المدينة والمشاعة: قصةٌ لعصرنا

الفصل الثاني من قسم "المشاعة" في كتاب "إمسك حرامي! المشاعة، والتطويقات، والمقاومة" (2014) لبيتر لينيبو

ترجمة أحمد حسان

اقرأ الفصل الأول والفصل الثاني

* مؤرخ ماركسي أمريكي متخصص في التاريخ البريطاني والتاريخ الأيرلندي وتاريخ العمل وتاريخ المحيط الأطلسي في حقبة الاستعمار

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.


تصميم Negative Graphics

تُقدّم الاحتلالاتُ البلدية والمخيّمات الحضرية لعام 2011 نقطةَ الانطلاق لهذه التأملات حول المدينة والمشاعة، وكذلك لقصةٍ1.

ميدان تقسيم، ميدان التحرير، ميدان سينتاجما، ﭘويرتا دل سول، زوكوتي ﭘارك، أوسكار جرانت ﭘـلازا، كاتدرائية سان ﭘول: تاريخيًا، نمت المدينة حول هذه الأماكن متوسِّعةً حول مركزٍ مشترك. وعادت هذا الأماكن إلى الحياة مرةً أخرى كأماكن تجمّعٍ كان غرضها الأوليّ أن تثير النقاش محليًا وكوكبيًا2. وكانت مشاعةً بقدر ما لم تكن علاقاتُها الداخلية علاقاتِ تبادلٍ سلعي، وسادت فيها روحٌ مناهضةٌ للمراتبية، أو "نزعةٌ أفقية"، وجرى فيها تنظيمٌ ذاتيٌ للاحتياجات الإنسانية الأساسية من قبيل الأمن، والطعام، والتخلّص من النفايات، والصحة، والمعرفة، والتسلية.

جرت هذه المخيمات وسط سجالٍ عالمي حول المشاعات أطلقهُ زاباتيستا المكسيك بعد إلغاء المادة 27 من الدستور المكسيكي، التي تتيح أراضي مشاعٍ في القرية، هي الإخيدو ejido. ومزَج النقاشُ الأمريكي الجنوبي الخطابَ الدستوري بالممارسات المشاعية للشعوب الأصلية. وفي عام 2009، تم منح جائزة نوبل في الاقتصاد لإلينور أوستروم Elinor Ostrom "لتحليلها للإدارة الاقتصادية، خصوصا للمشاعات". ومما له مغزى أن الجائزة كانت من نصيب إمرأةٍ بالضبط لأن المشاعةَ كانت تاريخيًا المجالَ الذي تمتعت فيه النساء ببعض التكافؤ مع الرجال، كما بيّنت جانيت نيسون Jeannette Neeson في دراستها بعنوان مشاعيون Commoners 3.

كانت مفارقة حركة أوكيوباي Occupy هي المحاولةُ الإنسانية الواعية لمشيعة قلب المدينة المُخصخَص في حين يبدو أن الدلائل التاريخية تعتبر ذلك استحالةً، بل تناقضًا في الحقيقة. في مقالٍ هامٍ نُشر عام 1950، وصف عالم الأركيولوجيا وما قبل ـ التاريخ الواسع النفوذ ف. جوردون تشايلد V. Gordon Childe مرحلةً اقتصاديةً جديدة في التطور الاجتماعي بدأت منذ حوالي خمسة آلاف عام، هي المدينة، أو "الثورة الحضرية" كما سمّاها، أو خلق المدينة4 . وكانت تتضاد مع مرحلتي العصر الحجري القديم والعصر الحجري الحديث (اللتين تناظران على نحوٍ معين مرحلتي "الوحشية" و الهمجية" للقرنين الثامن عشر والتاسع عشر). وسواء تميّزت أيٌ من هاتين المرحلتين المبكرتين بجماعاتٍ جوّالة من الصيادين وجامعي الثمار أو بقرى صغيرة تحيا حياة الكفاف بتدجين النباتات والحيوانات، لم يَسُد في أيٍ منهما لا الخصخصة ولا تطويق الملكية. وبدلا من ذلك اعتمد المجتمع على العمل التعاوني، والموارد المشاع، والتوزيع المجتمعي. أو ما يمكن أن نُسمِّيه "المشاعة".

البلاط، والحصن، والميناء

على هذا النحو، يبدو أن المدينة والمشاعة ضدّين. المدينة هي مكانٌ يُستهلَكُ فيه الطعام، بينما مشاعة الريف هي مكانٌ لإنتاجه. الدولةُ -المدينة تسبق الدولة- الأمة لكن لا تسبق المشاعة.

المدينة، المحاطةُ في الأصل بالأسوار، عبّرت عن التناحر مع الريف. اعتقد جون هورن تووك John Horne Tooke الراديكالي السجين وعالمُ أصول الكلمات لأعوام تسعينات القرن الثامن عشر، أن كلمة "حاضرة" مشتقّةٌ من الأنجلو-ساكسونية وتعني مُطوَّقٌ، مُحاطٌ، أو مُغلَقٌ5. وبالمقابل، اعتدنا أن نميل إلى رؤية المشاعة بدون تطويقات وفي علاقةٍ مفتوحة مع الأرض، والغابة، والجبل، والأنهار، والبحار. المدينة هي موقع الأسواق، ومقصد القوافل، والمحطة النهائية للسفن، وموطن الصُنّاع المتخصّصين، ومن ثم فإن التجارة والمدينة متضافرتين. حقّقت المدينة وظائفَ عديدة: التحصين ضد تمرّد الأرقاء والغزو الأجنبي، والقانون والسيادة، والتبادل والتجارة. كحصنٍ، وبلاطٍ، وميناء، جسّدت المدينة مبدأ التطويقِ في كل هذه الوظائف.

لا يمكننا التفكيرُ في المدينة إلّا على أساس الطبقة. فتقليديًا، كان سكانها ينقسمون إلى ثلاثة أقسام، النبلاء، والعوام، والبروليتاريا. وحين كان الفلاحون يطالبون بعودة مشاعاتهم، كانوا يذهبون إلى المدينة مثلما ذهبوا إلى لندن خلال تمرد الفلاحين الكبير (1381). حرّروا السجناء ودمّروا الدلائل المكتوبة لنزع ملكية المشاعات.

كانت الحريةُ للرأسمالي تعني الحريةَ من القيود على التجارة، والأسواق، والإنتاج التي ميّزت مدينة العصر الوسيط. كذلك كانت الحريةُ تعني حريةَ الحركة. إلاّ أن هذا استلزم تناقضاً. فقد تعارض مبدأ الحركة مع مبدأ التطويق. سعى الرأسماليون "إلى هدم البنيات القديمة" بما في ذلك الأسوار المحيطة. كان المُتَّجَه بين الحاضرة والريف هو العربةُ ذات العجلات والطريق، أو في حالة المستَعمرة والحاضرة المتروبوليتانية، المساراتُ البحرية والسفينة. وفي الريف أصبح الطريقُ مشهدَ السرقات، التي جرى تخليدها في اسم "قاطع الطريق". صارت سرقة الطريق السريع مرادفةً للتربُّح. كان هرمس إلهَ كلٍ من اللصوصية والتجارة. أصبح الشارعُ هو الطريق العام. تغيّر معنى "traffic" من تبادلِ السلع إلى حركة المركبات على الطرق التي تربط إلى الأبد بين السرعة، والجشع، والاختناق. وخلال تسعينات القرن الثامن عشر تحدّد تنظيمُ الاتجاهات على الشوارع: على اليمين لفرنسا ومستعمراتها، وعلى اليسار في بريطانيا ومستعمراتها6.

ومثلما تسقطُ أسوارٌ، ترتفع أخرى. يبدأ عصرُ العزلِ العظيم ــ المستشفى، المصنع، معزِل الأرقاء، السجن، السفينة، ملجأ المجانين، دار المسنّين، الحضانة، المدرسة، المعسكر ــ تصبح كبسولاتٍ مغلقة يسود فيها مبدأ السيطرة كما سمّاه بنتامBentham 7.

انضم مشهدُ السلطةِ الحضري إلى استعراض السلعِ الحضري والنتيجةُ أن أصبحت المدينةُ مصفوفةً للألم ــ قدّمت آلاتُ التعذيب، ومواقع الجَلد، والمشانق، وأقفاصُ تعليق جثث المجرمين، وأماكن الاحتجاز، ودور الإصلاح، والورش، والزنازين بؤراً للتجمعات الجماهيرية. وعند نقطة الاتصال بين المدينة وبين الريف كانت تقف المشانق، المسمّاة تايبورن Tyburn، حيث لقي الآلافُ مصرعهم.

في إنجلترا، واسكتلندا، وويلز، وإيرلندا كانت تجري عمليةُ تطويقٍ واسعة. ونحن مُطَّلعون على هذا فيما يخصّ الأرض: قوانين برلمانية في إنجلترا وويلز، عمليات إخلاءٍ في الأراضي المرتفعة الاسكتلندية، قوانين جزائية في أيرلندا. لكننا أقل اطّلاعًا على التطويق في المصنع، والسجن، والبنيات التحتية الحضرية. فالأسوار التي دافعت عن المدينة ذات حينٍ من الأعداءِ القادمين من الريف جرى الآن تمثُّلها داخليا لتُطوِّق الثروةَ الحضرية من خلق مشاعاتٍ في المدينة من جانب العمال الذين فقدوا مشاعاتهم في الريف.

وضع تشايلد "الثورة الحضرية" في تضادٍ مع ثورة العصر الحجري الحديث التي سبقتها ومع ما سماه (مُتَّبعًا حكمة العصر) "الثورة الصناعية". إذا كانت العجلة، والمحراث، والقارب الشراعي هي الطابعُ التكنولوجي للثورة الحضرية، فإن الآلة البخارية، أو الآلة الحرارية، لأواخر القرن الثامن عشر قد غيّرت الثلاثة وأتاحت "تحوّلاً عظيما" في علاقة البشر بالأرض وببعضهم بعضاً8. وحدث هذا أولاً في إنجلترا.

منذ مائتي عام كانت لندن أضخمَ مدينة في العالم، وكانت تحكمه. وبوصفها مركزَ العالم المصرفي نقلت الثروة من الريف إلى المدينة، ومن المستعمرة إلى الحاضرة الاستعمارية. كان نقلها البحري هو الأعظم، كانت مئات من السفن تصل كل عامٍ من كل أنحاء العالم؛ وكان سكانها عديدين، منقسمين بين ميادين الوست إند وبين الأحياء الفقيرة للإيست إند. كانت مقر قيادة الحكومة، والكنيسة، والجيش، والبحرية.

تلخّص ثلاثة أسوارٍ كبرى لندن في ذلك العصر. أولاً، أعاد توماس دانسر Thomas Dancer تصميم سجن نيوجيت بعد أن دُمِّر في حوادث شغب جوردون عام 1780. ثانيًا، تعاون مع جون سوان John Soan، معماري بنك إنجلترا. وبحلول عام 1796 كانا قد هدما المقارَ السكنية المجاورة وبنيا جدارًا دفاعيًا واقيًا، يحجب مخزونات الذهب، والفضة، والعملة، والسجلات الورقية للدَّين القومي. وفي عام 1803، قارنه دليلٌ للندن بـ"تطويق سجنٍ، جدارٍ ككومٍ هائل، مضادٍ للرصاص تقريبًا"9. ثالثًا، سور مرافيء الهند الغربية ومرافيء لندن، كان "مُطوَّقًا ومحاطًا بجدارٍ من الطوب القوي أو الأحجار لا يقل ارتفاعه عن 30 قدما.. وخارج السور مباشرةً، سيكون هناك خندقٌ بعرض 12 قدمًا.. يتم إبقاؤه ممتلئًا على الدوام بمياه بعمق 6 أقدام، ولا يُقام منزلٌ أو مبنى لمسافة 100 ياردة خارج السور". القانون، والمال، والسلعة: السجن ، والبنك، والميناء المُسوَّرة جميعها.

وفي عام 1801، لم يعد المخطِّطون العسكريون للندن يعتمدون على السور. فتحصين لندن ككلٍ كان مُفرط التكلفة. وبدلًا من ذلك، بكلمات جورج هانجر George Hanger، فإن "كل حقلٍ مُطوَّقٍ هو تحصينٌ طبيعي: الخندق هو القناة، والضفة هي المتراس، والسياج على قمتها هو خط دفاعٍ طبيعي"، و"أعني أن أنازلهم على كل بوصةٍ من الأرض لأميالٍ، من خلال تلك القلاع الطبيعية المُطوَّقة". كان يعتقد أن العدو سيهاجمُ من المشاعة أو الحقل ـ المشاع.10

كان الشارع جزءاً من المشاعة الحضرية. لم يكن فحسب مكانَ المرور، أو حركة السلع. كان يربط بين المُنتِج وبين المستهلك، ويربط بين المُنتِجين لمختلف المكوّنات في ورشٍ منفصلة. كان موقعَ الرياضة، والمسرح، والكرنفال، والغناء. وقدّمت نداءات باعة لندن المتجولين جزءاً دائماً من أصوات المدينة. وبناءً على عُرفٍ حضريٍ مُوقّر كان يمكن لفنان العرائس أن ينصب عرضه الفكاهي [بانش وجودي]*Punch-and-Judy في وسط الشارع. كان الشارع شبقياً، والسائرُ في الشارع مرادفٌ للعامل الجنسي. وعلى طول الشارع كان تطور الطِوار أو "الرصيف". رُسمت الحدودُ بين حركة السير بالعجلات والسير بالأقدام بما يناظرُ التقسيم بين "الاقتصاد" وبين "المجتمع" أو بين الإنتاج الاقتصادي وإعادة الإنتاج الاجتماعية.

التناحر القديم بين الحاضرة والريف يوازي التناحرَ الأحدث بين المستعمرة وبين الحاضرة الإمبريالية الضخمة. جذبت المدينةُ الشبابَ والنشيطين في الريف، مثلما كانت الحاضرةُ الضخمة هي وجهة الفقراء من الأجزاء المُستَعمَرة من العالم، أو مُعذَبي الأرض بتعبير فرانز فانون. تجمع مدينةُ الشمال الكوكبية أناساً من الجنوب الكوكبي -آسيا، وأمريكا، وإفريقيا- الذي ظلت فيه أشكالُ المشيعة باقيةً حتى القرن الواحد والعشرين. كتب ماركس وإنجلز في البيان الشيوعي، "مثلما جعلت [الرأسمالية] الريفَ مُعتمداً على المدن، كذلك جعلت البلدان الهمجية وشبه ـ الهمجية مُعتمدةً على البلدان المتحضّرة، جعلت أممَ الفلاحين معتمدةً على أمم البورجوازيين، الشرق على الغرب".

أيرلندا وهاييتي، إدوارد وكاثرين

كانت أيرلندا أقدمَ مستعمرات إنجلترا. وكانت هاييتي أغنىَ مستعمرات فرنسا. وكانت فرنسا وإنجلترا مُنخرطتين في حربِ طويلة، وعالمية، كجزءٍ من نزاعٍ قديم، وما يهمنا أكثر، حربِ أفكار، حربٍ بين الحرية، والمساواة، والإخاء، من جهة، وبين الكنيسة، والمَلك، والمِلكية من جهةٍ أخرى. وتمردت كلتا المستعمرتين. هاييتي ضد فرنسا في أغسطس 1790، وأيرلندا بتشكيل منظمةٍ ثورية في أكتوبر من نفس العام، انطلقت أخيرا في تمرد ضد إنجلترا عام 1798. بذلك هددت الأطرافُ المركزَ. كان للمشاعة ديناميةٌ جيوسياسية.

جسّد إدوارد ماركوس ديبارد Edward Marcus Despard، وزوجته، كاثرين Catherine، المرأة الإفريقية الأمريكية، هذه التحدّيات. وُلد هو في أيرلندا عام 1750. وأبحر إلى جامايكا عام 1765، وبقي في الكاريبي أو أمريكا الوسطى حتى عام 1790. عاد إلى الجزر البريطانية وكان عليه أن يقضي الإثنتى عشرة سنة التالية، ربما أكثر سنوات التاريخ البشري ثوريةً، في سجون لندن (باستثناء سجن شروزبيري) -في كينجز بنش، وكولدباث فيلدز، والبرج، وتوتهيل فيلدز، ونيوجيت، وهورسمونجر لين.

كان هو ثورياً نشيطاً من أجل أيرلندا جمهوريةٍ مستقلة، وكانت هي امرأةً ذات جذورٍ في النضال ضد العبودية. كانت لهما خبرةٌ قيِّمة في أشكال المشاعات جلباها إلى إنجلترا في زمنٍ حاسمٍ كان فيه معدّل نزع الملكية عن الأرضِ المشاع والحقوقِ المشاع بالغَ الإرتفاع. سُجن ديبارد كثوريٍ في مارس 1798 وعاني ميتةَ خائنٍ بعدها بخمس سنوات. اتُّهِم بالتآمر لقيادة انتفاضةٍ حضرية بالهجوم على قلعة وندسور (البلاط)، وبنك إنجلترا (الميناء)، وبرج لندن (الحصن). بذلك استهدف المشروعُ الانتفاضي الجوهرَ الثلاثي للمدينة بحصار ثلاثةٍ من أكثر مبانيها الصرحية. استهدف الاستيلاء عليها وليس إلغاء مبادئها في الحرب، والمال، والقانون، ومن ثم لم يكن يُهدّد تلك "الثورة الحضرية"، لكن المشاعات كانت تطرحُ مثل هذا التهديد.

وحتى وحبل المشنقة حول عنقه، في 21 فبراير 1803، سعى ديبارد إلى تغيير مسار التاريخ. تحدّث "كصديقٍ للحقيقة، والحرية، والعدالة". وكصديقٍ "للفقراء والمضطهَدين" توقّع انتصار "مباديء الحرية، والإنسانية، والعدالة" ضد مباديء الزيف، والطغيان، والتضليل. قاسى الموت لمحاولته تقديم الصحة، والسعادة، والحرية للجنس البشري.

صارت خطبة المشنقة واحدةً من المواقع العظيمة للبلاغة الإنسانية. استطاع الأيرلنديون المتحدون أن يحوّلوا الهزيمة إلى إدانةٍ للمضطهِد. لم يقلب الطاولات بمفرده. فقد ساعدته كاثرين في ثالوثاته البلاغية. ونجد ثالوثاتٍ مماثلة لدى توماس سبنس Thomas Spence (اجتمع أتباعه عام 1801 باعتبارهم "أصدقاء حقيقيين للحقيقة، والعدالة، والسعادة الإنسانية") ولدى فريدريك إنجلز وهو ينتقد الاشتراكيين الطوباويين ("الاشتراكية هي التعبير عن الحقيقة المطلقة، والعقل، والعدالة").

شنَقَه قاضيه لاعتناقه "المبدأ الجامح والمساواتي للمساواة الكونية". لخّص إدوارد لو Edward Law أو لورد إللينبورو لصالح ملاّك الأراضي، وسماسرة الأوراق المالية، والرأسماليين، خطر المشاعة الثورية. هذا هو المفتاح في مؤامرة ديبارد. إنها مُتضاربة، فهي من جانبٍ محاولةٌ عصيانية للاستيلاء على المدينة، ومن جهةٍ أخرى، فإنها "جامحة"، أي، مرتبطة بالـ"همجية" و"الوحشية"، إنها "مساواتية"، أي، مرتبطة بالمساواتيين والحفّارين للثورة الإنجليزية في القرن السابع عشر، هي جزءٌ من الفوران العالمي الذي بدأ في فرنسا واستمر في هاييتي.

كان عام 1803 لحظةً تاريخية، أو "نقطةً مُميَّزةً في الزمن"، بمعنى هيجلي، وماركسي، وطومسوني. فبتأثير النضال ضد العبودية في هاييتي، توصّل هيجل إلى فهم التاريخ الكوني للحرية بديالكتيك السيد ـ العبد.11 وكان إنجلز مُغرماً بالاشتراكيين "الطوباويين" لعصره (سان سيمون وروبرت أوين) ولم يأخذ عليهم سوى أنهم عاشوا قبل أن تنضُج البروليتاريا الصناعية لتُطوِّر "علم" الاشتراكية.12 وبيّن [المؤرخ إدوارد بالمر] طومسون، أن حركة الطبقة العاملة في إنجلترا، مدفوعةً بحظر النقابات العمالية واضطهاد المُصلحين السياسيين، قد شكّلت حركةً سرّيةً مكّنتها من البقاء حيةً لكنها دمّرت فرصة الاتصال بأفكار الشعراء الرومانسيين. منحنا هيجل الديالكتيك، ومنحنا إنجلز المادية التاريخية، ومنحنا طومسون الطبقةَ العاملة. يقودنا هيجل إلى العبيد، ويقودنا الاشتراكيون الطوباويون إلى الشعوب الأصلية، ويقودنا طومسون إلى الحركة السرّية.

"كرة حمراء مستديرة ملتهبة"

تنمو المعرفة بالمشاعة مع توسّع الإمبريالية. يعبّر مصطلحٌ واحد، هو "المشاعة"، أولاً، عمّا فقدته الطبقة العاملة حين انتُزعت منها موارد الكفاف، وثانيا، عن الرؤى المثالية للحرية، والمساوة، والإخاء. على سبيل المثال، وينستانلي Winstanley، الذي قال عام 1650 إن الأرض هي كنزٌ مشاعٌ للجميع، أو روسّو Rousseau الذي جعل عمله مبحثٌ في التفاوت (1755) من المشاعةِ نقطةَ البدء للقصة الإنسانية. وبينما ضخَّم الشعراء الرومانسيون مقولةَ المشاعة فصلوها عن الممارسة المادية.

نشأ الشعراء الرومانسيون بالضبط في لحظة أقصى تناحرٍ بين المشاعة وبين الخصخصة. ماذا كانت الطبيعة بالنسبة لهم؟ "[المشاعة] واحدة من الجسور المؤدية من النزعة اليعقوبية والشيوعية الطوباوية إلى الطبيعة"، هكذا كتب إي. بي. طومسونE. P. Thompson عام 1969، ورغم أنه لم يتوقف عند هذا الجسر في عمله اللاحق،13 لكنه الجسرُ الذي لابد أن نعبره.

كان أكثر الكتاب نفوذًا في ذلك العصر، توماس بين Thomas Pain، على معرفةٍ بكل من مشاعة النهر والمرعى في بلدته، ثيتفورد، وبمشاعات هنود الإيروكوي خلال حرب الاستقلال. كتب، "كانت الأرض في حالتها الطبيعية غير المزروعة، وكان يمكن أن تظل كذلك إلى الأبد، الملكية المشتركة للجنس البشري ... إلاّ أن نظام ملكية الأرض، بارتباطه الذي لا ينفصم بالزراعة، وبما يُسمَّى الحياةَ المتمدنة، قد امتص ملكيةَ كلّ من نزعَ ملكيتهم، دون أن يُقدّم، كما كان يتوجب عمله، تعويضاً عن تلك الخسارة".

ها هو كولريدج عام 1795 يمزج أفكارَ السياسة، بالموارد الطبيعية، بالعمل البشري، والعدالة:

... كلُّ قلبٍ

يحكمُ ذاتَه، عائلةُ الحب الهائلة

التي نشأت من الأرض المشتركة بالكدح المشترك،

لها أن تتمتع بالنتاج المتكافيء..

وها هو ووردسورث حذِرًا،

..توقّف شيءٌ انتظارًا

لجمهوريةٍ، حيث وقف الجميعُ إلى ذلك الحد

على أرضٍ مشتركة، أنهم جميعا إخوة.

(The Prelude, lines 226- 31, 1805)

هاجم شعرُه المصانعَ والورش، السجونَ ومطابخ الشوربة. وقصتُه عن المرأة المهجورة باعتبارها حبكة ووردسورث الأساسية لشعره في تسعينات القرن الثامن عشر تضربُ المسمار في الرأس، لأن مكان المرأة في المشاعة سيكون على قدم المساواةِ مع الرجال. وكان تصديره عام 1802 لـمواويل غنائية بياناً لاستخدام "لغة البشر الحقيقية" ولاختيار موضوعاتٍ من "الحياة السفلي والساذجة".

صاغ ويليام بليك الأمر ببساطة، "كل شأن الإنسان هو الفنون وكل شيءٍ مشاع"، وابتهل مطالبًا بذلك، "أعطنا خبزنا الذي هو نصيبنا وحقنا، بانتزاع المال، أو السعر، أو الضريبة عما هو مشاعٌ للجميع في مملكتك".14 هكذا كانت "المشاعة" حاضرةً في الهواء، وكذلك كان نقيضها، التطويق. بالنسبة لبليك يؤدي التطويق إلى الموت واغتيال البيئة:

قالوا لي إن لدي خمس حواسٍ لتُطوِّقَني،

وطوَّقوا عقلي اللانهائي في دائرةٍ ضيقة،

وأغرقوا قلبي في الهاوية، كرةً مستديرةً حمراء ملتهبة

حتى أُزِلتُ ومُحِيتُ تماماً من الحياة.15

تشعُّب المشاعة

من وجهة نظر التاريخ المرحلي (كما بيَّن ف. جوردون تشايلد)، فإن المشاعة هي أثرٌ من الوحشية أو بقيةٌ من الهمجية. ومن وجهة نظر التطور الرأسمالي فإن المشاعة هي نفايةٌ من مصنوعات المانيفاكتورة أو النواتج الجانبية للحرف اليدوية. باختصارٍ، فإن المشاعة هي إما مُخلّفات أو بقايا تستحق في أفضل الأحوال حفظها في خانة التراث. ويعني تشعّبُ المشاعةِ الجمعَ بين أشكال المقاومة للتطويقات مهما كان مصدرها الجغرافي أو وظيفتها الاقتصادية.16 وهي تعارض "الكرة المستديرة الحمراء الملتهبة" عند بليك.

استمد بليك إلهامَه من "الحواضر الثلاثين". وكانت تقوم على ممارسات هنود الجواراني للأرض المشاع في أمريكا الجنوبية ومن الأفكار المسيحية عن أن كل الأشياء مشاع. كانت الأرضُ المشاع تُسمّى ملكية الرب أو توﭘام ـ بايي tupam-baé. امتدحها مونتسكيو؛ وسخِر منها فولتير؛ وكتب ويليام روبرتسون  William Robertson، "كان نتاجُ حقولهم، مع ثمار اجتهادهم من كل الأنواع، يُودَع في مخازن مشتركة، يتلقّى منها كلُّ فردٍ كل ما هو ضروري لإمداد احتياجاته".17

كانت أمريكا هي مهدُ النماذج الأوروبية لليوتوبيا منذ عام 1516 حين نشر توماس مور يوتوبيا. هنا ليس ثمة ملكيةٌ خاصة ولا أغنياءُ وفقراء.18 بهذا المعنى حلّت أمريكا محلّ العصر الذهبي الذي بقي منذ القدم. كان العصرُ الذهبي رؤيةً أرستوقراطية، وكانت اليوتوبيا رؤيةً بورجوازية. واستمد شيكسبير من كليهما في تناوله للاستعمار الأمريكي في مسرحية العاصفة (1609)، "كل الأشياء في الطبيعة المشاع يجب أن تُنتِج دون عرَقٍ أو كدح".

"الصحن بملعقةٍ واحدة" هو المجازُ البلاغي لهنود الهاودينوساوني للتعبير عن وحدة الأمم الخمس لكونفيدرالية الإيروكوي مع مشاعات البحيرات العظمي. وأنتج نفسُ الإقليم الزعيمَ المحارب، تيكومسى Tecumseh، الذي ناضل أيضا من أجل الاتحاد الكونفيدرالي باسم "المشاعة". وفي عام 1789 تحسّر شعبُ السكان الأصليين لكونيكتيكوت، "الزمن انقلب رأسا على عقب.. لم يكن لهم نزاعٌ حول أراضيهم، لأنها كانت مشاعًا؛ وكان لهم صحنٌ كبيرٌ واحد، وكانوا يأكلون معًا في سلامٍ وحب".19 إنها حسرةٌ سُمعت المرةَ بعد المرة في ذلك العقد من المواويل الغنائية إلى سجون لندن.

إذا أعدنا صياغةَ عبارة بليك، فإن كل الجبال الأطلنطية قد بدأت تهتز بتمرّد توباك آمارو Tupac Amarú في جبال الإنديز عام 1780. وفي ثيرّو ريكو cerro rico [التل الغني] في بوتوسي، مصدر فضة العالم والمعادل العالمي لكل السلع، كان يسود تشويه الميتا mita القاتل للعمل التعاوني.20 جرى تجريمُ التملّك المباشر. تم تشبيه تمرد عام 1780 بـ"حرب أهليةٍ كبرى" تندرجُ الدراما، والاستنفارُ، والتوابع الخاصة بها مع تلك الخاصة بالثورة الهاييتية لأعوام 1791 - 1803. وفي هاييتي وصف مورو Moreau "نوعًا من الجمهورية" في مصب نهر أرتيبونيت حيث لم تكن الملكية تُورَّث لذريتهم بل تعود إلى الجماعة. دافع العبيدُ عن الحقوق التقليدية في الأراضي المشاع لزراعة مؤونة البطاطس والمنيهوت [الكاسافا]. أصدر بولفيريل Polverel، أحد المفوّضين الفرنسيين، إعلانًا في أغسطس عام 1793 يقول إن المزرعة تنتمي "مشاعيًا" لـ"مجموع" "المحاربين" و"الزُرّاع" المؤهَّلين.21

رغم عمليات نقل ملكية الأرض في أعقاب غزوات كرومويل وويليام الثالث، حافظت ممارسة المشاعة على وجودها في أيرلندا. ونشأ ديبارد في وجودها. وكان نمطياً للقرن الثامن عشر وجود منظومة الرونديل والكلاشان rundale-and-clachan للاستيطان في غرب وفي مرتفعات أيرلندا. كان الحائزون بإيجارات تشاركية يسكنون عناقيد من المساكن وينظّمون الرعي المشاعي (buaile أو "booley") في أراضي المرتفعات، وحقوق السَبَخ في أراضي المستنقعات، وحقوق الشاطيء (cearta tra، أو حقوق أعشاب البحر) على حافة المياه. وكانت قطع الحقول الداخلية المشاعية يتم تدويرها سنويًا (رونديل) لضمان المساواة البيئية في كل أنواع التربة -عميقة، أو ضحلة، أو رملية، أو جافة. ومن هنا كان هذا الشكل من المشيعة ردًا على التوسع التجاري في الأراضي الواطئة، ويجب النظر إليه كجزءٍ من "الحداثة" لا كبقيةٍ باقية من ماضٍ أسطوري.22 كان أقران ديبارد في أيرلندا يعارضون عمليات الخصخصة الكاسحة، بما في ذلك توماس رينولدز Thomas Reynolds وروبرت إيميت Robert Emmet، اللذين أُعدما شنقًا عام 1803. واعتبر رسّل Russell أن " الحواضر الثلاثين" هي "بلا مقارنةٍ الأفضل، والأسعد، مما جرى تأسيسه على الإطلاق". وطبقا لجيمس كونولي James Connolly، فإن أي شيءٍ أقل من "الشيوعية السلتية، هو مجرد خيانة قومية" أو انعدام إيمانٍ جبان. وفي اسكتلندا سُمِّيَ عام 1792 "عام الماعز" حين تم جلب ماعز شيفيوت Chiviot إلى الأراضي المرتفعة وبدأت أولى موجات إخلاء الأراضي. دمّرت عمليات إخلاء الأراضي المرتفعة الحائزين الذين يأخذون قطع أرضٍ للزراعة يُعاد تدويرها عليهم وساكني الأكواخ الذين فقدوا حق رعيهم المشاعي، وحدائقهم المنزلية، وقطع زراعة البطاطس. وكانت النتيجة هي الإخلاء، والحرق، والشغب، والمنفى.23

وفي عام 1793، أعلن الحاكم العام للبنغال، تشارلز كورنواليسCharles Cornwallis، التسوية الدائمة التي أدخلت نظامَ الملكية الخاصة.24 وبدأ نفس الرجل في نفس الوقت الحربَ في ضيعته ضد ماري هوتون Mary Houghton، ملكة التقاط بقايا الحصاد gleaner's. وبصرف النظر عن بضع آلاف من سنين التاريخ البشري التي تقول العكس، أعلنت المحكمةُ الإنجليزية أن التقاط بقايا الحصاد ليس حقًا عامًا. كان الهجوم على الأعراف الزراعية الإنجليزية عميقًا، وشريرًا، وواسعًا. فقد حمَت مواثيق الحرية بعضها منذ العصور الوسطى؛ أقرّ إعلان الماجنا كارتا بحق "جمع الحطب estovers في المشاعة" للأرملة (الوقود) بينما حمى ميثاق الغابة حق إطعام الخنازير pannage (طعام الخنازير). معجم المشاعات الزراعية (turbary, piscary, herbage, etc.) [حق جمع الخُثّ أو السَبَخ، حق صيد السمك، حق جمع العشب، إلخ] غامضٌ، ومَنسِي، ومحلي، أو عتيق. والكثير من المشيعة قابلٌ للبقاء طالما ظل غير مرئي.

بواسطة التطويق نُدخِلُ الفصلَ التام للعامل عن وسائل الإنتاج ــ كان هذا أوضح ما يكون في حالة الأرض (المشاعة) ــ وكان ساريًا في المهن والصنائع العديدة للندن، وفي الحقيقة كان شرطًا مُسبقًا ضروريا للميكنة. كان صانعُ الأحذية يحتفظ ببعض الجلد الذي عمل به ("clicking"). وكان الترزي يحتفظ ببقايا القماش التي يسمّيها "cabbage". واحتفظ النسّاجون بـ"fents" و"thrums" بعد قطع الثوب من النول. وكان الخدم يتوقعون "vails" ويُضربون إذا لم يحصلوا عليها. كان البحارة يكنون الإعزاز لـ"adventures". وكان صانعو البراميل يعتبرون أن لهم الحق في "waxers". وكان بناة السفن ونشّارو الخشب يأخذون "chips". كان عمال المواني يُسمّون "lumpers"، ويعملون مع البحارة، ورجال المياه، وعمال الصنادل، وصانعي البراميل، ورجال المستودعات، والحمّالين، وحين تنكسر حاويات الحمولة أو تتناثر الحمولةُ كانوا يأخذون في العادة نصيبهم من "spillings"، أو "sweepings"، أو "scrapings". كان الطباخ يلعق أصابعه.25

خلال أعوام 1799- 1804، سافر إلى أمريكا الحكيمُ الأرستوقراطي ألكساندر فون هومبولت Alexander von Humboldt. "كان الطبع اللطيف لهنود الجوانشي Guanches هو الموضوع الرائج، مثلما نُصنِّف في أيامنا البراءة الأركادية* لسكان أوتاهيتي Otaheite". ونشأ تمرد السفينة بونتي Bounty من معارضة طاقم السفينة للاقتسام بين "اقتصاد" الكابتن بلاي، اقتصاده النقدي وبين أعرافهم البحرية.26 وفي تاهيتي أدّى هذا الانقسام إلى هوةٍ قاسية بين الحضارتين. "بالنسبة للأوروبيين كانت السرقة انتهاكًا للملكية القانونية.. وبالنسبة للتاهيتيين كانت توكيدًا بارعًا للموارد المشاعية".27

ولنوجز، فإن خسارة المشاعة تضمنت حشداً من الممارسات من الريف، ومن الأمم "الهمجية" و"شبه ـ الهمجية" (ماركس)، من الممارسات التجارية المألوفة، ومن "الإجرام" الحضري. أين أو كيف يمكن مقارنة هذه الممارسات؟ كيف يمكن للمشاعات المختلفة أن تخضع للتخليق؟ بصورةٍ متناقضة، كان أحدُ هذه الأماكن هو السجن.

لقاء السجن

كانت فرنسا وإنجلترا إمبراطوريتين منخرطتين في حرب. يخبرنا جورج لوفيفر George Lefebvre أن وجود الفلاحين الفرنسيين كان يعتمد على الحقوق الجماعية: حق الوصول إلى الأرض المشاع للرعي، وحق الوصول إلى أراضي الغابات للوقود ومواد البناء، وحق التقاط البقايا بعد الحصاد.28 وأدّى التعدّي على هذه الأعراف المشاع إلى انتفاضات صيف عام 1789. أحصى جول ميشليه Jules Michelet ثلاثين سجنًا في باريس في القرن الثامن عشر. كان لسجن الباستيل أسوارٌ بسمك ثلاثين قدمًا وارتفاعِ أكثر من مائة قدم. وتحت حكم لويس السادس عشر تم تطويقُ حديقته الداخلية ضد المساجين وسدّ النوافذ.29 وقد بدأ الثورةَ تطويقُ المشاعات واجتياح الباستيل. وقد شبَّه ويليام هازليت William Hazlitt، الراديكالي الإنجليزي، تحريرَ الباستيل باليوبيل؛ وسمّاه توماس بين "القلعة والمحراب الأسمى للاستبداد" لا يُنتِجُ سوى الشك واليأس؛ وتحدث جون ثيلوول John Thelwall عن "قضبانه، وأبوابه الحديدية، وكهوفه اليائسة" في أولى سوناتاته من السجن.30

في حالة السجون (1776) كشف جون هوارد John Howard الجوع، والبرد، والرطوبة، والعفن، والضوضاء، وانعدام الدين، والدنس، والفساد في السجون. أوصى بمنع الأجور، وبالنهوض مبكرًا، وبثياب موحَّدة، والصابون والماء البارد، والصلوات، وقراءة الإنجيل، والعزل الليلي الانفرادي، والتفتيش الدائم، والعمل النهاري المتصل، والتصنيف من أجل منع التواصل. كان الهدف هو التكفير، أو التوبة، ومن هنا اسم "الإصلاحية penitentiary". وقد ساعد الحل الذي قدمه في تدمير نظام السجناء أو أشكال الحكم -الذاتي للسجناء حيث أمكن أن تزدهر ثقافةٌ سياسيةٌ نابضة. ففي سجن نيوجيت، اجتمع نسويون، وألفيون، ونباتيون، ومناهضون للناموس، وأنبياء، وشعراء، وفلاسفة، ومؤرخون، ومُداوون، ودكاترة، "ضيوفا على جلالة الملك".

كان اللورد جورج جوردون George Gordon في قلب "جمهورية السجن الشهيرة بلندن". فقد "اقتسم ثروته مع من لا يملكون نقودًا.. كسى العراة وأطعم الجوعى"، كما كتب سكرتيره، ووصف السجناء، "كانوا يتكونون من كل المراتب.. اليهود والأغيار، المُشرِّع والعامل اليدوي، والضابط والجندي، تقاسموا جميعًا سواء؛ جرى التمتع بالحرية والمساواة إلى أقصى مدى، بقدر ما يسمح نيوجيت".31 وكان جيمس ريدجواي James Ridgway مسجونًا في نيوجيت أعوام 1793 - 1797، "من زنزانته تدفّق مجرى من الأعمال عن الثورة الفرنسية، والاستبداد، والحرب مع فرنسا، والسلام، وحقوق النساء، وأمريكا، والحرية الدينية، والعبودية، وإصلاح الجيش ـ البحرية، وأيرلندا، وكذلك بعض الروايات وعدة مسرحيات".32 وكتب الدكتور جيمس باركينسون   James Parkinson، الجمهوري، والديموقراطي، والمساواتي، كتابه ملاحظات عن الإسقربوط (1797) بينما كان سجينًا في البرج.33 تم افتتاح سجن كولدباث فيلدز عام 1794، وهو أحد السجون "التي تم إصلاحها"، وسرعان ما اكتسب الاسم التهكمي الباستيل أو ببساطة "ستيل". كتب كولريدج،

حين مضي خلال كولدباث فيلدز رأى

زنزانةً منعزلةً

وابتهج الشيطان، لأنها أعطته لمحةً

لتحسين سجونه في جهنم.

أعلي المدخنة والريشة المجوّفة

كان توماس سبنس Thomas Spence وجراكّوس بابوف Gracchus Babeuf هما الشيوعيين البارزين خلال تسعينات القرن الثامن عشر في إنجلترا وفرنسا على الترتيب. كان بابوف داعية للانتفاض وصحفيًا، بينما كان سبنس دعائيًا بالأغنية، والكتابات الجدارية، والعملة، والشراب. شاركا في الحركة الثورية، واعتنقا كونية الشيوعية، وكانت لهما خبرة فعلية في المشاعة.

يصف فرانسيس بليس Francis Place، الذي كان لا يزال نشطاً في جمعية لندن للمراسلة L.C. S. ومع اللجنة التي تدعم السجناء، كيف كان يتم تهريب الكتابات إلى سجن كولدباث فيلدز. كان يجري برمُها وإدخالها داخل ريشة طائر، ويتم حشر الريشة داخل قطعة لحمٍ مشوي قريبًا من العظم لتجنُّب التعرُّض لحرارةٍ مفرطة.34 يتخيّل المرء كاثرين ديبارد وهي تعبر عدة أميالٍ من الميادين الأرستوقراطية لأعلى شارع بيركلي إلى الشوارع الضيقة ودروب كليركنويل الشعبية كي تُسلِّم الغداء، وخطة ديبارد.

يجمع سبنس بين الأمور العملية للحقوق العرفية للمشاعات وبين مثاليات المساواة الكونية. وقد استلهم تقاليد عدةٍ، جنة عدن، واليوبيل، والعصر الذهبي، الطوباوية، والمسيحية، واليهودية، والهندية الأمريكية، والألفية، العصيانية. وجرت خبرة كل هذه الأفكار في سياق مشاعات البحر (كانت أمه من جزر أوركني) واليابسة (ميناء بلدة نيوكاسل الذي لم يكن قد طُوِّق بعد).

وقد عبّر أولًا عن خطته بوجوب عودة الأرض إلى ملكية الأبرشية لجمعية نيوكاسل الفلسفية عام 1775. انتقل إلى لندن، وانضم إلى جمعية لندن للمراسلة، وعلى مدى العقد التالي طوّر مخطّطاته، لوضع خطّته موضع التنفيذ، بالانتفاض الثوري، والإضراب العام، والمساواة للنساء، و"عمليات المصادرة الواسعة". وكانت أكثر أغنياته دوامًا هي "ابتهال اليوبيل"، المغنّاة على لحن "حفِظ الله الملكة"، بينما نشأ اليوبيل الفعلي كحلٍ وسط قبلها بنحو خمسة آلاف عام بين "مرحلتي" العصر الحجري الحديث والعصر الحضري.

حين وصل إلى لندن نقش عملةَ المملكة. كانت فترة نقصٍ حادٍ في العملات النحاسية الصغيرة، ومن ثم كان التجار يُصدِرون عملاتهم الخاصة. وسرعان ما فعل سبنس مثلهم.35 كانت البنسات وأنصاف البنسات تعرض شعاراتٍ راديكالية تُطوّق حافّةَ العملة: "إذا وافقتُ مرةً على دفع الإيجارات فقد انقضت حريتي"، أو "لم يضع الربُ إنسانًا فوق آخر". وعلى أحد وجهي بنسٍ بعنوان "قبل الثورة" نجد صورةَ سجينٍ مقيَّدٍ بالأصفاد بعظامٍ ناتئة في زنزانة يقضم عظْمةً بينما على الوجه الآخر، بعنوان "بعد الثورة"، يُولِم رجلٌ بسعادةٍ على مائدةٍ بينما يرقص ثلاثة أشخاصٍ بمرح تحت شجرةٍ مورقة.

وقد باع مشروبًا باسم "سالوب" salop، هو مزيجٌ من مسحوقٍ مطحون من دَرَنات جذور الأوركيد الأرجواني ذائبٌ في الحليب الدافئ، والعسل، والتوابل. هذا الأوركيد هو "أحد نباتات الأوركيد القليلة التي يمكن عن حقٍ أن نسميها مشاعًا". ولما كانت تُسمّى أيضًا حصوات الكلب، وذكور الإوز، وعُلب المقلاة، إلخ. (orchis تعني خصية)، فقد أصبح شعبيا باعتبارة مُقوِّياً جنسيًا.36 فهل تجاسر سبنس بالخروج إلى مشاعات الأرض لجمع عينات الأوركيد، أم كان يحصل عل إمداداته من واحدةٍ من النساء العليمات بالأعشاب في شوارع لندن وأسواقها؟

كذلك دخل سبنس سجن "ستيل" لكن ليس قبل أن يُنقل ديبارد إلى سجنٍ جديد، هو شروزبري، حيث نُقِل سبنس أيضاً بعد أن غادره ديبارد. تقاطعت طرق الجندي الثوري والشيوعي الإنجليزي في مؤسساتٍ تستهدف كبت الثورة، والمشاعة، والكلام! إذا كانت أفكار الشيوعية قد وصلت إلى ديبارد في ريشةٍ مُجوّفة، فقد فعلت ذلك أفكارُ مناهضة الإمبريالية من المدخنة، فهناك كان يُخبَّأ كتاب أرثر أوكونور Arthur O'Connor في سجن كولدباث فيلدز. وهو كتابٌ كلاسيكي في أدب التحرر القومي.

كان آرثر أوكونور (1763 - 1852) عضوًا في الهيئة الإدارية للأيرلنديين المتحدين. كان مالكَ أرضٍ ثري. تفاوض مع فرنسا عامي 1795 و1796. وكان يعتقد بأن "هناك 200,000 رجل في لندن من البؤس بحيث أنهم حين ينهضون في الصباح لا يكونون متأكدين أن يجدوا عشاءهم في يومهم".37 تم القبض عليه وسُجِن في قلعة دبلن حيث كتب في ستة أشهر كتاب حالة أيرلندا، الذي وُزِّع في فبراير عام 1798. قُبض عليه في إنجلترا في طريقه إلى فرنسا مع أيرلنديين متحدين آخرين ووجهت إليه تهمة الخيانة العظمى. وبعد استجوابه من قِبل مجلس البلاط، الذي يضم رئيس الوزراء، ووزير الداخلية، وقاضي القضاة، أُرسِل إلى سجن كولدباث فيلدز. "من كل ضروب السخط التي قابلتها"، كما كتب لاحقًا، "كانت أعظمها هي زوجة السجّان". إلاّ أن كتابه أصبح جزءًا من مكتبة السجن السرية المخبأة أعلى مدخنة، كما كشف المدعي العام في نقاشٍ برلماني.

مخاطبًا إنجلترا، كتب أوكونور، "أيها الجهل! يا حارس سجون الباستيل! يا والد المجاعة! يا خالق العبيد، ومناصر الطغاة، أنت مؤلف كل مصيبةٍ وكل شر! إلى متى يجب أن نتحمّل حكمك الملعون؟" كان الشعب الأيرلندي هو "الأسوأ مسكنًا، الأسوأ ملبسًا، الأسوأ تغذيةً" بين كل شعوب أوروبا. "ذُرتكم، وماشيتكم، وزبدكم، وجلدكم، وغزلكم،" كل نتاج الأرض يتم تصديره. امتدح كرمَ الضيافة الأيرلندي، الحكمةَ المطلقة للمشاعة. وعارض الميكنة، والاحتكار، وأسعار الغلال المرتفعة، وحق وراثة الإبن الأكبر. وأنَّب الإمبريالية البريطانية ليس قفط لجرائمها في أيرلندا بل "في كل أرجاء الكرة الأرضية، بنهب، وتجويع، وذبح السكان المُسالمين للهند الشرقية؛ وإطلاق المصائب التي أطلقتها بالعبودية في الهند الغربية". وكما يكتب ناشره الحديث فإن "الترياق المنطقي الوحيد لأمراض دولة أيرلندا هو جمهوريةٌ ديموقراطية، مساواتيةٌ إجتماعيًا.38 وكتب آرثر أوكونور نفسه "الإنصافُ يعني إعادةَ المنهوب وإعادة الحقوق".

كان السير فرنسيس بورديت Francis Burdett، عضو البرلمان، يصطحب كاثرين ديبارد في زياراتها لديبارد. وذات مرةٍ ترك ثلاثة جنيهات "للمتمردين". تمرد ثلث الأسطول البريطاني في العام الأسبق بسبب متأخرات الأجور، والعمل القسري، والانضباط الدموي، والغِشّ المنهجي. رفعت مائة سفينة أعلامَ التحدي الحمراء. وكان بين مطالبهم أن يُحتسب الرطلُ بست عشرة أوقية. شُنق ستة وثلاثين متمردًا، بما فيهم ريشارد باركر Richard Parker، رئيس الأسطول. وكان الأيرلنديون المتحدون بارزين بين المحرّضين تحت سطح السفن بما في ذلك رجل بلفاست، فالنتاين جويسزValentine Joyces 39. وكان ثلاثة وثلاثون من المتمردين مازالوا سجناء في كولدباث فيلدز حين وصل ديبارد. كان السجن والسفينة مساراتٍ في مجموع المشاعات حيث يمكن المقارنة بين الخبرات في أيرلندا، والكاريبي، وبريطانيا.

مقاولو التطويق: عصابةُ من أربعة

تم تطويقُ الحقول المفتوحة. بدأت المصانع تُطوِّق الحرف اليدوية. حلت المتاجرُ محلَّ الأسواق. وحلّ السجنُ محل العقوبات في الهواء الطلق. حتى المشانق في تايبورن أغلقت وأُعيد فتحها داخل سجن نيوجيت. وتم قمع الجنسانية. انغلقت الأصفادُ التي صاغها العقل لكن ليس دون عونٍ من مُصفّدي العقول الذين ما زالوا يصوغون أفكار الحكم.

انتصر بنتام Bentham، ويانج Young، وكولكهون Colquhoun، ومالتوس Malthus في معركة الأفكار. كان بنتام مؤسسًا للنزعة النفعية، وكان آرثر يانج مهندسًا زراعيًا، أخصائيًا في التنمية، وكان كولكهون مؤسسًا للشرطة، ومالتوس مؤسسًا لدراسات السّكان. عكست أفكار النفعي، والمهندس الزراعي، وعالم السكان، ورجل الشرطة الاتجاهات التاريخية السائدة، وأقامت بنياتٍ اجتماعية وفكرية بقيت لتدخل القرن الحادي والعشرين. لم يكونوا مجرد رجالِ درسٍ، بل رجالَ أعمال، ولجأوا إلى رجال قيادةٍ، عمليين يدفعون أجورهم.

كان آرثر يانج المدافعَ عن خصخصة الأرض؛ أصبحت الأرض أحد الأصول الرأسمالية. وسعى توماس مالتوس ليُبيِّن أن المجاعة، والحرب، والطاعون توازن السكّان الولودين. وكان باتريك كولكهون القاضي وعميل المخابرات الحكومي الذي نظّم تجريمَ عُرف لندن. واخترع جيريمي بنتام التطويق المعماري للسكان الحضريين بابتكاره "البانوﭘتيكون" panopticon.

كانوا دوليين. أصبح مالتوس أستاذًا في كلية شركة الهند الشرقية. ونشأت فكرة جيريمي بنتام عن البانوﭘتيكون من رحلةٍ إلى روسيا. وانقضت سنوات تكوين كولكهون في فيرجينيا وبعدها عمل مستشارًا لمصالح الهند الغربية وكان له نصيب في المزارع الجامايكية. وكانت أولى عمليات المسح الزراعي لآرثر يانج نتيجةً لجولةٍ في أيرلندا. إنهم مفكّرون كوكبيون للثورة ـ المضادة ضد الحرية، والمساواة، والإخاء.

وهم يقدّمون سياساتهم باعتبارها "قانونًا". قانون الملكية مع بنتام، وقانون الشرطة مع كولكهون، وقوانين الاقتصاد السياسي مع يانج، وقوانين الطبيعة عند مالتوس. ستكون لبنتام مؤسسات للأيتام والنساء "المشاكسات". وسيوصي مالتوس بإرجاء الزواج. ندّد كولكهون بالماخور ودور ـ الجعة. ويسحب آرثر يانج الأرض من تحت أقدام النساء اللائي تعتمد تربيتهن للخنازير، ورعايتهن للدجاج، وقطعة زراعة الخضروات على الحق المشاع. إنهم مشغولون بإعادة إنتاج الطبقة العاملة.

قام آرثر يانج بجولةٍ في نورفولك عام 1803 ونشر نتائجها عام 1804. زار حوالي تسعٍ وسبعين أبرشية تعاني من التطويق ويصف بدقةٍ الحقوقَ المشاع المفقودة.40 زاد عدد قوانين التطويق أكثر من الضعف من عام 1789 حين تم تمرير ثلاثة وثلاثين منها حتى منتصف عام 1790 (سبعة وسبعين) ثم تضاعفت تقريبا من جديد بحلول عام 1801 بمائةٍ واثنين وعشرين قانون تطويق. في عام 1801 أصدر البرلمان قانون التطويق العام (41 George III, c. 109). ربما جرى تطويق ثلاثة ملايين آكر فيما بين عامي 1800 و1815. 41 وفي عام 1800 نشر مسألة النُدرة الذي دعا فيه إلى وجبةٍ من البطاطس والأرز كحلٍ لأزمة الخبز. علَّم الفقراءَ الطاعةَ الدينية لأنهم بخلاف ذلك سيصبحون "أطفالًا حانقين لحقوق الإنسان".42

ونشر مالتوس مقالٌ في مبدأ السكّان عام 1798، وظهرت طبعةٌ جديدةٌ عام 1803. جادل مالتوس بأن "حبّ ـ الذات [هو] النابضُ ـ الرئيسي للآلة الضخمة" (أي، الكائنات البشرية) وبأن "الجميع لا يمكنهم أن يتشاركوا على قدم المساواة في خيرات الطبيعة". ودعا باتريك كولكهون في شرطة الحاضرة الضخمة (1800) إلى "آلة شرطةٍ عامة" وفرض وجهة نظر أنه ليس بمقدور الجميع أن يتشاركوا في خيرات التجارة.43 كانت "الخيّالة الخفيفة" تسرق في الليل، و"الخيّالة الثقيلة" في النهار، وتنقل معها البضائع في جيوبٍ سرّية، وجراباتٍ ضيقة، وسراويل فضفاضة. وكان هذا البنّ أو ذلك السكّر قابلاً عندئذ للمقايضة مقابل الإيجار، أو الشراب، أو الطعام، أو الكساء في الحوانيت القديمة التي لا تُحصى، ومحلات البقالة، ولدى أصحاب الحانات، وأصحاب المواخير، وصنّاع الشموع، وغيرهم من المُتلقّين. "لهذه الأنواع من التهريب، هناك حشودٌ من الأبواب المفتوحة في كل شارع"، كما كتب كولكهون. كانت المجتمعاتُ المحلية للمرافيء أفعى هيدرا، وكانت الهيدرا هي المشاعة.44

ونشر جيريمي بنتام (1748 - 1832) عام 1802 البانوﭘتيكون ضد نيو ساوث ويلز؛ أو، نظام إصلاحية البانوﭘتيكون مقارنًا بنظام مستعمرات العقاب. اقترحه كمؤسسةٍ للانضباط للمدارس، والمصانع، ودور الفقراء، والمستشفيات، والمعسكرات، ودور الأيتام، والسجون. وسمّاه "طاحونة لسحق الأوغادِ إلى شرفاء، والكسالى إلى أناسٍ مجتهدين." وفي الحقيقة كانت الطاحونة قد أُقيمت مؤخرًا في سجن كولدباث فيلدز. شبّه بنتام البانوﭘتيكون بأشباحِ بيتٍ مسكون. هذه الخلاصةُ القوطية للتطويق كانت تُشير ليس فقط إلى فقدان الأرض بل كذلك إلى تغيرٍ جوهريٍ في العلاقة بكوكب الأرض لا نظيرَ لها منذ الثورة الحضرية قبلها بخمسة آلآف سنة. تطلّب التراكم المتصل للذوات "الصناعية" تطويقَها من المهد إلى اللحد. لكي يتم حكمُ سكانِ المجتمع المدني يجب احتجازُهم ولكي يتم احتجازهم يجب أن يوضعوا تحت رقابةٍ تامة.

الكريكيت وكاثرين يقلّصان التطويقات

تمت هزيمةُ البانوبتيكون بتوليفةٍ من القوى. كانت مسز ديبارد جزءًا منها حيث كانت تُمارس الضغوط في البرلمان، وتُسطِّر الخطابات للصحف، وتُقدّم العرائض لوزير الداخلية، وتعمل مع زوجات المساجين الآخرين، وتزور إدوارد، وتتحدّى محافظ "الستيل". كذلك عارضه لاعبو الكريكيت والمشاعيون في وستمينستر. كصبيٍ، أقام جيريمي بنتام في مدرسة وستمينستر بين عامي 1755 و 1760. وقد كتب إلى ناظر مدرسته الأسبق ليساعده في بناء بانوﭘتيكون على توتهيل فيلدز. وكصبيٍ أيضًا، أقام السير فرنسيس بورديت، زميل كاثرين، في هذه المدرسة حتى طُرِد منها عام 1786 لرفضه الخضوعَ للناظر والإبلاغِ عن زملائه الصبية الذين حطّموا النوافذ في مقر إقامتهم.45

"في حالةِ قفرٍ" كانت الأرض "التي يمكن أن تخضع لحقوق المشاعة." كان أهالي أبرشية سانت مرجريت وسان جيمس يتمتعون بحقوق المرعى. قالت مجلة جنتلمانز ماجازين أنها "لم تكن في أي مجاورة". كانت ملعب كريكيت "منذ زمن سحيق" لصبية مدرسة وستمينستر. التمس بنتام من دارسي وستمينستر عارضًا أن يجد لهم قطعة أرضٍ جديدة حتى يتمكن من بناء سجنه. "مهما كان النفع الذي يجنونه من استخدام ذلك الاتساع الموحش والقبيح، على سبيل الرياضة والتدريب، فإنه خاضعٌ للتدخّل الدائم لصحبةٍ وضيعةٍ، خطرة، وغير مُرحَّبٍ بها، من كل الأنواع".46 وقد صورت إحدى قطع النصف بنس السياسية لسبنس في منتصف تسعينات القرن التاسع عشر "دارسًا في وستمينستر" يرتدي رداءً أكاديميًا وقلنسوة مدرسية على أحد وجهيها وعلى الوجه المقابل "صبيًا من برايدويل" يرتدي سروالًا  للدهماء أو- culottes sans .

استمعت لجنة برلمانية مختارة بشأن المماشي العامة وأماكن التدريب إلى الشهادات عام 1833. "لقد شهدتُ السخط نتيجة الطردِ من ملعبٍ وراء ملعبٍ، وللحرمان من كل أماكن اللعب". اعتاد المئات لعب الكريكيت كل ليلةِ صيفٍ في الملاعب الواقعة خلف المتحف البريطاني. كان الترفيهُ الشعبي يعاني من قمعٍ عميقٍ من جانب الإنجيليين، وملاك الأراضي، والصناعيين. كما كانت تعاني الملاكمة، ورياضة المشي، وكرة القدم، والرقص.47 يكتب سى . إل. آر جيمس C. L. R. James عن الكريكيت، "ابتدعه الفلاحُ الصغير، وحارس الصيد، والخزّاف، والسباك، وعامل مناجم نوتينجهام شاير، وعامل مصنع يوركشاير. صنعه هؤلاء الحرفيون، رجالٌ ذوي يدٍ وعينٍ".48 يصف جيمس اللعبة بعبارات مقدمة ووردسورث لديوان مواويل غنائية. لاعب الكريكيت يحفظ الجمالَ والكرامة البشريين ضد "السُبات الهمجي" للاحتلال الحضري، المتجانس.

تعارك بورديت وبنتام حول توتهيل فيلدز. وانتصر بورديت وكاثرين على البانوﭘتيكون. بوصفه حدثا تاريخيًا قابلًا للتطبيق وليس كمفهومٍ فلسفي، هُزِم البانوﭘتيكون في يونيو 1803 حين أبلغ رئيس الوزراء أدينجتون Addington بنتام بأنه لا يرحب بتمويله.49 وفي عام 1810 قام عميد وستمينستر والناظر الأسبق للمدرسة "بالدفع لرجلٍ معه حصان ومحراث ليحفر أخدودًا حول عشرة آكرات وفي العام التالي أقيمت بوابات وقضبان".50 وبعدها في تاريخٍ غير مُحدَّد، بدأ "دارسو وستمينستر" الإشارة إلى المشاعة السابقة على أنها "سيز" Scis، اختصار فولسيز Volscis، وهم القوم الذين بدأ غزوُهم، كما تعلّموا هم في دروس اللاتينية، توسّع روما عام 304 قبل الميلاد.

حين واجه نزعُ الملكية معارضةَ المشاعيين، وجدنا دليلًا على تشكُّل طبقةٍ من الخدم، والحرفيين، والعبيد، والآباء، والعمال، والبحارة. وقد تضمّنت خبرتهم ثورةً ترك عنفُها ندوبًا على الكثيرين منهم وألهمت أحلامُها قِلّةً متميِّزة. كان التقاء المشيعة العملية "من أسفل" مع آمال التنوير "من الأعلى" هو ما أدّى إلى أصول الحركة الرومانسية والحركة الشيوعية.

لحظة ديبارد

لسنا بحاجةٍ إلى أن ننظر إلى "اللحظة" باعتبارها لحظة سلم أميان Amiens حين أوقفت بريطانيا وفرنسا إطلاقَ النار لمدة عام. ولا أن ننظر إليها كذلك على أنها انتقال الحكومة إلى واشنطن دي سي، وتوسُّع نظام العبيد من خلال شراء لويزيانا. ولا أن ننظر إليها حتى باعتبارها لحظة الانتصار ضد العبودية وانتصار "جيش الإنكا" (كما سمّى ديسالين Dessalines جيشه) في استقلال هاييتي. فقد تضمنت ذلك كله علاوةً على اكتشاف الرومانسيين للطبيعة.

ماذا كانت تعني "الطبيعة" عام 1802؟ أخذ المعرفة بالسُحب من الفلاح والبحار، أخذ المعرفة بما تحت الأرض من عامل المنجم والعامل غير البارع، أخذ المعرفة بالأرض من الفلاح، أخذ المعرفة بالنباتات من السكان الأصليين، شهدت لحظة 1802 - 3 تغيرًا واسعًا في العلاقات الاجتماعية للمعرفة الإنسانية.51 من السُحب في السماء إلى الطبقات تحت الأرض إلى أشكال الحياة بين الأرض والسماء، كان "العالم" يمر بتحولٍ في الفهم البشري.52 رأى ملّاحو الطيران بالبالونات الأرضَ ككيانٍ عضويٍ عملاق. منحونا رؤية عين ـ الطائر، أو المنظور فوق ـ الأرضي، مثلما منحنا عمّالُ المناجم الرؤية تحت ـ الأرضية . "الجيولوجيا" Geology ككلمةٍ لوصف العلم تحت ـ الأرضي جاءت إلى الوجود عام 1795. وفي عام 1801 جاءت كلمة "شرائح [طبقات]" Strata. نشر سميث Smith أول خريطة للعالم السفلي لإنجلترا وويلز. كان قد استلهم وهو طفل الأحفوريات التي وجدها بعد حفر الأخاديد وتسييج حقول قريته عند تطويقها عام 1787 .53

يجد إيفان إليتش Ivan Illich أن "الحياة life، كمقولةٍ جوهرية، تبدأ في الظهور حوالي عام 1801".54 وكرد فعل ضد التصنيف الميكانيكي، صاغ لامارك Lamarck مصطلح "بيولوجيا" biology ذلك العام. يجري الحديث عن "الحياة" باعتبارها مِلكية. وُلد الإنسان الاقتصادي Homo economicus كشكلٍ للحياة، وقوة العمل كآلة. قبل محنة ديبارد بشهر، حاول جيوفاني ألديني  Giovanni Aldini، أستاذ التشريح من بولونيا، إعادة الحياة إلى جسدِ قاتلٍ، هو توماس فورستر Thomas Forster، بتعريضه لشحناتٍ كهربائية بعد أن شُنق في نيوجيت. وبعد أسبوعين من الحكم على ديبارد بالشنق، وقطع الرأس، ونزع الأمعاء، والتوسيط [التمزيق إلى أربعة أجزاء]، قدّم الرجل الذي اخترع هذه المذبحة العقابية، إدوارد لو Edward Law ("اللورد إللينبورو")، قانونا في البرلمان يجعل الإجهاضَ جنايةً كبرى للمرة الأولى في القانون التشريعي. جرت المحاولة لا لتطويق أرض إنجلترا، وصنائعها الحرفية، ونقلها، وعقلها فحسب، بل لتطويق الرحِم أيضاً.

بينما لفظ ديبارد آخر أنفاسه في فبراير 1803 وتوفى توسان لوفرتور Toussaint Louverture بعدها بشهر، خيم الصمت على محاكم أخرى للحظة الثورية. ذهب فولني Volney ليعمل لدى نابوليون؛ وأبحر توماس بين في سبتمبر 1802 ليواجَه بعدم الترحيب في أمريكا؛ وفي 1801 ترك ثيلوول المنابر الانتخابية في الريف المفتوح وفتح مدرسةً للخطابة.

حيث أن المدينة، بمعنى القانون، والقوة، والسلعة، قد ألغَت مشاعات الريف ودمّرت الأممُ "البورجوازية" الأممَ "الهمجية"، لم يعد مشاعيو العالم يستطيعون اللجوءَ إلى الغابة أو الهرب إلى التلال. بقدر ما تكون المهمةُ غيرَ مسبوقةٍ تاريخيًا، لابد من مَشيَعة المدينة ذاتها.

دبلن

مايو ـ يونيو 2013

ــــ

هوامش:

1 I thank the Museo Nacional Centro de Arte Reina Sofía in Madrid and the GradCam in Dublin for occasions in May 2013 to discuss the ideas in this essay, particularly Ana de Mendes and Patrick Bresnihan.

2 This is a leading theme of David Graeber’s account of Occupy Wall Street. See The Democracy Project: A History, A Crisis, A Movement (New York: Spiegel & Grau, 2013).

3 Elinor Ostom, Governing the Commons: The Evolution of Institutions for Collective Action (Cambridge: Cambridge University Press, 1990); and J.M. Neeson, Commoners: Common Right, Enclosure, and Social Change in England, 1700-1820 (Cambridge: Cambridge University Press, 1993).

4 V. Gordon Childe, “The Urban Revolution,” The Town Planning Review 21, no. 1 (April 1950): 3-17. Childe coined the term earlier in his book Man Makes Himself (London: Watts & Co., 1936).

5 John Horne Tooke, Diversions of Purley, 2 vols. (London: J. Johnson’s: 1786-1805).

6 George Gould, Right Handedness and Left Handedness (Philadelphia: Lippincott, 1908). The USA went right.

7 Anthony Vidler, “The Scenes of the Street: Transformations in Ideal and Reality, 1750-1871,” in Stanford Anerrson, ed., On Streets (Cambridge: MIT Press, 1978), 58. See also, Bentham, Panopticon Postscript (1791), Bowring, vol. 4, 86.

8 Karl Polanyi, The Great Transformation: The Political and Economic Origins of Our Time (Boston: Beacon Press, 1957).

9 James Malcolm, Londinium Redivivum (London: J. Nichols, 1803), 436, as quoted in Daniel M. Abramson, Building the Bank of England: Money, Architecture, Society, 1694-1942 (New Haven, CT: Yale University Press, 2005), 125, 130.

10 Col. George Hanger, Reflections on the Menaced Invasion and the Means of Protecting the Capital (London: J. Stockdale, 1804) 107-19.

11 Susan Buck-Morss, Hegel, Haiti, and Universal History (Pittsburgh: University of Pittsburgh Press, 2009), 60.

12 Frederick Engels, Socialism: Utopian and Scientific with the Essay on “The Mark,” trans. Edward Aveling (New York: International Publishers, 1994), 36, 43.

13 E.P. Thompson, “ Disenchantment or Default? A Lay Sermon,” Conor Cruise O’Brien and William Dean Vanech, Power & Consciousness (New York: New York University Press, 1969), 150.

14 Laocoön and marginalia on Thornton’s “Lord’s Prayer.”

15 Visions of the Daughters of Albion (1793).

16 George Caffentzis, “The Work/Energy Crisis and the Apocalypse,” in In Letters of Blood and Fire: Work Machines, and the Crisis of Capitalism (Oakland: PM Press, 2013) 11-57.

17 William Robertson, The History of the Reign of the Emperor Charles the Fifth (1769), book 6.

18 Thomas More, Utopia, translated by Raphe Robynson (1551), (Everyman’s Library: London, 1910), 53.

19 Henry Quaquaquid and Robert Ashpo, Petition to the Connecticut State Assembly (May 1789). See also, Iain Boal et al., eds., West of Eden: Communes and Utopia in Northern California (Oakland: PM Press, 2012).

20 June Nash, We Eat the Mines and the Mines Eat Us: Dependency and Exploitation in Bolivian Tin Mines (New York: Columbia University Press, 1993), xxxiii. See also Michael Taussig, The Devil and Commodity Fetishism (Chapel Hill: University of North Carolina Press, 1980) Steve J. Stern, “The Age of Andean Insurrection, 1742-1782: A Reappraisal,” in Resistance, Rebellion, and Consciousness in the Andean Peasant World, 18th to 20th Centuries (Madison: University of Wisconsin Press, 1987).

21 Laurent Dubois, Avengers of the New World: The Story of the Haitian Revolution (Cambridge: Harvard University Press, 2004), 20, 48, 162, 230.

22 F.H.A. Aalen, Kevin Whelan, and Matthew Sout, eds., Atlas of the Irish Rural Landscape, 2nd ed. (Cork: Cork University Press, 2011), 86-91.

23 John Prebble, The Highland Clearances (London: Secker and Warburg, 1963).

24 The literature is vast, but see E.P. Thompson, “Custom, Law, and Common Right,” in Customs in Common (London: Merlin, 1991); and Bob Bushaway, By Rite: Custom, Ceremony and Community in England, 1700-1880 (London: Breviary Stuff, 2011).

25 Peter Linebaugh, The London Hanged, 2nd ed. (London: Verso, 2003).

26 Alexander von Humboldt, Personal Narrative of Travels to the Equinoctial Regions of America (1805), 121-22 and Greg Dening, Mr Bligh’s Bad Language: Passion, Power, and Theatre on the Bounty (Cambridge University Press, 1992).

27 Richard Holmes, The Age of Wonder: How the Romantic Generation Discovered the Beauty and Terror of Science (New York: Pantheon, 2008), 16-17. In Tahiti, the exchange between a stone age and an iron age culture, not to put to fine a point of it, was: One nail = one fuck.

28 Georges Lefebvre, The Coming of the French Revolution, trans. R.R. Palmer (1967), 140-41. Lefebvre says that the nearly universal use of the sickle, as opposed to the scythe, left the stubble generously high for the gleaners.

29 Jules Michelet, History of the French Revolution, translated by C. Cocks (London: H.G. Bohn, 1847), 66.

30 William Hazlitt, “The French Revolution” John Thelwall, Poems … Written in the Tower and Newgate (1795).

31 Dr Robert Watson was the secretary to Gordon and wrote his biography in 1795. Douglas Hay, “The Laws of God and the Laws of Man: Lord George Gordon and the Death Penalty,” in R.W. Malcomson and John Rule, eds., Protest and Survival: Essays for E.P. Thompson (London: Merlin Press, 1993).

32 Ralph A. Manogue, “The Plight of James Ridgway, London Bookseller and Publisher, and the Newgate Radicals, 1792-1797,” Wordsworth Circle 27 (1996): 158-66.

33 A.D. Morris, James Parkinson: His Life and Times (Boston: Birkhäuser, 1989). “If the population exceeded the means of support, the fault lay not in nature, but in the ability of politicians to discover some latent defect in the laws respecting the division and appropriation of property.”

34 The Autobiography of Francis Place, edited by Mary Thrale.

35 R.H. Thompson, “The Dies of Thomas Spence,” The British Numismatic Journal 38 (1969–1970): 126-67.

36 Richard Mabey, Flora Britannica (London: Sinclair-Stevenson, 1996), 444.

37 Clifford D. Conner, Arthur O’Connor: The Most Important Irish Revolutionary You May Never Have Heard Of (New York: iUniverse, 2009), 115.

38 Arthur O’Connor, The State of Ireland, ed. James Livesey, (Dublin: Lilliput Press, 1998), 22.

39 James Dugan, The Great Mutiny (London: Deutsch, 1966).

40 [Arthur Young], General View of the Agriculture of the County of Norfolk (1804).

41 G.E. Mingay, Parliamentary Enclosure in England: An Introduction to Its Causes, Incidence, and Impact 1750-1850 (London: Longman, 1997), 22.

42 John Gazley, The Life of Arthur Young (Philadelphia: American Philosophical Society, 1973), 440. He proposed that children at the age of four be taught how to plait straw.

43 Leon Radzinowicz, A History of English Criminal Law and its Administration from 1750, vol. 3, The Reform of the Police, 310.

44 Patrick Colquhoun, A Treatise on the Commerce and Police of the River Thames (1800), 195, 369.

45 Frederic H. Forshall, Westminster School: Past and Present (London: Wyman, 1884), 284-85.

46 Ibid., 199.

47 R.W. Malcolmson, Popular Recreation in English Society 1700-1850 (Cambridge: Cambridge University Press, 1973), 110-11. See also John and Barbara Hammond, Age of Chartists 1832–1854 (London: Longmans, 1930), 114, 118.

48 C.L.R. James, Beyond a Boundary (London: Hutchinson, 1963), 159-60; and The Future in the Present (Westport, CT: Lawrence Hill, 1977), 221.

49 Janet Semple, Bentham’s Prison: A Study of the Panopticon Penitentiary (Oxford: Oxford University Press, 1993), 3, 16.

50 Communication from Elizabeth Wells, archivist, Westminster School, April 24, 2013.

51 Londa Schiebinger, Plants and Empire: Colonial Bioprospecting in the Atlantic World (Cambridge: Harvard University Press, 2004).

52 Luke Howard, On the Modification of Clouds (London: Taylor, 1803).

53 Simon Winchester, The Map That Changed the World: William Smith and the Birth of Modern Geology (New York: HarperCollins, 2001).

54 In the Mirror of the Past: Lectures and Addresses, 1978-1990 (New York: Marion Boyars, 1992), 227. Jean-Baptiste Lamarck, Système des animaux sans vertèbres (Paris: Deterville, 1801).