ماركس: الهيجلي الشاب
بيتر سنجر
من كتاب: ماركس، مقدمة قصيرة جدًا
ترجمة: أمير زكي
نوفمبر 2018
النص هو ترجمة الفصل الثاني من كتاب «ماركس: مقدمة قصيرة جدًا» لبيتر سنجر*،Marx: A very short Introduction – Peter Singer – Oxford University Press -2000
لقراءة الفصل الأول
الترجمة خاصة بـ Boring Books
يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.
* بيتر سنجر (1946) فيلسوف أسترالي وأستاذ الأخلاق الحيوية بجامعة برنستون.
بعد مرور ما يتجاوز العام من وصوله إلى برلين كطالب، كتب ماركس إلى أبيه أنه صار الآن يربط نفسه أكثر فأكثر بـ «الفلسفة المعاصرة». كانت هذه «الفلسفة المعاصرة» فلسفة ج.و.ف هيجل، الذي درَّس في جامعة برلين بداية من عام 1818 وحتى وفاته عام 1831. بعد عدة أعوام، وَصَف فريدريش إنجلز تأثير هيجل على الفترة التي بدأ فيها تشكيل أفكاره مع ماركس:
«شَمَل النسق الهيجلي نطاقًا عظيمًا لا يقارن به أي نسق أبكر، وطوَّر داخل هذا النطاق ثراء من الأفكار يظل مبهرًا حتى اليوم...
يمكن للمرء أن يتخيل مدى التأثير الهائل الذي أحدثه هذا النسق الهيجلي في مناخ ألمانيا الممسوس بالفلسفة. كان موكبًا انتصاريًا استمر لعقود ولم يتوقف على الإطلاق بوفاة هيجل. على العكس، وتحديدًا بداية من عام 1830 وحتى عام 1840 سيطرت (الهيجلية) وحدها تقريبًا، وبشكل متفاوت أصابت منافسيها بعدواها».
هذا الارتباط المقرب الذي بدأه ماركس عام 1837 سوف يؤثر على تفكيره حتى نهاية حياته. حين كتب عن هيجل عام 1844، أحال ماركس إلى كتاب «فينومينولوجيا العقل» باعتباره «الميلاد الحقيقي لفلسفته وسرها» (EPM 98). هكذا يُعتبر هذا العمل الطويل موضعًا مناسبًا نبدأ منه عملية فهمنا لماركس.
الكلمة الألمانية المقابلة لـ «العقل» تُترجَم أحيانًا إلى «الروح». يستخدم هيجل الكلمة ليحيل إلى الجانب الروحي من العالم، الذي يبدو في كتاباته كنوع من العقل الكلي. عقلي وعقلك وعقل كل كائن واع آخر هو تبدٍّ جزئي ومحدود لهذا العقل الكلي. يوجد قدر كبير من الجدل حول إذا كان المقصود بهذا العقل الكلي الإله أم أن هيجل، على طريقة مذاهب وحدة الوجود، يطابق الإله مع العالم ككل. لا توجد إجابة شافية عن هذا السؤال؛ ولكن يبدو من المناسب والملائم أن نميز العقل الكلي عن عقولنا الشخصية بكتابة «العقل» الكلي بخط عريض. [i]
يقتفي «فينومينولوجيا العقل» أثر تطور العقل بداية من تجليه الأول كعقول فردية وواعية، ولكن ليست واعية ذاتيًا ولا حرة، إلى العقل كوحدة حرة وواعية تمامًا بذاتها. ليست العملية تاريخية كلية ولا منطقية كلية، ولكنها مزيج غريب من الاثنين. يمكن للمرء أن يقول إن هيجل يحاول أن يُظهر أن التاريخ هو تقدم العقل في طريق ضروري منطقيًا، طريق لا بد أن يخوضه من أجل الوصول إلى هدفه النهائي.
تطور العقل هو تطور ديالكتيكي – وهو المصطلح الذي صار مرتبطًا بماركس لأنه يتم الإشارة إلى فلسفته على أنها «المادية الديالكتيكية» (الجدلية). العناصر الديالكتيكية من نظرية ماركس متخذة من هيجل، لهذا هنا موضع مناسب لنرى ما هو «الديالكتيك».
ربما كانت أكثر الفقرات المحتفى بها في «فينومينولوجيا العقل» هي المتعلقة بالعلاقة بين السيد والعبد. إنها تعرض جيدًا ما يعنيه هيجل بالديالكتيك، وتقدم الفكرة التي تردد صداها في رؤية ماركس للعلاقة بين الرأسمالي والعامل.
لنفترض أن لدينا شخصين اثنين مستقلين، واعيين باستقلالهما، ولكنهما غير واعيين بطبيعتهما المشتركة كجانبين من عقل كلي واحد. يرى كل منهما الآخر على أنه غريم، شخص يحد سيطرته على كل شيء آخر. هكذا يكون الموقف غير مستقر، يغلب عليه الصراع، يقهر فيه الواحد الآخر ويستعبده. ولكن علاقة السيد/العبد ليست مستقرة كذلك. على الرغم مما يبدو في البداية من أن السيد يحظى بكل شيء والعبد لا يحظى بشيء، إلا أن العبد هو الذي يعمل، ومن خلال عمله يُغَيِّر طبيعة العالم. في هذا التأكيد على طبيعته ووعيه بالعالم الطبيعي، يحظى العبد بالرضا ويطوِّر نوعًا من الوعي الذاتي، بينما يصير السيد معتمدًا على العبد. هكذا لا بد أن يكون الناتج النهائي هو تحرير العبد، وتجاوز الصراع المبدئي بين الكيانين الاثنين المستقلين.
هذا هو القسم القصير الوحيد في «الفينومينولوجيا»، وكله يقتفي أثر تطور العقل وهو يتجاوز التناقض أو التعارض. العقل كلي في أصله، ولكن في شكله المحدود، كعقول الأشخاص المستقلين، ليس واعيًا بطبيعته الكلية – أي أن الناس المستقلين لا يرون أنفسهم كأجزاء من العقل الكلي الواحد. يصف هيجل هذا على أنه الموقف الذي «يغترب» فيه العقل عن نفسه، أي أن الناس (الذين هم تبديات للعقل) يتعاملون مع الناس الآخرين (وهم أيضًا تبديات للعقل) كأشياء أجنبية معادية، خارجة عن أنفسهم، بينما هم في الحقيقة جميعًا أجزاء من الكل العظيم الواحد.
لا يمكن للعقل أن يكون حرًا وهو في حالة اغتراب، لأنه في تلك الحالة يبدو أنه يقابل معارضة وعقبات أمام اكتمال تطوره. لأن العقل لانهائي حقًا وشامل، التعارض والعقبات ليست سوى مظاهر، نتيجة أن العقل لا يدرك نفسه على ما هو عليه، ولكنه يَعتَبِر ما هو حقًا جزء من نفسه كشيء غريب ومعاد له. تلك القوى، التي يبدو من المظهر أنها قوى غريبة، تحد حرية العقل، لأنه إذا لم يعرف العقل إمكانياته اللانهائية لا يمكن أن يمارس هذه الإمكانيات لينظِّم العالم وفقًا لخططه.
تقدم التطور الديالكتيكي للعقل في فلسفة هيجل هو دومًا تقدم نحو الحرية. يكتب قائلًا: «تاريخ العالم ليس إلا تقدم الوعي بالحرية». هكذا يُعتبر كتاب "الفينومينولوجيا" ملحمة فلسفية هائلة، تقتفي آثار تاريخ العقل بداية من تلمس خطواته الأولى بداخل عالم عدائي حتى اللحظة التي يدرك فيها نفسه كسيد على العالم، يصل في النهاية إلى العلم الذاتي والحرية.
كان لفلسفة هيجل عاقبة غريبة كانت لتسبب الحرج إذا واجهت كاتبًا آخر متواضعًا، وهي إذا كان التاريخ كله هو قصة عقل يسعى لهدف، ألا وهو فهم طبيعته، فهذا الهدف تم تحقيقه بالفعل، باكتمال كتاب «الفينومينولوجيا» نفسه. وحين يستوعب العقل، المتبدي في عقل هيجل، طبيعته، يكون قد تم الوصول للمرحلة الأخيرة من التاريخ.
بالنسبة لنا يبدو الأمر عبثيًا. خليط هيجل الفكري من الفلسفة والتاريخ صار قديم الطراز من فترة طويلة. ولكنه كان يؤخذ بجدية في شباب ماركس. بالإضافة إلى ذلك يمكننا استيعاب جل كتاب «الفينومينولوجيا» حتى لو رفضنا مفهوم العقل الكلي باعتباره الواقع المطلق لكل الأشياء. يمكننا أن نتعامل مع مفهوم «العقل الكلي» كمصطلح جمعي لكل العقول الإنسانية. هكذا يمكن أن نعيد كتابة «الفينومينولوجيا» بمعنى أنه الطريق نحو التحرر الإنساني، قصة العقل التي تصير قصة الروح الإنسانية.
هذا ما حاولته مجموعة من الفلاسفة عُرفت بالهيجليين الشباب في العقد الذي تلا وفاة هيجل. يرى التفسير الأرثوذوكسي لهيجل أنه طالما كان المجتمع الإنساني تبديًا للعقل في العالم، فكل شيء صحيح وعقلاني بما هو عليه. يمكن الاستعانة بالعديد من الفقرات في أعمال هيجل لدعم هذه الفكرة. في بعض الأوقات بدا أنه يعتبر الدولة البروسية تجسيدًا مطلقًا للعقل. ولأن الدولة البروسية كانت تدفع له أجره كأستاذ للفلسفة في برلين، لا يفاجئنا أن الهيجليين الشباب الأكثر راديكالية تبنوا وجهة نظر ترى أن هيجل خان فلسفته بكتابة تلك الفقرات. وكان من بينهم ماركس، الذي كتب في أطروحة الدكتوراه: «إذا قدَّم الفيلسوف التنازلات حقًّا، فمن واجب أتباعه أن يستخدموا الأساس الداخلي لفكره لإلقاء الضوء على تعبيراته الخرافية فيها». (D 13)
بالنسبة للهيجليين الشباب، كان «التعبير الخرافي» لفلسفة هيجل هو قبوله للوضع السياسي والديني والاجتماعي في بروسيا في بداية القرن التاسع عشر: الـ «الأساس الداخلي» كان قصة العقل الذي يتجاوز الاغتراب، المُعاد تفسيره في قصة الوعي الذاتي الإنساني الذي يحرر نفسه من الأوهام التي تعيق تحقيق الفهم الذاتي والحرية.
أثناء السنوات التي قضاها طالبًا في برلين، ولعام أو اثنين بعدها، كان ماركس مقربًا من برونو باور، المحاضر في اللاهوت والهيجلي الشاب البارز. تحت تأثير باور، أمسك ماركس بخناق الدين الأرثوذوكسي باعتباره الوهم الرئيسي الذي يقف عقبة في سبيل الفهم الذاتي الإنساني. والسلاح الرئيسي ضد هذا الوهم هو الفلسفة. في مقدمة أطروحته للدكتوراه كتب ماركس:
«لا تجعل الفلسفة هذا الأمر سرًا. إعلان بروميثيوس –(أزدري كل الآلهة)- هو وظيفتها، هو شعارها ضد كل الآلهة في السماء وعلى الأرض، الآلهة الذين لا يدركون وعي الإنسان بذاته، باعتباره المتعالي الأعظم. لا توجد وظيفة أخرى بجانب تلك الوظيفة».
(D13-13)
بالتوافق مع المنهج العام للهيجليين الشباب، استخدم باور وماركس نقد هيجل نفسه للدين للوصول لاستنتاجات أكثر راديكالية. في «الفينومينولوجيا» يشير هيجل إلى الدين المسيحي في إحدى مراحل تطوره كشكل من الاغتراب، فبينما يحكم الإله السموات، يسكن البشر «وادي الدموع» المنحط والذي لا قيمة له بالمقارنة بالسماء. الطبيعة البشرية منقسمة بين طبيعتها الجوهرية، الخالدة والسماوية، وطبيعتها غير الجوهرية، الفانية والأرضية. هكذا يرى الأفراد طبيعتهم الجوهرية وكأنها تسكن مملكة أخرى، هم مغتربون عن وجودهم الفاني والعالم الذين يعيشون فيه حقًا.
هيجل، الذي يتعامل مع تلك المرحلة كمرحلة عابرة من الاغتراب الذاتي للعقل، لم يتوصل إلى نتائج عملية منها. أعاد باور تفسيرها بشكل أوسع بالإشارة إلى الاغتراب الذاتي للبشر. استمر قائلًا إن البشر هم مَن خلقوا هذا الإله، الذي يبدو الآن أن لديه وجودًا مستقلًا، وجودًا يجعل من المستحيل على البشر أن يعتبروا أنفسهم «المتعالي الأسمى». هذه النتيجة الفلسفية تشير إلى مهمة عملية: أن تنتقد الدين لتُظهر للبشر أن الإله من صنيعتهم، وبالتالي إنهاء خضوع الإنسانية للإله واغتراب البشر عن طبيعتهم الحقيقية.
هكذا اعتقد الهيجليون الشباب أن فلسفة هيجل غير مكتملة وعُرضت بغموض، وتكون مفهومة إذا أُعيد كتابتها من منظور العالم الواقعي بدلًا من عالم العقل الغامض. تم فهم «العقل» على أنه «الوعي الذاتي للبشر». صار هدف التاريخ هو تحرير البشرية، ولكن لن يمكن تحقيق ذلك إلا بتجاوز الوهم الديني.
---
اختصارات الكتب
Epm: Economic and Philosophical Manuscripts of 1844 (المخطوطات الاقتصادية والفلسفية لعام 1844)
D: Doctoral thesis (أطروحة الدكتوراه)
[i] حافظنا هنا على رأي الكاتب، ولكن لا بد أن نذكر أن التقليد الفلسفي العربي معظمه اعتمد كلمة «الروح» كمقابل لكلمة Geist الألمانية، في حين فرَق بينها وبين كلمة «روح» المعجمية بتذكير الكلمة، هكذا تكون الروح الهيجلية هي «الروح المطلق» وليست «الروح المطلقة».
One Reply to “ماركس: الهيجلي الشاب”