الفرنسي جورج بيروس: «ليس هناك ما يثبت أن المتعة شأنًا سعيدًا».[14] وحتى نعود إلى المسافر سيئ الحظ: تكشف جملة النكتة الأخيرة —آه كم كنت عطشانًا— عن لا جدوى تأدبه (المتعالي)؛ فمهما فعل —مهما اشترى له من زجاجات مياه— سيواصل العجوز الشكوى لأنه يحب فعل ذلك ببساطة. لأن التشكي هو ما يبث فيه الحياة، ما يحرّكه، كما لو كان منقوشًا على كينونته نفسها. ففي حوار خليق بأريسطوفان (رائد الكوميديا الإغريقية)، من مسرحية الحياة حلم لبيدرو كالديرون (ت. 1681)، سخر المؤلف تحديدًا من ذلك المنطق الفلسفي الملتوي الذي يجعل من التشكي غاية في حد ذاته:

روساورا: تذكر الفيلسوف الذي قال إن التشكي متعة كبيرة لدرجة تجعل من البلايا شيئًا ينبغي السعي وراءه كما لو كانت كنزًا غاليًا.
كلاورين: سيدتي، فيلسوفك شخص أحمق، وكم أود أن يكون موجودًا هنا حتى أركله في رأسه. وعندها سأسمح لنفسي بسماعه يشتكي من مهارتي المدهشة في الركل.[15]

التماس المعاناة من أجل التمتع بالتذمر منها هو انحراف سخيف يقينًا، لكن هذا ليس سوى نصف المسألة. فالتشكي لا «يترعرع» في قلب البلايا، وركلات الرأس المتقنة وحسب، وإنما هو بارع للدرجة التي تخول له تحويل حدث سعيد إلى مناسبة للعويل، علاوة على ذلك. أو لنقل ذلك بمصطلحات كانطية: لكي نحيط علمًا بفن التشكي الحقيقي، يتعين على المرء ألا يعتبره مجرد رد فعل على سوء الأوضاع والإخفاقات الموجودة في عالم معين سلفًا، وإنما عليه أن يعتبره بنية ترنسندنتالية (قبلية)، طريقة غريبة للتعاطي مع الأشياء: فـ«التذمر يمكن له أن ينطبق، وبنفس النحو، على الجوع أو الشبع، على نوال المراد أو خيبة الرجاء: إنه طريقة للإدراك ترى العالم من خلال نظارة معتمة».[16] وهنا يكمن إبداع التشكي وابتكاره، تخطيطه الماكر. التذمر طريقة للعيش، طريقة غريبة لبلوغ السعادة الأرسطية،[17] تتوسل بالحسن والسيئ كليهما، وتستخدمهما بغرض توفير المزيد من الحب لطاحونته الشكسة. ومن منظور هذه المتعة المتذمرة، ليس لاستجابة الآخر أو اعترافه شأنًا أكبر من شأن العطش، أو ثوب ضائع في المغسلة، أو نهار شديد الحر، أو أي شيء آخر. ففي نهاية المطاف، الشكّاء ليس مشغولًا حقًا بنيل الاعتراف. فالطبيعة البين-ذاتية التي تبدو مهمة لفعل التشكي —الرسائل المبطنة والتلاعبات، طلبات الاعتراف والتضامن، الإشارات والاستجدائات المبطنة— تتحلل إلى متعة شبه توحدية، حيث يغدو الآخر كالـ«شريك» في مونولوج مسرحي، يُوجَّه إليه الكلام على نحو غائم لا لكي يسمعه ويرد عليه، وإنما لكي يتمدد المونولوج ويزداد تفصيلًا.[18] فما يهم هنا حقًا هو أن يجد المشتكي شيئًا ليتذمر منه ببساطة، أن يظل يركّب ويفكك آلة التشكي الجهنمية.

شيء في التشاؤم أكثر من مجرد التشاؤم

«أنا رجل عليل.. رجل خبيث.. رجل منفّر.. أظن أن كبدي معطوب».[19]

تحتل هذه المستويات الثلاث —الرغبة وعدم اشباعها، وابتغاء الاعتراف الذي يشكّل الأنا، ومتعة الدوافع الأريبة— مكان القلب من نظرية الحياة النفسية التي وضعها فرويد، الذي ينطوي مجموع أعماله، وبلا ريب، على واحدة من أعظم قوائم الشكاوى التي جُمعت على الإطلاق. ومن بين جميع العلل والبلايا الموصوفة في أعمال فرويد، يوجد ضرب بعينه من الشكوى يتمتع بميزة مخصوصة، وهو الشكوى العصابية: الاختلاجات والعلل الجسدية غير المفسرة، والمخاوف غير المبررة، والأفكار التي تستحوذ على العقل، والفتور الجنسي، والشعور اللازب بالذنب، والسلوك المجهِض لمساعي فاعله، إلخ. فأثناء فحصه لهذه العلل المتنوعة، اكتشف فرويد أن للشكوى العصابية بنية مخصوصة: على الرغم من تذمرهم واستيائهم، تبين أن مرضاه متعلقين على نحو عنيد بالعلل التي يعانون منها، مما دفعه للزعم بأنهم متواطئون، بطرق غير معروفة لهم، مع عللهم هذه على نحو عميق.[20] وهذه واحدة من المناحي الأشد ثورية للتحليل النفسي، والتي لم تُكتشف مضامينها بالكامل حتى اليوم: أن نفكر في المبتلين بالعلل النفسية لا باعتبارهم مجرد ضحايا خاضعين لتعاستهم، وإنما باعتبارهم، ومن حيث لا يعلمون، مهندسي هذه التعاسة. أو كما يقول فرويد: «بينما يقول الأنا لنفسه: هذا مرض، غزو خارجي»، وبذلك يعجز عن فهم سبب «شعوره بالشلل على هذا النحو الغريب»، يكشف التحليل عن أن العلة النفسية «نابعة في واقع الأمر من دوافع [العصابي] المنبوذة والمرفوضة».[21] فما يبدو أنه مفروض من الخارج، ليس في واقع الأمر سوى مُنتج مشوه لرغبات المرء واستيهاماته (fantasies) الأشد حميمية. وبعبارة أخرى، في مستوى (لا واعي) معين، الأعراض المرضية النفسية مرغوبة «وممتعة» بقدر كبير.

هذا الفهم الفرويدي الراديكالي للذّة، معبّر عنه، على نحو لطيف، في قول آخر طريف من أقوال جورج بيروس: «صحيح أن الناس يتكبدون الكثير من المشاق لكي يكونوا تعساء. لكن هل هم كذلك حقا؟»[22] والكلمات هنا منتقاة بدقة بالغة: عوضًا عن الصورة المعتادة عن الإنسان الذي يسعى وراء السعادة لكنه يلاقى في طريقه كل أنواع المصاعب والعقبات، يشير بيروس إلى عكس ذلك تمامًا. ثمة شيء معيوب بشدة في الوجود البشري، بحيث أن الناس يسعون عمدًا إلى تخريب رغباتهم وتطلعاتهم، ويخططون (بطرق غير معروفة لأنفسهم غالبًا) لكي يضمنوا انقلاب أمورهم منقلبًا سيئًا.[23] ولو توقف الأمر عند هذا التبصر، لظللنا في مستوى التراجيديا. لكن الوضع أسوأ من ذلك حتى: فالوجود البشري بائس لدرجة أنه لا يستطيع حتى نفي نفسه بنجاح. هذا ما تخبرنا به جملة بيروس الثانية، هذا الرد الماكر المرتاب: «لكن هل هم كذلك [تعساء] حقًا؟» لقد تبين أن الناس سعداء في تعاستهم، على الرغم من كل اعتراضاتهم المدويّة على ذلك. ما يحدث هنا ليس انقلاب الوضع السيئ (التعاسة) إلى وضع حسن (السعادة)، وإنما شيء أكثر خفاءً ومراوغة: هنا يجد الوضع السيء نفسه مقوضا أو منحرفا من داخله، وهذا الانحراف، هذا الفشل —فشل الوضع السيء في إنتاج التعاسة— هو الذي يوفر مادة ثرية للكوميديا.[24] أو لنقل، تنويعًا على عبارة لفرويد، يتمتع البشر بقدر أقل مما يتخيلون (أقل من استيهامات وتخيلات الإشباع الكامل التي تعشش في عقولهم)، وبقدر أكبر بكثير مما يظنون (حيث يجدون المتعة فجأة في أماكن وأوقات غير متوقعة).[25] هنا يمكننا تقديم أطروحة إيتيقية عامة جدًا: في العصر الحديث، ليست السعادة الهدف المباشر للحياة، ليست غاية الوجود المتحقق بالكامل، وإنما هي نتيجة (أو بالأحرى نتيجة جانبية) لفشل مزدوج. وهذه أرسطية سلبية مع انعطافة كوميدية أو تفاؤلية على نحو ساخر: يعيش (يسعد) الإنسان عن طريق فشله في تجنب السعادة (فشله في الفشل في أن يكون سعيدًا)، أو بعبارة أخرى: الإنسان هو ذلك الكائن الذي يسعى إلى تخريب وجوده لكنه أخرق لدرجة أنه يفشل حتى في فعل ذلك. وهذا هو بالضبط ما على المحك في الفهم الفرويدي للعَرَض النفسي،[26] إذ تكثف حيوية العرض الغريبة هذين البعدين معًا: فالعرض تراجيديا وكوميديا في عين الوقت، فهو يحكي قصة نزاع لا مفر منه وقدر مهلك، وقصة مرونة الحياة وقدرتها المذهلة على التكيف بواسطة الطرق الأشد غرابة وإدهاشًا. لو كان الكبت تراجيدي فعودة المكبوت كوميدية أو تتضمن، على الأقل، نواة الكوميديا (فكما أوضح فرويد في كتابه النكت وعلاقتها باللاوعي، تستخدم العمليات النفسية اللاوعية نفس الآليات التي تُستخدم في النكت، لكن الأولى ليست مضحكة أبدًا لأنها ليست محكومة بالرغبة في تسلية جمهور ما أو التواصل معه؛ اللاوعي أشبه بنادٍ كوميدي خاص جدًا، تلقى فيه النكات الرديئة بأداء فاشل). ففي البدء ثمة إقصاء غاشم وتراجيدي لما يُعدّ مروعا وغير جائز من النفس (الكبت)، ثم يعقب ذلك حدث كوميدي، حيث يسعى ما أقصي إلى التسلل خلسة إلى النفس مرة أخرى (عودة المكبوت)، متخفيا تحت لحية مزيفة (العرض)، إنها مهزلة التخفيات والإزاحات والتحولات التي يتألف منها اللاوعي بكاملها،[27] مهزلة عدم-حصولك-على-ما-تريده-لكن-استمتاعك-بشيء-آخر-هو-الذي-أردته-على أية حال.[28] بيد أن الوضع أشد تعقيدًا حتى من ذلك، وذلك لتشوش الترتيب الزمني وبلبلته. فاللحظتين التاريخيتين (التراجيديا والمهزلة) اللتين قال ماركس أن إحداهما تعقب الأخرى —انقلاب نابليون في سنة 1779، ثم استيلاء ابن أخيه على السلطة في 1851— يظهران في العرض العصابي في الوقت عينه: ففي العرض، لا تعقب المهزلة التراجيديا، وإنما العرض تراجيديا ومهزلة في الوقت عينه.

من المغوي أن نطوح بمفهومي التفاؤل والتشاؤم لكونهما لا يرقيا لرتبة المفاهيم الفلسفية، وإنما مجرد تعبير غائم عن مزاجين أو رؤيتين للعالم من دون أية قيمة تحليلية. لكن يمكننا أن نعيد صياغة هذين المفهومين الغائمين على نحو مشابه للصياغة الفرويدية للتراجيديا والكوميديا التي طرحتها أعلاه، وذلك كالتالي: التفاؤل موقف واه وبليد تمامًا، فالتفاؤل أو الاستبشار الساذج هو اعتقاد في أن الكبت شأن عارض، وبالتالي مع قدر كافٍ من الإقدام والحظ، يمكن للمرء أن ينجو من نزاعات الحياة وتعارضاتها سالمًا إلى حدٍ ما؛ أو هو، وعلى نحو أشد حمقًا، اعتقاد في أن «حب الحياة» ينتصر على المعاناة والفقد، في أن الابتهاج والحبور أعمق وأرسخ من العذاب والضنى. أما التشاؤم فهو المذهب القائل بأولية الكبت وهيمنته: كل وجود هو وجود خرِب وغير محتمل على طريقته (والمفارقة هنا هي أن المرء لا يمكنه أن ينطق بهذه الفكرة من دون أن يُغفل حقيقتها: فالعبارة العامة «الحياة مريعة» تعمل بالضرورة كطريقة للحفاظ على ذات المرء في أمان خارج المعادلة، غير متضررة برعب حكمها القاتم والحزين على الحياة. وبالتالي فالطريقة الوحيدة الصادقة للتعبير عن التشاؤم هي التوكيد عليه تحديدًا عن طريق إنكاره؛ كما يقول بيسوا: «لست متشائمًا. فأنا لا أعتقد أن الحياة مريعة. وإنما أعتقد أن حياتي مريعة»). لكن هذا القنوط التام، الذي لا يبقي ولا يذر، هذا البؤس الموحش الذي يستبعد أي أمل، لا يستبعد حقًا كل أمل، لو فهمنا ذلك على نحو غير تقليدي. إذ ينشأ، بطريق غير مباشرة، ضرب غريب من التفاؤل «الكوميدي» أو «التهريجي» كصدع مدمر داخل التشاؤم، كزيادة في بلة الطين، إنه الشيء الموجود في التشاؤم أكثر من مجرد التشاؤم. إن التفاؤل ليس نقيض التشاؤم، ليس له مادة ثابتة ولا روح قوية قائمة بذاتها، وإنما هو توسيع إضافي لسلبية التشاؤم العنيدة: إنه الشيء المطروح من لاشيئية التشاؤم، الشوكة التي تقف في حلق التشاؤم وتمنعه من أن يرتاح مع نفسه، من أن يضمحل في عدميته، لكن من دون أن يحوله إلى نقيضه. والمنطق الحاكم هنا أشد دهاءً وخفاءً من منطق الحجة التقليدية القائلة بأن التشاؤم يدحض نفسه. كما قال هنري برجسون مازحًا، مهما قال المرء عن ألم الوجود ورعبه وحمقه «يستمسك البشر بالحياة، مما يثبت أنها شيء طيب».[29] ففي مقابل هذه الفهم العام، ينبغي على المرء أن يدافع عن الزعم «المثالي» المجنون القائل بأن فكرة التشاؤم صائبة لكن الحياة نفسها خاطئة: لو أن هناك عدالة أنطولوجية لاختفى الجنس البشري في طرفة عين. وعدم حصول ذلك لا يدحض التشاؤم وإنما يتطلب منا أن نسلّم بحصول انعطافة ساخرة: استمساك البشر بالحياة ليس دليلا على ثراء الحياة وحيويتها المنيعة، وإنما هو قمة الظلم الأنطولوجي، تأبيد عنيف لعدم محو الذات لنفسها، ضحكة ساخرة في وجه صرامة فكرة التشاؤم التي لا تحتمل. أو بعبارة مثيرة للشفقة، لا يمكن للتفاؤل الحقيقي أن يولد إلا من رحم رضوخ المرء التام للقنوط: لا يتعلق الأمر بالعويل الإنساني المعتاد على أن البشر فانون، على أننا سنموت جميعا، فالوضع أسوأ من ذلك بكثير: لقد وقعت الكارثة سلفًا، نحن موتى بالفعل، وهذه هي الحياة الآخرة.


[1]   يفرق لاكان بين الحاجة (need) والطلب (demand) والرغبة (desire): كل حاجة لا بد أن تُصاغ في شكل طلب، لكن الحاجة والطلب المعبر عنها شيء والرغبة شيء آخر. فقد يطلب المريض من محلله النفسي مثلًا أن يقلل عدد الجلسات إلى مرة في الإسبوع عوض مرتين، ما الذي يتعين على المحلل فعله حيال هذا الطلب الصريح؟ يحذر لاكان  المحلل من أخذ طلب المريض على ظاهره، أي من المطابقة بين ما يطلبه المريض وما يرغب فيه. فقد يطلب المريض تقليل عدد الجلسات لا لكونه يرغب في ذلك حقًا وإنما لأنه لا يجد المال الكافي، مثلًا، أو لأنه يريد أن يرى مدى اهتمام وعناية المحلل به، رغبة المحلل فيه. علينا إذن ألا نحمل كل طلب على ظاهره وإنما أن نؤوله، ألا نرده إلى الحاجة المصرح بها فيه وإنما أن نرده إلى رغبة خفية ثاوية تحته.

 لكن ما سبب عدم تطابق الطلب مع الرغبة في الأصل؟ إنها اللغة بحسب لاكان: لا يمكن للمرء أن يعبّر عن حاجته إلا بواسطة اللغة أي في شكل طلب يطرحه على الآخر، لكن ثمة فجوة على الدوام بين ما أحتاجه بالفعل وبين ما أطلبه بالكلمات (بسبب الفجوة الأساسية بين كل دال ومدلوله)، فما أطلبه دومًا أقل مما أحتاج إليه أو أكثر مما أحتاج إليه، وهذه الفجوة هي التي تتولد فيها الرغبة. قد أطلب من الآخر شيئا فيلبيه لي لكن تظل رغبتي على الرغم من ذلك غير مشبعة لأن ما طلبته وما نلته ليس هو ما أحتاجه بالضبط، ثمة شيء ناقص (أو زائد)، وهذا الشيء هو تحديدًا ما يحرك رغبتي. ويمكن صياغة العلاقة بين الثلاثة في شكل معادلة رياضية كالتالي: الرغبة = طلب - حاجة (وأنا مدين بهذه المعادلة لملادن دولار).

ويضرب لنا تود مجاوين هذا المثل على ضرورة التمييز بين الطلب والرغبة: أستاذ المدرسة الذي لا يكلّ من طلب الالتزام والاجتهاد من طلابه، أي التلاميذ يرغب فيه أكثر؟ أكثرهم اجتهادًا وانضباطًا، الذي يأتي مبكرًا إلى الفصل، ويؤدي واجباته بانتظام، ويرفع يده للإجابة على جميع الأسئلة؟ بالطبع لا، فالأستاذ يطلب من التلاميذ الانضباط والاجتهاد لكن ليس هذا ما يرغب فيه حقًا، وبالتالي هو لا يحب ذلك التلميذ الذي يأخذ طلبه على ظاهره ويطابق بينه وبين رغبته، بينما يحب ذلك التلميذ الذي يعرف متى وكيف يعصي أوامره، ذاك الذي يعلم أن ما يطلبه المدرس ليس هو ما يرغب فيه حقًا. وينطبق نفس الأمر، وفقا لمجاوين، على علاقة الأب مع ابنائه: أيهما يرغب فيه أكثر، الابن المطواع والمسؤول أم الابن العاصي والشارد؟ الأب يطلب من أبنائه طول الوقت الطاعة والالتزام، لكنه يرغب في أكثرهم عصيانًا له.

 ولفهم خطورة المطابقة بين طلب الآخر ورغبته، يكفينا أن ننظر إلى هذا المشهد الكلاسيكي: بعد مشادة عاطفية بين رجل وخليلته، طلبت منه الأخيرة صراحة أن يبتعد عنها، المرأة هنا طلبها (المعبّر عن حاجتها) واضح وصريح لكن هل هذه هي رغبتها حقًا؟ لا على الأرجح، لذلك يكون رد فعلها عنيف جدًا عندما يبتعد عنها خليلها بالفعل، ثم يبرر ذلك بأنها هي التي طلبت ذلك، وأنه لم يفعل شيئًا سوى الانصياع لطلبها. إنها ستعاقبه على مطابقته بين طلبها ورغبتها ولا شك.

 لنعد الآن إلى العجوز اليهودي، لقد صاغ حاجته في طلب على شكل شكوى من العطش، لكن هل هذه هي رغبته حقًا؟ هل العجوز يرغب في شرب الماء وحسب أم أنه يرغب في شيء آخر، شيء لا يمكن لأي عدد من زجاجات الماء أن يروي عطشه إليه؟ إنه يطلب الماء لكنه يرغب في التشكي، في مجرد الشكوى. [المترجم]

[2]  لغة يهود أوروبا، الإشكيناز، مشتقة من الألمانية، في الأساس، وتُكتب بحروف عبرية. سمعناها في حوار المشهد الافتتاحي من فيلم  A Serious Man  (الأخوان كوين، 2009)، وهي لغة كل المصطلحات الدينية اليهودية المستخدمة في حوارات الفيلم. [المترجم]

[3]  Michael Wex, Born to Kvetch: Yiddish Language and Culture in All Its Moods (New York: St. Martin’s, 2005), 2–3.

[4] ما هو موقف العصابي (neurotic) من الإشباع، من تحقق رغبته؟ العصابي يرفض تحقيق رغبته، لا يحتمل الإشباع الذي يمكن أن ينتج عن تحقق الرغبة، لأنه يظن أن متعة هذا الإشباع ستقضي عليه، وبالتالي يريد أن يؤبد رغبته بأن يحول بينه وبين تلبيتها ما استطاع إلى ذلك سبيلًا. هذا ما يقصده جاك لاكان، على الأرجح، من قوله: «الرغبة هي حماية من المتعة» (ولعل هذا ما قصده جون كيتس، رواية عن إيميل سيوران، من قوله: «أنا جبان، لا أتحمل عذاب أن أكون سعيدًا»).

 لكن كيف للعصابي أن يحمي نفسه من تحقق الرغبة؟ ثمة استراتيجيتان: استراتيجية الهيستيري (hysteric) واستراتيجية المهوّس/الموسوس (obsessed) (والهيستيريا والهوس هما نوعي العصاب الأساسيين في التحليل النفسي، بالإضافة إلى الرهاب). أما المهوّس فيحمي نفسه من الإشباع عن طريق الرغبة في أشياء مستحيلة التحقق. بينما يضع الهيستيري العراقيل أمام تحقيق رغبته، بأن تصير رغبته هي تحديدًا عدم تحقق رغبته، بأن يرغب في عدم الإشباع نفسه.

والمثال الأكثر ظرفا على هذا الموقف الهيستيري من الرغبة هو «زوجة الجزار الظريفة» التي أتى فرويد على ذكرها في كتاب تأويل الأحلام (في الفصل الرابع: التحريف أو التمويه في الأحلام). زوجة الجزار هي امرأة حسناء وذكية، خضعت للتحليل مع فرويد، أرادت في واحدة من المرات أن تحرج فرويد، بدحض نظريته عن الحلم باعتباره تلبية لرغبة ما، بأن قصت عليه حلمًا تراه مناقضًا تمامًا لهذه النظرية، وهاكم حلمها: 

حلمتُ بأنني أريد أن أقيم حفلة عشاء، لكني لم أجد عندي إلا القليل من السلمون، فعزمت على النزول إلى السوق لشراء ما يلزم فتذكرت أننا في يوم الأحد وكل المحلات مغلقة، فرحت أتصل ببعض متعهدي الحفلات لتمويلي بما احتاج، فوجدت خط التليفون مقطوعًا، ولم أقم الحفلة.

هذا الحلم، في ظاهره، رغبة غير متحققة حرفيًا، فكيف يمكن لفرويد أن يتصرف معه؟ عن طريق تداعيات الزوجة حول الحلم والأحداث النهارية التي جرت في اليوم أو اليومين السابقين على الحلم به، حصل فرويد على التفاصيل التالية (باختصار بالطبع): الجزار رجل ميسور الحال، يحب زوجنه وتحبه ويعيشان في زواج «سعيد». الزوجة كثيرًا ما تعد حفلات عشاء في بيتها. الجزار يحب النساء السِمان لا النحيفات، وهو الأمر المتحقق في زوجته على أكمل وجه. للزوجة صديقة نحيفة جدًا لكن الجزار لا يكلّ من الثناء عليها. في إحدى زيارات الزوجة لصديقتها النحيفة قالت لها الأخيرة: متى ستدعيني إلى العشاء عندكِ مرة أخرى، فأنتِ تحسنين  تسمين ضيوفك. ومن هذه المعلومات خرج فرويد بالتالي: الزوجة تغار من الصديقة وتخشى أن تفتن زوجها. الصديقة تريد أن تأتي لتأكل كي تسمن، والجزار يحب النساء السمان بالفعل. وبالتالي يمكن لنا أن نتصور ما قالته الزوجة في نفسها عندما طلبت منها الصديقة أن تدعوها إلى عشاء في بيتها: «حسنًا، هذا ما ينقصني، أطعمك وأسمنك حتى تغوين زوجي المفتون بكِ بالفعل، لا، لن أدعوكِ وحسب وإنما سأتوقف نهائيًا عن  إقامة حفلات العشاء عامة». ما الذي ترغب فيه الزوجة إذن؟ ترغب في إحباط رغبة صديقتها. الصديقة ترغب في عشاء عند الزوجة، والزوجة ترغب في ألا تنال الصديقة هذا العشاء، وهي الرغبة التي لبّاها لها الحلم بالفعل. وبالتالي، بالرغم من ظاهره، حلم زوجة الجزار يدعم نظرية فرويد عوض دحضها.

لكن لسائل أن يسأل هنا: لماذا لم تحلم الزوجة بعدم تحقق رغبة صديقتها نفسها (كأن تحلم بأن صديقتها هي التي أرادت أن تقيم حفلة العشاء وفشلت في ذلك) وحلمت عوضًا عن ذلك بأن رغبتها (وليس رغبة صديقتها) هي التي لم تتحقق؟ لماذا بطلة الحلم هي الزوجة وليس الصديقة؟ الجواب بحسب فرويد هو أن الزوجة قد تماهت (توحدت) هيستيريًا مع الصديقة، أي وضعت نفسها في مكانها، وبالتالي فالزوجة في الحلم تلعب دور الصديقة ليس إلا. لكن كيف لنا أن نعلم أن الزوجة قد تماهت هيستيريًا مع الصديقة؟ أثناء تداعياتها حول الحلم —وهنا نصل إلى الرغبة الهيستيرية في رغبة غير مشبَعة— قالت الزوجة لفرويد إنها تحب الكافيار وتشتهي أن تأكله كل يوم على الفطور، لكنها تضن به على نفسها، وبالرغم من أنها تعلم علم اليقين أن زوجها الثري لن يتردد في شراء الكافيار لها كل يوم، إلا أنها لم تطلب منه ذلك وإنما توسلت إليه، عوضًا عن ذلك، ألا يشترى لها الكافيار قط! هذه هي الرغبة في رغبة غير مشبعة مجسدة في شكل عرض هيستيري. فالزوجة ترغب في ألا تلبى لها رغبتها في الكافيار. عندما سألها فرويد عن ذلك قالت ببساطة إنها تفعل ذلك لكي تعاكس زوجها وتستثيره بأن تؤنبه على كونه لا يشترى لها الكافيار بالرغم من حبها له. لكن هذا الجواب لم يقنع فرويد قط، وبالتالي راح يطلب من الزوجة المزيد من التداعيات حول الحلم. لقد سألها من أين جاء السلمون في الحلم؟ فأجابت ببساطة أن السلمون هو وجبة صديقتها المفضلة. فرويد يعلم ذلك بالفعل لأنه يعرف هذه الصديقة شخصيًا ويعرف أنها تضن به على نفسها تمامًا كما تضن الزوجة بالكافيار على نفسها. عرض الزوجة الهيستيري: الرغبة في عدم إشباع رغبتها (الكافيار)، سببه تماهيها مع صديقتها التي ترغب هي الأخرى في عدم إشباع رغبتها (السلمون). لكن لماذا تماهت الزوجة مع الصديقة في الحلم وفي الواقع؟ يعبّر فرويد عن الوضع كالتالي: الزوجة أخذت مكان الصديقة في الحلم لأنها تعتقد أن الصديقة تريد أن تأخذ مكانها عند زوجها. ولأن الزوجة تريد أن تأخذ مكان صديقتها عند زوجها الذي يكيل لها الثناء على الدوام.

 ولجاك لاكان تحليل أكثر تفصيلًا لحلم زوجة الجزار الظريفة، في مقالته «the direction of treatment» ضمن كتاب  Écrits. ولشرح مسهب لتحليل لاكان لهذا الحلم انظر كتاب تلميذته كوليت سولير، What Lacan Said about Women، الفصل الرابع «hysteria and femininity»، بأكمله. [المترجم]

[5] Nancy Ries, Russian Talk: Culture and Conversation during Perestroika (Ithaca: Cornell University Press, 1997), 42.

[6] نفسه، ص 87.

[7]  نفسه، ص 83.

[8]  نفسه، ص 112-113.

[9] صك الاقتصادي الأمريكي ثوريستين فيبلين (1857–1929) مصطلح الـ«conspicuous consumption»، أي الاستهلاك المتباهي والاستعراضي («الفشخرة»/ «المظهرة»/ «المنظرة»)، للإشارة إلى نمط الاستهلاك المغالي، الذي يتعمد المستهلكون إظهاره للآخرين بوضوح، بغرض بيان انتمائهم إلى طبقة اجتماعية عليا. والروسي يشير هنا إلى نقيض هذا الضرب من الاستهلاك، أي إلى «inconspicuous consumption»، أي إلى استهلاك كتوم ومتخف. [المترجم]

[10]  بالإضافة إلى قيمته الاستعمالية والتبادلية (ماركس)، وقيمته الاستعراضية (فالتر بنيامين)، للشيء أو السلعة قيمة تأشيرية (sign value) (جان بودريار، بيير بورديو): أي قيمته كمؤشر على رتبة المرء الاجتماعية، وعلى طبقته، وعلى مدى ثرائه. [المترجم]

[11]  يفرق جاك لاكان بين نوعين من الآخرية: الآخر الصغير (other) والآخر الكبير (Other). الآخر الصغير هو الآخر المعروف: الصديق والجار وزميل العمل والمنافس إلخ. والعلاقة بين المرء والآخر الصغير علاقة تنتمي لمستوى التخيلي (imaginary)، وهي علاقة محاكية (بلغة ريني جيرار) محكومة بالتنافس والغيرة والحسد. أما الآخر الكبير فهو السلطة أو المرجعية الاجتماعية ومن يمثلها من أفراد: من يقرر قيمة الأشياء والأفعال ومدى مشروعيتها. والعلاقة بين المرء والآخر الكبير تنتمي لمستوى الرمزي (symbolic). الآخر الكبير هو من يجيبني على السؤال الذي لا أنفك أطرحه على نفسي: ما الذي ينبغي علي أن أرغب فيه؟ ما الذي علي فعله كي أحظى بالقبول الاجتماعي، بالمكانة الاجتماعية العالية؟ عندما أرى النجوم والمشاهير من فنانين وسياسين ورجال أعمال، أي ممثلي الآخر الكبير، يرتدون ثيابًا بعينها، ويرتادون أماكن بعينها، ويأكلون أطعمة بعينها، ويتكلمون بطريقة بعينها، إلخ، فأنا أعرف على الفور بأن هذه الثياب والأماكن والأطعمة وهذه الطريقة في الحياة هي ما علي أن أرغب فيه وأسعى إلى تحقيقه كي أحظى بالاعتراف الاجتماعي. الرغبة سؤال والآخر الكبير يجيبني على هذا السؤال. [المترجم]

[12]  صك لاكان  عبارة فائض المتعة (surplus enjoyment) على غرار عبارة ماركس فائض القيمة (surplus value). [المترجم]

[13] مصطلح أساسي عند جاك لاكان، يكفينا هنا أن نعرف أنه شيء مختلف عن اللذة أو مجرد المتعة بالمعنى الدارج لكلمة «pleasure»، فهي متعة مستمدة من الألم نفسه، من تكرار شيء مؤلم. الـ«jouissance» متعة متجاوزة لمبدأ اللذة، أي أنها  ليست متعة ناتجة عن مجرد محو الاستثارة والتوتر العصبي، كمتعة الأكل المزيل للجوع أو الشرب المزيل للعطش، وإنما هي متعة فائضة عن هذا الحد، متعة ليست ناتجة عن ضبط حالة الجسد الفسيولوجية المثالية، وإنما هي متعة من شأنها أن تتسبب في تقويض هذه الحالة من الأساس، فالـ«jouissance»  ليست هي المتعة التي تنالها من مجرد الأكل، وإنما المتعة التي تأخذها من كمية الطعام التي تأكها بعدما تشبع بالفعل (نجد مثالًا نموذجيًا على ذلك، في مشهد المطعم المروع من فيلم The Meaning of Life لمونتي بايثون). الـ«jouissance» هي متعة المدخنين ومدمني الخمر والمخدرات (متعة ليوناردو ديكابريو وجونا هيل في The Wolf of Wall Street، أو متعة شين بين وهو يدخن (في الحمام) بينما قلبه يكاد يتوقف في 21 جرام). هي المتعة التي نجدها في مشاهدة أفلام الرعب أو التراجيديات التي تتصدع لها القلوب، أو في أكل الشطة، حتى نذكر أمثلة أكثر ابتذالًا. وإلى الـ«jouissance» تنتمي المتعة التي يجدها المتشكي في شكواه من كربات الحياة، في فعل التشكي نفسه. [المترجم]

[14] “Rien ne prouve que le plaisir soit un phénomène heureux.” Georges Perros, Papiers collés 1 (Paris: L’Imaginaire/Gallimard, 1960), 207.

[15] Pedro Calderón de la Barca, Life Is a Dream, trans. John Clifford (London: Nick Hern, 1998), 4.

[16] Wex, Born to Kvetch, 2.

[17] أي الـ«eudaimonia»، وهي الخير الأسمى، أي الشيء المقصود لذاته وليس لغيره، الغاية من كل أفعال الإنسان. [المترجم]

[18]  تمامًا كحال الزوج في مسرحية جابريل غارسيا ماركيز خطبة لاذعة ضد رجل جالس. [المترجم]

[19] Fyodor Dostoevsky, Notes from Underground, trans. Richard Pevear and Larissa Volokhonsky (London: Vintage, 1993), 3.

[20]  يتجلى هذا التواطؤ في ما يسميه فرويد بالـ«negative therapeutic reaction»: عندما يوشك التحليل النفسي أن يؤتي أكله، يقوم المريض بإفشاله، كأن ينقطع عن الجلسات مثلا. [المترجم]

[21] Sigmund Freud, “A Difficulty in the Path of Psycho-Analysis,” in The Standard Edition of the Complete Psychological Works of Sigmund Freud, trans. James Strachey (London: Hogarth, 1955), 17: 142. Hereafter SE.

[22] “Il est certain que les hommes se donnent beaucoup de mal pour être malheureux. Mais le sont-ils?” Perros, Papiers collés 1, 142.

[23] وهذا أحد تجليات اكتشاف فرويد الأشد أهمية وخطورة: الـ«todestrieb»، أو الـ«death drive»، وتعني دافع الموت، وليس غريزة الموت كما تترجم خطأ. [المترجم]

[24]  مصدر إلهامي هنا هو مقالة مِلادن دولار الحديثة عن النفي، انظر:

“Hegel and Freud,” e-flux journal, no. 34 (April 2012).

[25] عبارة فرويد الأصلية هي: «البشر أكثر تخلقًا مما يتخيلون وأقل تخلقًا بكثير عما يظنون». [المترجم]

[26] العرض النفسي، وفقا لفرويد، هو تسوية أو حل وسط بين قوتين نفسيتين متنازعتين. قوة تكبت باعث أو رغبة ما وأخرى تقاوم هذا الكبت. [المترجم]

[27] الإزاحة والتحويل والتكثيف هي ما يسميه فرويد بالعمليات أو الآليات الأولية (اللاواعية) تمييزًا لها عن العمليات الثانوية (الواعية). وتتجلى بأوضح ما يكون في عمل الحلم الذي يحول مضمون الحلم الكامن (الرغبة اللاوعية) إلى مضمون الحلم الظاهر (الحلم الذي نراه في المنام)، عن طريق هذه الآليات. وأثناء تحويله للمحتوى الكامن إلى محتوى ظاهر، ينتج عمل الحلم التحريفات (التخفيات والتمويهات) التي نجدها في معظم الأحلام (والتي تجعلها عبثية للغاية أحيانًا). والغرض من هذه التحريفات هو إخفاء مضمون الحلم الكامن عما يسميه فرويد بـ«الرقيب» النفسي الذي يراقب الحلم. [المترجم]

[28]  العرض هو شكل المتعة الوحيد الممكن للعصابي، ومن هنا شدة تمسكه به. فالأعراض الجسدية للهيستيريا هي «النشوات الجنسية» (orgasms) الوحيدة الممكنة للهيستيري، كما يخبرنا فرويد. لنعيد كتابة عبارة شوستر إذن: تتألف مسرحية اللاوعي الهزلية، كوميديا اللاوعي من: عدم حصولك على ما تريده (أي البواعث والرغبات المكبوتة)، واستمتاعك بشيء آخر (أي العرض العصابي)، وهو الذي أردته على أية حال (أي المتعة). [المترجم]

[29]  “L’humanité tient à la vie, ce qui prouve que la vie est bonne.” Henri Bergson, Cours I Leçons de psychologie et de métaphysique (Paris: Presses Universitaires de France, 1990), 384.


الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.