عودة لاكان إلى فرويد (مقدمة كتاب «كيف نقرأ لاكان» لسلافوي جيجيك)
نُشر في موقع Lacan.com
ترجمة: كريم محمد
الترجمة خاصة بـ Boring Books
يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.
دعونا نمارس قليلًا من غسيل الدّماغ على أنفسنا[1].
في عام 2002، ترافقت مئويّة نشر كتاب «تفسير الأحلام» لفرويد بحملة جديدة من التهليلات المنتصرة التي أعلنت كيف أنّ التحليل النّفسيّ قد مات: فمع التقدمات الجديدة في علوم الدّماغ، يُوضَع التحليل النفسيّ أخيرًا في المكان الذي انتمى إليه طوال الوقت، في غرفة مهملات البحث الظلاميّ ما قبل العلميّ عن المعاني الخفيّة، وإلى جانب الكَهنة وقارئي الأحلام الدينيين. وكما يقول تود دوفريسن[2]، فإنّه ما من شخصيّة في تاريخ الفكر البشريّ كانت أكثر خطأً بشأن كافّة أساسيّاتها من فرويد -باستثناء ماركس، كما قد يضيف البعض. وبصورة فعّالة ومنتظرة، أُتْبِعَ في عام 2005 كتاب «الكتاب الأسود للشيوعيّة»، الذي يورد كافّة الجرائم الشيوعيّة[3]، بكتاب آخر اسمه «الكتاب الأسود للتحليل النّفسيّ» يُورد كلّ الأخطاء النظريّة والخِدَع السريريّة للتحليل النّفسيّ[4]. وبهذه الطريقة السلبيّة على الأقلّ، يُعرَض الآن التضامن المعمّق للماركسيّة والتحليل النفسيّ للجميع ليروه.
والحال أنّ هناك شيئًا في هذه الخَطابة الجنائزيّة. فمنذ قرنٍ، ومن أجل مَوْقعة اكتشافه للاواعي في تاريخ أوروبّا الحديثة، طوّر فرويد الإهانات الثلاث المتتالية للإنسان، تلك «العِلل النّرجسيّة» كما أسماها. أولى الإهانات هو أنّ كوبرنيكوس قد أثبتَ أنّ الأرض تدور حول الشمس، وبالتالي حرمنا، نحن البشر، من موقعنا المركزيّ في الكون. وتتمثّل الإهانة الثانية في أنّ داروين قد أثبتَ أنّ أصلنا نابعٌ من تطوّر أعمى، ومن ثمّ حرمنا من المكانة الامتيازيّة التي نحظى بها بين الكائنات الحيّة. الإهانة الثالثة، والأخيرة، هي عندما أجْلى فرويد نفسه الدّور المهمين للاواعي في السيرورات النّفسيّة، حيث غدا من الواضح أنّ الأنا الخاصّة بنا ليست حتى بسيّدةٍ على نفسها. واليوم، وبعد مئة عامٍ، بدأت تبزغُ صورةٌ أكثر تطرّفًا لذلك: فالقفزات العلميّة الأخيرة يبدو أنّها تضيفُ سلسلةً كاملة من الإهانات الإضافيّة لصورة الإنسان النرجسيّة: فذهننا نفسه ليس سوى ماكينة حاسوبيّة لمعالجة البيانات، وإحساسنا بالحريّة والاستقلاليّة هو محض وَهْم لمستخدم لهذه للماكينة. وعليه، وفقًا لعلوم الدّماغ اليوم، فإنّ التحليل النفسيّ بحدّ ذاته -بعيدًا عن كونّه هدَّامًا- يبدو بالأحرى أنّه ينتمي إلى الحقل التقليديّ للإنسانيّات الذي تهدده الإهانات الأخيرة.
إذن، هل التحليل النفسيّ اليوم عفا عليه الزمنُ حقًّا؟ يبدو الحال كذلك على ثلاثة مستويات مترابطة بينيًّا: (1) على مستوى المعرفة العلميّة، حيث يبدو أنّ النموذج الإدراكيّ-العصبيولوجيّ يجبّ النموذجَ الفرويديّ؛ (2) على مستوى الطبّ النفسيّ السريريّ، حيث إنّ العلاج التحليلي النفسي تقهقر سريعًا أمام حبوب الأدوية والعلاج السّلوكيّ؛ (3) على مستوى السّياق الاجتماعيّ، حيث إنّ صورة المجتمع، وصورة الأعراف الاجتماعيّة، والتي تكبح الدوافع الجنسيّة لدى الفرد، يبدو أنّها لم تعد صالحةً فيما يتعلّق بالسماح للميول الالتذاذية (hedonistic) اليوم.
وعلى الرّغم من ذلك، وفي حالة التحليل النفسيّ، لربّما يكون الحفل التأبينيّ متسرّعًا بعض الشيء، إنّه كتأبين لمريض ما تزال أمامه حياة طويلة في المستقبل. وخلافًا للحقائق «البيّنات» لنقّاد فرويد، يصبو هدفي إلى إثبات أنّه اليوم، واليوم فقط، آنَ أوانُ التحليلُ النفسيّ. وبقراءة فرويد من خلال لاكان، أي من خلال ما أسماهُ لاكان بـ «عودته إلى فرويد»، فإنّ التبصّرات الأساسيّة لفرويد أضحت، في نهاية المطاف، مرئيّة في بُعدها الحقيقيّ. لم يفهم لاكان هذه العودة على أنّها عودة إلى ما قاله فرويد، وإنّما بوصفها عودة إلى لُبّ الثورة الفرويديّة التي لم يكن فرويد نفسه على علمٍ بها بالكليّة.
استفتحَ لاكان [نصوصه ودروسه] عن «العودة إلى فرويد» بقراءةٍ لسانيّة لصّرح التحليل النفسيّ برمّته، مُغلّفةً بما يمكن أن يكون بمثابة الصياغة الفريدة ذائعة الصّيت له التي تقول: «اللاوعي يُبَنْيَن بوصفه لغةً». إنّ التصوّر الشّائع للاوعي هو أنّه بمثابة نطاق للدّوافع اللاعقلانيّة، وأنّه شيءٌ مُعارضٌ للنّفس الواعية العقلانيّة. بالنسبة إلى لاكان، تنتمي هذه الفكرة حول اللاوعي إلى فلسفة الحياة (Lebensphilosophie) الرومانتيكيّة ولا علاقة لها بفرويد. تسبّب اللاوعي الفرويديّ في عارٍ كهذا لا بسبب الادّعاء بأنّ النّفس العقلانيّة هي مُخضَعَة لمجال أكثر رحابةً من الغرائز اللاعقلانيّة العمياء، وإنّما لأنّها أثبتت كيف يمتثلُ اللاوعيُ نفسُه إلى قواعده ومنطقه -فاللاوعي يتكلّم ويفكّر. فليس اللاوعي مخزنًا للدوّافع الجامحة التي يجب أن تغزوها الأنا (ego)، بل اللاوعيُ بمثابة الموقع الذي تتحدّث بداخله الحقيقةُ الرّضيّة [التروماتيكيّة traumatic]. تكمنُ ههنا نسخة لاكان من عبارة فرويد ‘«حيثَ كان، سأكون»: فـ «لا يجب على الأنا أن تغزو الهُو»، الذي هو بمثابة موقع الدوافع اللاواعية، بل «عليّ أن أتجاسر لمقاربة موقع حقيقتي». فما ينتظرُني «هناك» ليس حقيقة عميقة عليَّ أن أتماهي معها، وإنّما حقيقة غير مُحتملَة عليّ أن أتعلّم العيشَ معها.
كيف، إذن، تختلف أفكار جاك لاكان عن مدارس التحليل النفسي السائدة وحتّى عن فرويد نفسه؟ فيما يخصّ المدارس الأخرى، فإنّ أوّل ما يلفت النّظر هو المضمون الفلسفيّ لنظرية لاكان. بالنسبة إلى لاكان، فإن التحليل النفسيّ، في شقّه الأكثر جوهريّةً، ليس بنظريّة أو بتقنية لمعالجة الاعتلالات النفسيّة، بل نظريّة وممارسة تجعل الأفراد يتجابهون مع البُعد الأكثر راديكاليّةً للوجود البشريّ. فالتحليل النفسيّ لا يوضّح السّبيل لفردٍ ما بشأن كيف يمكن أن يوائم نفسه/ها مع ضغوط الواقع الاجتماعيّ؛ لكنّه يشرح كيف يتأسّسُ شيءٌ ما مثل «الواقع» بحد ذاته في المقام الأوّل. كما إنّ التحليل النفسيّ لا يمكّن، ببساطة، إنسانًا ما أن يقبل بالحقائق المقموعة عن نفسه -أو نفسها-، بل هو يشرح كيف تبزغ أبعاد الحقيقة في الواقع البشريّ. بالنسبة إلى لاكان، فإنّ التشكّلات الباثولوجيّة مثل العُصاب والذّهان وغيرهما تتمتّع بكرامة المواقف الفلسفيّة الأساسيّة تجاه الواقع. فعندما أعاني من عصاب هوسيّ، فإن هذا «الاعتلال» يصبغُ علاقتي الداخليّة بالواقع، ويحدّد البنية الشّاملة لشخصيّتي. إنّ نقد لاكان الأساسيّ لمدارس التحليل النفسي الأخرى يتعلّق بتوجهاتها السّريريّة: إذ بالنسبة إلى لاكان، فإن هدف علاج التحليل النفسي لا يتمثّل في رفاه المتعالج أو الحياة الاجتماعيّة الناجحة أو تحقيق الذات الشخصيّ، وإنّما في جلب المتعالج للتجابه مع الإحداثيّات الأوليّة والمآزق المتعلقة برغبته.
فيما يتعلّق بفرويد، فإنّ أوّل ما يلفت النّظر هو أنّ الرافعة التي استخدمها لاكان في «عودته إلى فرويد» تأتي من خارج مجال التحليل النفسيّ تمامًا: ففي سبيل فتح صناديق الكنوز السريّة لفرويد، حشدَ لاكان سلسلةً مُنتقاة من النظريّات، من لسانيّات دو سوسير إلى الأنثربولوجيا البنيويّة لكلود ليفي شتراوس، وصولًا إلى نظريّة المجموعة الرياضيّة وفلسفات أفلاطون وكانط وهيجل وهيدجر. ولا غروَ في أنّ معظم المفاهيم الأساسيّة عند لاكان لا نظير لها في نظرية فرويد: فلم يأتِ فرويد بتاتًا على ذكر ثالوث المخياليّ، والرمزيّ، والفعليّ، ولم يتحدث أبدًا عن «الآخر الكبير» بوصفه نسقًا رمزيًّا. فرويد تحدّث عن «الأنا»، وليس عن «الذات». يستعملُ لاكان هذه المصطلحات المجلوبة من أفرع علميّة أخرى كأدواتٍ لاستئصال الفروق الموجودة ضمنيًّا عند فرويد، حتى وإن كان هو نفسه غير واعٍ بها. فمثلًا، إذا كان التحليلُ النفسيّ بمثابة «علاجٍ بالكلام» (talking cure)، وإذا كان يعالج الاضطرابات الباثولوجيّة بالكلمات وحدها، فلا بدّ له أن يرتكز إلى مفهوم واحد للكلام؛ والحال أنّ أطروحة لاكان هي أنّ فرويد لم يكن واعيًا بفكرة الخطاب الذي انطوت عليه نظريّته وممارسته، وأنّنا لا نستطيع أن نفصّل هذه الفكرة إلّا إذا أشرنا إلى اللسانيّات الدوسوسيريّة، ونظريّة أفعال الكلام وديالكتيكات الاعتراف الهيجلية.
لقد أتت «عودة لاكان إلى فرويد» أساسًا نظريًّا جديدًا للتحليل النفسيّ بعواقب جدّ وخيمة أيضًا على الطبّ السريريّ التحليليّ. [وهو منبع] الجدال، والأزمة، بل وحتّى التشهير، الذي لازم لاكان طوال حياته. ولم يقتصر الأمر على حرمانه عام 1953 من عضوية جمعيّة التحليل النفسيّ الدوليّة، بل إنّ أفكاره المثيرة استفزّت أيضًا العديدَ من المفكّرين التقدّميين، من الماركسيين النقديين حتّى النسويين. وعلى الرغم من أنّ لاكان عادةً ما يُنظَر إليه في الأكاديميا الغربيّة على أنّه واحدٌ من ما بعد الحداثيين أو التفكيكيين، إلّا أنّه قد نبا بشكلٍ واضح عن هذه المساحة التي تُحدّدها تلك المُسمّيات. وكان طوال حياته يتخلّص من كلّ المُسمّيات التي التصقت باسمه: مُحلّل نفسيّ، هيجلي، هيدجري، بنيويّ، ما بعد بنيويّ؛ ولا غرو في ذلك، فالسّمة الأكثر بروزًا من تعاليمه هي المساءلة الدائمة للنفس.
كان لاكان قارئًا ومؤولًا شرسًا؛ فبالنسبة إليه، التحليل النفسيّ برمّته ما هو إلّا منهجٌ لقراءة النصوص، الشفهيّة (كلام المتعالج) أو المكتوبة. ومن ثمّ، ما من سبيلٍ أفضل لقراءة لاكان من أن نمارس طريقته في القراءة، وأن نقرأ نصوص الآخرين مع لاكان. ذلك سبب أنّه، في كلّ فصلٍ من فصول هذا الكتاب، ستجابه فقرة من نصوص لاكان قطعةً أخرى (من الفلسفة، من الفنّ، من الثقافة الشعبيّة، من الأيديولوجيا). وسوف يُشرَح الموقف اللاكانيّ من خلال القراءة اللاكانيّة لنصّ الآخر. وهناك ميزةٌ أخرى لهذا الكتاب، ألا وهي الاستبعاد الكبير: فهو كتاب يتجاهل، بشكل شبه كامل، نظريّة لاكان لما يجري داخل التعالُج التحليلي النفسيّ. كان لاكان، قبل كلّ شيء، سريريًّا (clinician)، وتتخلّل الهموم السريريّة كلّ شيءٍ كتَبَه أو قامَ به. حتّى عندما يقرأ لاكان أفلاطون، أو الإكويني، أو هيجل، أو كيركجارد؛ فهي قراءة دائمًا ما تعالج إشكالًا سريريًّا دقيقًا. وهذا التغلغل الكلّيّ للهموم السريريّة هو ما يسمح لنا باستبعادها: فبالأساس، ولأنّ السرير موجود في كلّ مكان، يمكن للمرء أن يبتعد عنه ويحدّ من تأثيره، وصولًا إلى السّبيل الذي يصبغ فيه السرير كلَّ شيء يبدو غير سريريّ -وهذا هو الاختبار الحقيقيّ لمكانه المركزيّ.
وبدلًا من شرح لاكان من خلال سياقه التاريخيّ والنظريّ، سوف يستخدم هذا الكتاب، «كيف نقرأ لاكان»، لاكانَ نفسَه لشرح ورطتنا الاجتماعيّة والليبيديّة (libidinal). وعوضًا عن تقديم حكمٍ موضوعيّ، سينخرطُ الكتابُ في قراءة مُناصرة -وهي جزءٌ من النظريّة اللاكانيّة القاضية بأنّ كلّ حقيقةٍ متحيّزة. ولاكان نفسه في قراءته لفرويد يُجسّد قوّة هذه المقاربة المتحيّزة. يُشير ت. س. إليوت في كتابه «ملاحظات نحو تعريف الثقافة» (Notes Towards a Definition of Culture) إلى أنّ هناك لحظاتٍ يكون الخيارُ الوحيدُ فيها هو الخيار بين الطائفيّة والكُفر؛ أي عندما يكون السبيل الوحيد لإبقاء الدينِ حيًّا يتمثّل في إحداث انشقاق طائفيّ عن لُحمته الأساسيّة. وعن طريق انشقاقه الطائفيّ، وبنأيْ نفسه عن الرابطة الدوليّة للتحليل النفسيّ، أبقى لاكان التعاليم الفرويديّة حيّةً -ويتعيّن علينا اليوم أن نقوم بالأمر نفسه مع لاكان[5].
بصدد قراءة لاكان
إذا أغضى المرءُ الطرفَ عن النصوص القصيرة العرضيّة (المُقدمات، الافتتاحيّات، المداخلات المرتجلَة، المقابلات)، فمن الواضح أنّ أعمال لاكان ستنقسمُ إلى مجموعتين: السيمنارات (التي كانت تُعقَد كلّ أسبوع أثناء العام الدراسيّ منذ عام 1953 حتى وفاة لاكان، أمام جمهور أكبر من أيّ جمهور آخر) والكتابات (أي النصوص النظريّة المكتوبة). أمّا المفارقة التي أشار إليها جان-كلود ميلنر (Jean-Claude Milner) فهي أنّه خلافًا للطريقة المُعتادة لمعارضة للسيمنارات الشفويّة الخاصّة بالمنشورات المطبوعة لعموم الناس، فإنّ كتابات لاكان «نخبويّة»، لا يمكن قراءتها إلّا ضمن حلقة داخليّة، في حين أنّ الدّروس موجَّهة للجمهور الأكبر، وبالتالي سهلة المنال. يبدو الأمر كما لو أنّ لاكان يطور أولًا بصورة مباشرة خطًّا نظريًّا معيًّنًا بشكلٍ صريح، مع كلّ تذبذباته وأزقّته العمياء، ثمّ بعد ذلك يَخلُص إلى النتيجة بتشفيرات دقيقة ولكن منضغطة. ففي الواقع الحال، تُشبه سيمنارات وكتابات لاكان في المُعالجة خطاب المُحلّل النفسيّ والشخص الخاضع للتحليل. يتصرّف لاكان في المحاضرات مثل الشخص الخاضع للتحليل؛ فهو «يُقارن بحرّية»، ويرتجلُ، ويقفزُ، مخاطبًا جمهورَه، وبالتالي يلعبُ دورًا أشبه بالمحلّل الجماعيّ. وبالمقارنة، فإنّ كتاباته أكثر إيجازًا ومِنهاجيّةً، وتُلقي إلى القارئ بافتراضات غامضة عصيّة على القراءة كثيرًا ما تبدو على شكل نبوءات، متحديةً القارئ للشروع بالاشتغال عليها، ولترجمتها إلى أطروحات واضحة وتقديم أمثلة واستيضاحات منطقيّة عليها. وعلى النّقيض من النّهج الأكاديميّ المُعتاد، حيث يطرح المؤلّف أطروحةً ومن ثمّ يحاول أن يعضّدها بالحجج، فإنّ لاكان لا يترك هذه المهمّة للقارئ فحسب -بل القارئ كثيرًا ما يتوجّب عليه أن يتبيّن ما هي أطروحة لاكان تحديدًا من بين حشد الصياغات المتضاربة أو من بين غموض الصياغة التي تُشبه النبوءة. بهذا المعنى الدّقيق، فإنّ كتابات لاكان تشبه تدخّلات المحلل التي لا تهدف إلى تزويد الشخص الخاضع للتحليل برأيٍ أو ببيان جاهز، ولكن تهدف إلى ملاءمته للعمل.
لذا؛ ماذا، وكيف، نقرأ؟ الكتابات أم السيمنارات؟ الإجابة الصحيحة الوحيدة تتمثّل في تكرار نكتة «الشاي أم القهوة؟» القديمة: نعم، من فضلك! إذ يجب على المرء أن يقرأ الاثنتين كلتاهما. وإذا مضيت مباشرةً إلى الكتابات، فلن تحصل على أيّ شيءٍ، لذا سيتوجّب عليك أن تبدأ -لا أن تتوقّف- بالسيمنارات، لأنّه إذا قرأت السيمنارات وحدها، فلن تحصل على شيءٍ أيضًا. إنّ الانطباع بأنّ المحاضرات أكثر وضوحًا وشفافيّةً من الكتابات هو انطباع مضلّل بعمق: فكثيرًا ما تتذبذبُ، وتجترحُ مقاربات مختلفة. الطريقة السليمة هي قراءة محاضرة ثمّ المضيّ إلى قراءة ما يُطابقها من الكتابات لـ«تبلغ مرام» المحاضرة. نحنُ نتعاملُ ههنا مع زمانيّة الـ (Nachtraeglichkeit) (وهو ما يُترَجم بغير اتقان بـ«الفعل المُرجَأ») والتي تناسب المعالجة التحليليّة بحدّ ذاتها: فالكتابات واضحة، وتقدّم صيغًا دقيقة، لكنّنا لا نستطيع أن نفهمها إلّا بعد قراءة السيمنارات التي تُقدِّم خلفيّة لها. والحال أنّ هناك حالتين بارزتين هما السيمنار السابع بشأن أخلاقيات التحليل النفسيّ وفصل «كانط مع الماركيز دو ساد» من الكتابات، بالإضافة إلى السيمنار الحادي عشر حول المفاهيم الأربعة الأساسيّة للتحليل النفسيّ و«موقع اللاواعي». ومن المهمّ أيضًا المقال الافتتاحيّ للاكان في الكتابات بعنوان «سيمنار حول الرسالة المسروقة».
إنّ أكثر من نصف سيمنارات لاكان مُتاحة الآن بالفرنسيّة؛ وعادةً الترجمات الإنجليزيّة التي تليها بعدها بسنوات تكون ذات جودة عالية. أمّا الكتابات، فمتاحة الآن فقط في مجموع الأعمال (والترجمة الجديدة التي قام بها بروس فينك أفضل كثيرًا من الترجمة القديمة). وقد كلّف لاكان بنفسه جاك-ألان ميلر بمهمّة تحرير سيمناراته للنشر، ووصفه بأنّه «الشخص (الوحيد) الذي يعرف أن يقرأني» -وقد كان محقًّا في هذا: فكتابات ميلر العديدة وسيمناراته هي أفضل مدخل للاكان إلى حدّ بعيد. يُحقّق ميلر معجزةً وهو يُصيّر صفحةً غامضةً من الكتابات شفافة وواضحة على أكمل وجه، بحيث يُترَك المرء متسائلًا: «كيف لم أفهمها بنفسي؟».
[1] - Jacques Lacan, The Ethics of Psychoanalysis, London: Routledge 1992, p. 307.
[2] - Todd Dufresne, Killing Freud: 20th Century Culture and the Death of Psychoanalysis, London: Continuum Books 2004.
[3] - Le livre noir du communisme, Paris: Robert Laffont 2000.
[4] - Le livre noir de la psychanalyse: vivre, penser et aller mieux sans Freud, Paris: Arenes 2005.
[5] - نظرًا إلى أنّ الكتاب هو مدخلٌ إلى لاكان، مركزًا على بعض مفاهيمه المركزيّة، ولما كان هذا الموضوع هو محور اشتغالي السنوات الماضية، فلم أستطع أن أتفادى قدرًا من «الترقيع» (cannibalization) بمقاطع من كتبي المنشورة سابقًا بالفعل. وكضرب من الاعتذار، حرصتُ أيّما حرصٍ على منح كلّ الفقرات المُستعارة لمسة جديدة ههنا.