بصحبة البيتلز

قصة لهاروكي موراكامي

نُشرت في «النيويوركر»

10 فبراير 2020

ترجمة: مريم ناجي

عن ترجمة فيليب جابرييل للإنجليزية

الترجمة خاصة بـ Boring Books

تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها.


ما أراه غريبًا في التقدم بالعمر ليس أنّي غدوت عجوزًا، ولا أن نسختي الشابة من الماضي قد بلغت من العمر عتيًا دون أن أُدرك. ما يُزلزلني هو كيف غدا أناسٌ من نفس جيلي هَرِمين، وكيف أصبحت الفتيات الجميلات الفاتنات عجائز كفاية لدرجة أنهن يحظين بحفيدٍ أو اثنين. الأمر مُربك، بل حزينٌ بالأحرى. رغم عدم شعوري بالحزن جَرَّاء حقيقة أنني تقدمتُ في العمر بالمثل.

أظن أن ما يُشعرني بالحزن في تقدم الفتيات اللاتي عَرفتهن في العمر هو كونه يُجبرني على الاعتراف، مرةً أخرى، أن أحلام شبابي ولَّت للأبد. يُمكن لموت حُلم أن يكون، بطريقةٍ ما، أشد وطأةً من موت كائنٍ حي.

أتذكر بوضوحٍ فتاة -أقصد، اِمرأة كانت فتاة ذات يوم- لكن لا أعرفُ اسمها. وبالتالي، لا أعرف أين هي الآن ولا ما تفعله. ما أعرفه عنها هو أننا التحقنا بالمدرسة الثانوية ذاتها، وكانت في نفس السنة الدراسية (بما أن لون الشارة على قميصها كان نفس لون شارتي)، وأنها أحبَّت البيتلز جدًا.

حدث ذلك عام 1964، في ذروة الهوس بالبيتلز، في بداية الخريف. كان الفصل الدراسي قد بدأ  وأخذت الأمور تعود لمجراها الروتيني. كانت تمشي على عجلٍ في الرواق الطويل المُعتم من المدرسة القديمة، وتنورتها تُرفرف. كنت الوحيد المتواجد هناك. وكانت تقبضُ بأُسطوانةٍ كبيرة على صدرها مثل شيءٍ نفيس. كانت الأسطوانة لألبوم «بصُحبة البيتلز» With the Beatles، ذات الصورة الأخاذة لأعضاء فريق البيتلز الأربعة يظهرون في نصف ظل بالأبيض والأسود. ولسببٍ ما، غير واثقٍ لماذا، لديّ ذكرى واضحة أنها كانت النسخة الأصلية البريطانية، وليست النسخة الأمريكية أو اليابانية.

كانت فتاةً حُلوة. على الأقل بالنسبة لي وقتها، كانت باهرة الجمال. لم تكن طويلة، لكن لها شعرٌ أسودٌ طويل، وساقان مَمْشُوقتان، وأريجٌ آسر. (قد تكون ذكرى كاذبة، لا أعرف. ربما كانت بلا رائحة أساسًا. لكن هذا ما أتذكره، عندما مرّت، فاح أريجٌ مُغرٍ وساحر تجاهي). وقعتُ أسيرًا لفتنتها، هذه الفتاة الحلوة المجهولة، التي تقبض بألبوم «بصُحبة البيتلز» With the Beatles على صدرها.

بدأ قلبي يخفق وانقطعت أنفاسي، كأن الصوت توقف، وغرقتُ في قاع مسبح. كل ما تمكنتُ من سماعه هو جرسٌ يرنُ بخفوت، عميقًا في أذني. كأن أحدهم يُحاول باستماتةٍ أن يُرسل لي رسالةً بالغة الأهمية. استغرق كل هذا عشرة أو خمس عشرة ثانية وحسب. انتهى الأمر قبل أن أُدركه، واختفت الرسالة الهامة المتضمنة هناك، مثل جوهر كل الأحلام.

رواقٌ مضاءٌ بخفوت في مدرسةٍ ثانوية، فتاةٌ حُلوة، طرف تنورتها يخفق، «بصُحبة البيتلز» With the Beatles.

تلك كانت المرة الوحيدة التي أرى فيها هذه الفتاة. وفي خلال السنتين اللتين توسطتا رؤيتها وتخرجي، لم نلتق أبدًا مرةً ثانية. وهو أمرٌ شديد الغرابة إن فكرتْ فيه. المدرسة الثانوية التي دَرستُ بها كانت مدرسةً عامة وكبيرة إلى حدٍ ما، وتقع على قمة تلِ في «كوبه»[1]، وفيها ما يُقرب من ستمائة طالب، خمسين في كل مرحلة. (نحن الجيل المُدعو بجيل طفرة المواليد[2]، لذا كُنا كُثر) لم يعرف الجميع بعضهم. في الواقع، لم أعرف أسماء الأغلبية العظمى من الأولاد في المدرسة ولم أتعرف عليهم. لكن، بما أنني ذهبت للمدرسة كل يومٍ تقريبًا، ومررتُ عادةً بذاك الرواق، كان أمرًا جسيمًا أنني لم أر تلك الفتاة الحلوة مُجددًا، وبحثتُ عنها في كل مرةٍ مررتُ بالرواق.

هل تلاشت كالدخان؟ أم أنني، في تلك الظهيرة في مطلع الخريف، لم أر شخصًا حقيقًيا بل كانت رؤيا من نوعٍ ما؟ ربما قولبتها في قالبٍ مثالي في عقلي في اللحظة التي مررنا ببعضنا، لدرجة أنه حتى لو حدث ورأيتها مرةً أخرى لن أتعرف عليها؟ (أعتقد أن الاحتمال الأخير هو الأرجح).

عَرفتُ ورافقتُ نساء قلائِلُ لاحقًا. في كل مرةٍ أقابل امرأةً جديدة، كنتُ كأنما أتوق دون وعيٍ لأُعيد إحياء تلك اللحظة المُغوية التي عشتها في رواق المدرسة المُعتم في خريف عام 1964. تلك الرعشة الصامتة اللجوجة في قلبي، الشعور اللَهْثان في صدري، والجرس يرن على مهلٍ في أذني.

نجحتُ أحيانًا في اِسترداد هذا الشعور وفشلتُ أحيانًا أخرى. وأحيانًا أتمكنُ من حيازته فقط لأدعه ينزلق من بين أصابعي. وعلى أيةِ حال، تكون العواطف المُتدفقة خلال حدوث هذا مثل مِكْيالٍ أقيس به تَحَرّق لهفتي.

عندما أفشل في إيجاد هذا الإحساس في العالم الحقيقي، أدع ذكراي لتلك المشاعر تصحو بداخلي بهدوء. وبهذه الطريقة تصبح الذاكرة واحدةً من أقيَم ذّرائعي العاطفية، بل وسيلةٌ للنجاة. مثل هُرَيرَةٍ دافئة، تنزلق بنعومةٍ في جيب معطفٍ ضخم، وتغط سريعًا في النوم .

بالعودة للبيتلز.

قبل سنةٍ من رؤيتي لتلك الفتاة، أصبح البيتلز ذوي شعبيةٍ هائلة لأول مرة. في أبريل 1964، احتلت أغانيهم المراتب الخمس الأولى في تصنيفات الأغاني المنفردة الأمريكية. لم تشهد موسيقى البوب شيئًا كهذا من قبل. أغانيهم الأشهر الخمس هي: (1) «لن يشتري لي الحب» Can’t buy me love

(2) «ارقصي واصرخي» Twist and shout

(3) «إنها تُحبك» She loves you

(4) «أريد أن أمسكُ بيدكِ» I want to hold your hand

 (5) «أرجوكِ، اِسعديني» Please Please me.

كان لأغنية «لن يشتري لي الحب» Can’t but me love، أكثر من مليوني طلبٍ شراء مُسبق وحدها، حاصلةً بذلك على الأسطوانة البلاتينية مُضاعفة قبل أن يُطرح التسجيل الفعلي للبيع.

كان للبيتلز، بالطبع، شعبية هائلة في اليابان أيضًا. أَدِر المذياع وستسمع حتمًا واحدةً من أغانيهم. أعجبتني أغانيهم وعرفتُ كل تسجيلاتهم المشهورة. اُطلب مني أن أغنيهم وسأتمكن من ذلك. عندما كنت أُذاكر في البيت (أو أتظاهر أني أُذاكر)، كان المذياع يزعق معظم الوقت. لكن، لتُقال الحقيقة، لم أكن أبدًا مُحبًا شغوفًا للبيتلز، ولم أبحث عن أغانيهم بلهفة. بالنسبة لي، كان استماعًا مستسلمًا؛ موسيقى البوب تنبعثُ من مكبرات الصوت الصغيرة لمذياعي الباناسونيك، تدخل أذنٌ وتخرج من الأخرى، لا أنتبه لها كثيرًا. موسيقى تصويرية لمراهقتي. خلفية موسيقية.

طوال فترتي الثانوية والجامعة، لم أشترِ تسجيلًا واحدًا للبيتلز. كُنت ميالًا أكثر لموسيقى الجاز والموسيقى الكلاسيكية، وهذا ما استمعتُ له حينما رغبتُ التركيز على الموسيقى. اِدخرتُ لأشتري تسجيلات الجاز، وطلبتُ معزوفاتٍ لمايلز ديفيس وثالونيوس مُنك في حانات الجاز، وذهبتُ لحفلات الموسيقى الكلاسيكية.

قد يبدو هذا غريبًا، لكن، حتى منتصف ثلاثينياتي، لم يحدث أن جلستُ واستمعت لألبوم«بصُحبة البيتلز» من بدايته حتى نهايته. رغم أن صورة الفتاة وهي تحمل الأسطوانة في رواق المدرسة لم تغب عن بالي قط؛ لم أشعر بالرغبة في الاستماع له لوقتٍ طويل. لم أكن مهتمًا بالتحديد في معرفة أي نوعٍ من الموسيقى محفورٌ في تجاويف قرص الفونوغراف الذي قبضت عليه بإحكامٍ شديد على صدرها.

عندما كنت في منتصف ثلاثينياتي، متجاوزًا الطفولة والمراهقة تمامًا، كان انطباعي الأول عن الألبوم أنه ليس بهذه العَظَمة، أو ببساطة لم يكن من نوع الموسيقى التي تُدهشك. من ضمن الأربعة عشر تسجيلًا في الألبوم، ستةٌ منهم كانوا نُسخًا خاصة بالفريق من أعمال فنانين آخرين. نسخة الفريق لأغنية «رجاءً يا سيد ساعي البريد» Please Mr. Postman لفرقة مارفلتّس، وأغنية «تحول إلى الرول يا بيتهوفن» - Roll Over Beethoven لتشاك بيري، كانا مُتقني الإنتاج، ويُبهرانني عندما أسمعهما حتى الآن، لكن، مع ذلك، كانوا نُسخًا لأغاني قديمة. والأغاني الثماني الأصلية، باستثناء أغنية بول، «كل حبي» All My Loving، ولا واحدة منهم كانت مُذهلة. لا توجد أغنية منفردة واحدة ناجحة، ومن وجهة نظري، ألبوم البيتلز الأول، «أرجوكِ، اِسعديني» Please Please Me، الذي سُجل أساسًا مرةً واحدة، كان أكثر حيويةً وسحرًا. ومع ذلك، بفضل رغبة المعجبين المتقدة لسماع أغانٍ جديدة، وصل الألبوم الثاني لأول مرة للمرتبة الأولى في المملكة المتحدة، المرتبة التي حافظ عليها لواحدٍ وعشرين أسبوعًا. (تغيّر عنوان الألبوم في الولايات المتحدة إلى «قابلوا البيتلز» Meet the Beatles، وتضمن عدة أغنياتٍ مختلفة، لكن ظل تصميم الغلاف كما هو تقريبًا).

ما جذبني هو طيف الفتاة المحكمة قبضتها على الألبوم وكأنه شيءٌ لا يُقدر بثمن. ربما لم يكن للمشهد أن يخلب لُبي كما حدث إن نزعنا الصورة عن غلاف الألبوم. كان للموسيقى دورٌ بالطبع، لكن هناك شيءٌ آخر، شيءٌ أجلّ. وفي ثانية، نُقِشت هذه اللوحة في قلبي، أشبه بمشهدٍ روحيّ يُمكن العثور عليه هناك وحسب، في عصرٍ بعينه، ومكانٍ مُعين، وفي لحظةٍ محددةٍ من الوقت.

لم يكن الحدث المحوري عندي في السنة التالية -1965- هو إصدار الرئيس جونسون أمرًا بتفجير شمال فيتنام وإشعال فتيل الحرب، أو اكتشاف جنسٍ جديد من القطط البرية على جزيرة إيريوموت، بل كان واقع أني أحظى بحبيبة. كانت في نفس صفي في السنة الأولى، لكننا لم نبدأ نتواعد حتى السنة الثانية.

تفاديًا لأي سوء تفاهم، أريد أن استهلَ حديثي بالإشارة إلى أنني لستُ وسيمًا ولم أكن يومًا ما رياضيًا لامعًا، وكانت درجاتي في المدرسة أقل من الممتاز. غنائي لم يكن بالمستوى المطلوب، ولم أكن بارعًا مع الكلمات. عندما كنتُ في المدرسة، وفي السنوات التي تلتها، لم تلتَّف الفتيات حولي ولا مرة أبدًا. هذا واحدٌ من الأشياء التي أتمكن من قولها بيقينٍ في هذه الحياة المُلتَبِسة. لكن بدا دائمًا أنه كانت هناك فتاة في محيطي، ولسببٍ ما، منجذبةٌ لي. ليس لديّ أدنى فكرةٌ عن السبب، لكن حظيت بفرصة أن أَنعَم بأوقاتٍ حلوة وحميمية مع تلك الفتيات. صادقتُ بعضهن، وأخذت الأمر إلى منحنى أعلى من حينٍ لآخر. الفتاة التي أتحدث عنها هنا كانت واحدةً من هؤلاء. الفتاة الأولى التي وطدتُ علاقةً وثيقةً جدًا بها.          

حبيبتي الأولى كانت رشيقةً وجذّابة. في ذلك الصيف، خرجنا في موعدٍ كل أسبوع. ذات مساء، قَبلتُ شفتيها الصغيرتين المُكتنزتين، وتحسستُ نهديها عبر حمّالة صدرها. كانت ترتدي فستانًا أبيض بلا أكمام، ولشعرها رائحة شامبو ليمونية.

لم تكترث كثيرًا بالبيتلز، ولم يُعجبها الجاز كذلك. أحبت الاستماع للموسيقى الرقيقة أكثر، ما يُمكنك أن تسميه بموسيقى الطبقة المتوسطة؛ أوركسترا مانتوفاني، وبيرسي فايث، وروجر ويليامز، وآندي ويليامز، ونَت كينج كول، ومن شابههم. (لم يكن مصطلح «الطبقة المتوسطة» مُهينًا في ذلك الوقت). تراكمت كوماتٌ من أسطوانات موسيقى كهذه في منزلها، وهي ما تُعرف حاليًا بالموسيقى المهدئة للأعصاب.

في ذاك المساء، وضعتْ أسطوانةٌ في القرص الدوّار في غرفة الجلوس -كان لعائلتها نظام ستريو ضخم ومدهش- وجلسنا على أريكة كبيرة ومريحة، وتبادلنا القُبل. ذهبت عائلتها لمكانٍ ما وكنا وحدنا. بصدق، في موقفٍ كهذا، لم أكترث إطلاقًا لنوع الموسيقى التي نسمعها.

ما أتذكره من صيف 1965 هو فستانها الأبيض، ورائحة الشامبو الليمونية، والملمس المهيب لحمالة صدرها ذات الأسلاك، (كانت الصدريات وقتها أشبه بالقلعة أكثر من قطعة ملابس داخلية)، وتلحين ماكس شتاينر الأنيق «للموسيقى التصويرية لفيلم (مكانٌ صيفي) – a summer place» التي عزفتها أوركسترا بيرسي فايث. حتى الآن، متى سمعتُ «الموسيقى التصويرية لفيلم (مكانٌ صيفي)»، تخطر تلك الأريكة في بالي.

بالصدفة، وبعد عدة سنوات -عام 1968 على ما أتذكر، تقريبًا في نفس الوقت الذي اُغتيل فيه روبرت كينيدي، شنق الرجل الذي كان مشرف صفنا عندما كنا في الفصل نفسِه على أسكفية بابٍ في منزله. كان يدرَّس الدراسات الاجتماعية، وقِيل إن سبب انتحاره يرجع إلى أزمةٍ أيديولوجية.

أزمةٌ أيديولوجية؟

لكنه السبب الفعلي؛ في أواخر الستينيات، أنهى الناس حياتهم أحيانًا بسبب اصطدامهم أيديولوجيًا بحائط. لكنهم لم يكونوا كُثر.

ينتابني شعورٌ شديد الغرابة عندما أفكر في أنه في تلك الظهيرة، بينما أنا وحبيبتي نتبادل القُبل ونتغازل بطيشٍ على الأريكة، وموسيقى بيرسي فايث البديعة تُعزف في الخلفية، يتجه معلم الدراسات الاجتماعية، خطوةً بخطوة، نحو نهايته الأيديولوجية المحتومة المميتة. أو بمعنى آخر، يتجه نحو العُقدة المشدودة الساكنة في الحبل. أحيانًا أشعر بالسوء حيال الأمر، كان هو الأفضل من بين كل المعلمين الذين عرفتهم.

سواءً أكان ناجحًا أم لا هي قضيةٌ أخرى، لكنه حاولَ دائمًا أن يُعامل طلابه بالحسنى. لم أتحدث إليه خارج الفصل أبدًا، لكن هكذا تذكرته.

مثل عام 1964، كان 1965 هو عام البيتلز. أصدروا أغنية «ثمانية أيامٍ في الأسبوع» Eight Days a Week في فبراير، وأغنية «تذكرة سفر» Ticket to Ride في أبريل، وأغنية «النجدة!» Help في يوليو، وأغنية «البارحة» Yesterday في سبتمبر، واحتلت جميعها مراتب القمة في قوائم الولايات المتحدة. بدا الأمر كأننا نسمع موسيقاهم طوال الوقت. كانت في كل مكان، تُحاوطنا، مثل ورق الحائط الذي يُوضع بإتقانٍ على كل بوصة من الجدران.

عندما لا تُذاع موسيقى البيتلز، يأتي دور أغنية فرقة ذا رولينج ستونز «لا أشعر بالرضا» I Can’t Get No Satisfaction، أو أغنية «السيد ضاربُ الدُفّ» Mr. Tambourine Man لفرقة ذا بيردز (The Byrds)، أو أغنية «فتاتي - My Girl« لفرقة ذا تِمبتيشنز (The Temptations)، أو أغنية «فقدتِ شعور الحب» You’ve Lost That Lovin’ Feelin لفرقة ريتشوس بروذرز (Righteous Brothers)، أو أغنية «ساعديني يا روندا» - Help Me, Rhonda« لفرقة بيتش بويز (Beach Boys). وكان يصدر لديانا روس ولفرقة السوبريمز (The Supremes) أغنياتٍ ناجحة، الواحدة تلوّ الأخرى. ظل صوتٌ مستمرٌ من هذه الموسيقى المذهلة والجذِلة يقطُر عبر مذياعي الباناسونيك؛ كانت بالفعل سنةً استثنائية لموسيقى البوب.

قِيل إن أسعد الأوقات في حياتنا هي الفترة التي تكون أغاني البوب تعني شيئًا بحقٍ لنا، تفهمنا فعلًا. لربما هذا صحيح. أو ربما لا. ربما أغاني البوب، في النهاية، ليست بأي شيءٍ سوى أنها أغاني بوب. وربما حياتنا هي مجرد أشياء مُزينة مستهلكة، كانفجارٍ للونٍ يظهر ثم يتلاشى لا أكثر.

يقع منزل حبيبتي بالقرب من محطة إذاعة كوبه التي أستمع لها دائمًا. أعتقد أن أباها يستورد، أو ربما يصدّر، معداتٍ طبية. لا أعرف التفاصيل. على أية حال، امتلكَ شركته الخاصة والتي بدت لي أنها تسير على أحسن حال. كان منزلهم في بستان صنوبر بالقرب من البحر. سمعتُ أنه كان في الماضي فيلا صيفية يمتلكها رجل أعمال، ثم اشترته عائلتها وأعادت تصميمه. تُهفهفُ أشجار الصنوبر على نسيم البحر، وكان المكان المثالي للاستماع إلى «الموسيقى التصويرية لفيلم (مكانٌ صيفي)».

بعد أعوامٍ تلت، حدثَ وشاهدت بثًا تلفزيونيًا في وقتٍ متأخر من الليل لفيلم «مكانٌ صيفي» الذي أُنتج عام 1959. كان فيلمًا هوليوديًا نمطيًا عن الحب الشاب، رغم ذلك، كان مُتماسكًا. في الفيلم، يوجدُ بستان صنوبر بجوار البحر، تتمايل أشجاره في نسيم الصيف في نفس وقت عزف أوركسترا بيرسي فايث للبوق. صعقني مشهدُ تمايل أشجار الصنوبر في الرياح باعتبارهِ مجازًا على الشهوة الجنسية الهائجة عند الشباب. لكن ربما هذا فهمي الشخصي للمشهد، رأيي المُتحامِل. 

في الفيلم، ينجرف تروي دوناهو وساندرا دي مع رياحٍ جنسيةٍ مُستحوذة، وبسببها، يتصديان لكل عراقيل العالم الحقيقي. سوءُ تفاهمات يتبعها مُصالحات، وتتلاشى العقبات كما ينقشعُ الضباب، ويجتمع الاثنان معًا في النهاية ويتزوجان. في هوليوود الخمسينيات، شملت النهاية السعيدة زواجًا دائمًا؛ أي خلقُ بيئة يتمكن العشيقان فيها من ممارسة الجنس قانونيُا. أنا وحبيبتي، بالطبع، لم نتزوج. كنا لا نزال في المدرسة الثانوية، وجُلَ ما فعلناه هو أننا تحسسنا بعضنا وتبادلنا القُبل بطيشٍ على أريكة، و«الموسيقى التصويرية لفيلم (مكانٌ صيفي)» تصدح في الخلفية.

«أتعرف شيئًا؟» أخبرتني ونحن مُستلقيين على الأريكة، بصوتٍ هادئ وكأنها تُفصح عن اعتراف، «أنا من النوع الغيور للغاية».

قلتُ: «حقًا؟»

«أردتُ التأكد من معرفتكَ لهذا».

«طيب».

«أحيانًا يؤلم بشدة أن يكون المرء غيورًا».

مسّدتُ شعرها بصمت، تجاوز نطاق معرفتي في ذلك الوقت أن أتخيل شعور الغيرة الحارقة أو ما يُسببها أو ما يؤدي إليها. كانت مشاعري مُستحوذةً عليّ بالكامل.

على الهامش، وقع تروي دوناهو، ذاك النجم الوسيم، في قبضة الكحول والمخدرات، وتوقف عن التمثيل، بل حتى أنه كان مُشردًا لبعض الوقت. عانت ساندرا دي أيضًا من إدمان الكحول. تزوج دوناهو المُمثلة الشهيرة سوزان بليشيت عام 1964، لكنهما طُلقا بعد ثمانية أشهر. تزوجت دي من المغني بوبي دارين عام 1960، لكن طلقا في عام 1967. من الواضح أن لا صلة لهذا تمامًا بحبكة فيلم «مكانٌ صيفي»، وليس ذو علاقةٍ بمصيري ومصير حبيبتي.

لحبيبتي شقيقٌ يكبُرها، وشقيقةٌ تصغرها. كانت الأختُ الصغرى في سنتها الثانية من المرحلة المتوسطة، لكنها أطول من أختها الكبرى ببوصتين. لم تكن شديدة الجاذبية، وارتدت نظاراتٍ سميكة أيضًا. لكن حبيبتي كانت مولعةً بشقيقتها الصغرى. أخبرتني أن «درجاتها في المدرسة جيدة جدًا». بالمناسبة، أظن أن درجات حبيبتي زادت عن المتوسط بقليل، مثل درجاتي على الأغلب.

ذات مرة، سمحنا لشقيقتها أن تُرافقنا إلى السينما، واضطررنا لفعل ذلك لسببٍ ما. كان الفيلم المعروض هو «صوت الموسيقى» The Sound of Music. السينما مكتظة؛ فكان علينا أن نجلس بالقرب من المقدمة، وأتذكر أن مشاهدة الفيلم على شاشةٍ عريضة بهذا القرب جعل عيناي تؤلماني عند نهايته. لكن جُنَت حبيبتي بأغاني الفيلم، واشتَرت الأسطوانة التي ضمت أغانيه واستمعت لها إلى ما لا نهاية. أما أنا فكنتُ ميالًا لتسجيل جون كولترين السحري لأغنية «أشيائي المُفضلة»My Favorite Things، لكن أدركتُ أن لا أهمية لذكر الأمر أمامها، لذا لم أفعل.

واضحٌ أن شقيقتها لم تستلطفني كثيرًا. رمقتني بنظراتٍ غريبة كلما تقابلنا، نظراتٌ مُجردة من المشاعر، كأنها تحسم أمر السمك المُجفف المُلقى في الثلاجة إن كان لا يزال صالحًا للأكل أم لا. ولسببٍ ما، أشعرتني هذه النظرة بالذنب دائمًا. كانت كأنها تتجاهل المظهر الخارجي عندما تنظر إليّ (وهو أمرٌ مسلمٌ به؛ لم يكن هناك الكثير للنظر له على أية حال)، وتتمكن من قراءة أفكاري، داخل أعماق كينونتي. ربما ساورني هذا الشعور بسبب أنّي كنتُ أحمل إحساسًا بالخزي والذنب في قلبي. 

شقيق حبيبتي يكبرها بأربع سنوات، لذا فإن عمره كان عشرين عامًا على الأقل وقتها. لم تعَرّفني عليه ولم تأت على ذِكره كثيرًا. وإن حدث وأتت سيرته في المحادثة، تغير الموضوع بخفة. أفهم الآن أن سلوكها لم يكن طبيعيًا بعض الشيء، ليس الأمر أنّي فكرتُ كثيرًا حياله؛ لم أكن مهتمًا بعائلتها لهذه الدرجة. ما جذبني لها كان أقرب إلى نزوعٍ ملّح.

أول مرةٍ قابلت شقيقها وتحدثتُ معه كانت في نهاية خريف 1965.

ذات يوم أحد، ذهبتُ لمنزل حبيبتي لاصطحابها. قرعت الجرس مراتٍ كثيرة لكن لم يُجب أحد. توقفتُ لبرهة، ثم قرعته مرةً أخرى دون انقطاع، حتى سمعتُ أخيرًا أحدهم يتحرك ببطءٍ ناحية الباب، كان شقيق حبيبتي الأكبر.  

كان أطول مني بقليل، وأضخم. ليس مترهلًا لكنه أشبه برياضيٍ لم يتمكن، لسببٍ ما، من التمرُّن لفترة، وازداد عدة باوندات، دهونٌ مؤقتة لا أكثر. لديه أكتافٌ عريضة وعنقٌ رفيع وطويل إلى حدٍ ما. شعره فوضوي ومبعثرٌ في كل اتجاه، كأنه استيقظ لتوِّه. بدا شعره مُتيبسًا وخشنًا، وتأخر حوالي أسبوعين عن قصِه. ارتدى كنزة كُحلية ضيقة الرقبة، ياقتها فِضفاضة، وبنطلون رياضي رُمادي اللون مُنتفخٌ عند الركبة. سحنته كانت عكس حبيبتي تمامًا؛ كانت حبيبتي دائمًا مُتأنقة ونظيفة ومُهندمة.

نظر إليّ بعينٍ نصف مغمضة لبرهة، كحيوانٍ قذر خرجَ زحفًا، بعد بياتٍ شتوي طويل، لضوء الشمس.

«أعتقدُ أنك… صديق سايوكو؟» قال هذا قبل أن أنبس ببنت شفة. تنحنح؛ كان صوته نعسًا، لكني تمكنت من تلّمس شرارة اهتمامٍ فيه.

قلت: «صحيح». وعرّفته بنفسي. «يُفترض أن آتي إلى هنا في الحادية عشر».

قال: «سايوكو ليست في البيت الآن».

قلتُ مكررًا كلماته: «ليست في البيت».

«إنها في مكانٍ ما. لكنها ليست هنا».

«لكن يُفترض أن آتي واصطحبها اليوم في الساعة الحادية عشر».

قال شقيقها: «فعلًا؟» رمقَ الحائط بجانبه، وكأنه يتحقق من الوقت. لكن ما من ساعةٍ هناك، فقط حائطٌ جبسي أبيض. بترددٍ وَجَه نظره إليّ مُجددًا، وقال: «هذا محتمل، لكن الواقع أنها ليست في المنزل».

لم أعرف ما يجب أن أفعله. ولم يعرف شقيقها، على ما يبدو. تثاءب على مهلٍ وحكّ مؤخرة رأسه، كل أفعاله كانت بطيئة ومتروية.

قال: «يبدو أن لا أحد في البيت الآن؛ كان البيت خاليًا عندما استيقظت منذ قليل. بالتأكيد خرجوا كلهم، لكن لا أعرف إلى أين».

لم أقل شيئًا.

«مُحتملٌ أن أبي يلعب الجولف، وأختاي حتمًا في الخارج تلهوان. لكن أن تخرج أمي أيضًا، هذا غريبٌ بعض الشيء. لا يحدث هذا عادةً».

أبيتُ أن أُدلي بدلوي في التخمين؛ هذه ليست عائلتي.

قال شقيقها: «لكن إذا وعدتك سايوكو أنها ستكون هنا، فأنا واثقٌ أنها ستعودُ قريبًا. لم لا تأت للداخل وتنتظر؟»

قلتُ: «لا أريد إزعاجك، سأتجول في الأرجاء لفترةٍ ثم سأعود».

قال بإصرار: «لا، ما من إزعاج. ليس أكثر من عناء أن يرن الجرس مرةً أخرى واضطر لأقوم وأفتح الباب. لذا هيا، تفضل».

لم يكن عندي خيارٌ آخر، فدخلت، وأوصلني لغرفة الجلوس، الغرفة نفسها ذات الأريكة التي كنا نُقبّل بعضنا عليها في ذلك الصيف. جلستُ عليها، وأرخى شقيق حبيبتي جسده على أريكةٍ تواجهني. ومرةً أخرى، فغر فاهُ مُتثائبًا.

«أنت صديق سايوكو، صحيح؟» سألني مجددًا كأنه يُضاعف التأكد.

أجبت الإجابة ذاتها: «صحيح».

«ليس صديق يوكو؟»

هززتُ رأسي. يوكو هي شقيقتها الصغرى الأطول.

سألني شقيقها وفي عينيه نظرةٌ فضولية: «هل صُحبة سايوكو شيّقة؟»

لم أَدرِ بما أُجيب فبقيتُ صامتًا. وجلس هو هناك، ينتظر ردي.

«نعم، شيءٌ ممتع». قلت بعدما عثرتُ على ما آمل أن تكون الكلمات الصحيحة.

«شيءٌ ممتع، لكن ليس شيقًا؟»

«لا لم أقصد هذا...»، تلاشت كلماتي.

قال شقيقها: «لا يهم. ممتعٌ كان أم شيق، لا فرق بين الاثنين على ما أظن. هل أفطرت؟»

«أفطرتُ، نعم».

«سأحضر بعض التوست. متأكدٌ أنك لا ترغب في القليل منه؟»

أجبتُ: «نعم. أنا على ما يُرام».

«قهوة؟»

«لا. أنا بخير».

كنت أفضل قليلًا من القهوة، لكن ترددت أن أنغمس أكثر في عائلة حبيبتي، خصوصًا عند غيابها عن المنزل.

وقفَ دون سابق إنذار وغادر الغرفة. وسمعت جلبة أطباقٍ وكؤوس بعد لحظات. بقيتُ هناك وحدي جالسًا على الأريكة مُستقيم الظهر بأدب ويداي في حِضْني، أنتظر عودتها من حيثما ذهبت. تدقُ الساعة الحادية والربع الآن.

فكرتُ مليًا لأتذكر إن قررنا بالفعل أن آتي في الساعة الحادية عشر. لكن، ومهما أمعنتُ التفكير في الأمر، كنتُ متأكدًا أن التاريخ والوقت صحيحين؛ تحدثنا في الهاتف البارحة وأكدّنا الموعد وقتها. لم تكن من النوع الذي ينسى أو يخلف وعدًا. وكان أمرًا غريبًا بالفعل أن تخرج هي وعائلتها بأكملها صباح يوم أحد ويتركون شقيقها الأكبر بمفرده.

جلستُ هناك في صمت، مُتحيرًا من الموضوع كله. مَر الوقت ببطءٍ لا يُطاق. سمعتُ الصوت المعتاد من المطبخ؛ صنبورٌ يُفتح، صَلصلة ملعقة تخلط شيئًا ما، صوتُ دولابٍ يُفتح ويُقفل. بدا هذا الشقيق من الناس الذين يُحدِثون جلبةً أيًا كان ما يفعلونه. على قدر ما علت الأصوات فكان هذا جُلّ ما يحدث. ما من رياح تهبُ في الخارج، ما من كلابٍ تنبح. ومثل وحلٍ خفيّ، تسلل الصمتُ بثباتٍ إلى أذني وصمّها. ابتلعتُ ريقي عدة مراتٍ لكي أفتحها.

شيءٌ من الموسيقى سيكون جميلًا. «الموسيقى التصويرية لفيلم (مكانٌ صيفي)»، أغنية «زهرة أدِلفايس» Edelweiss، أغنية «نهر القمر» Moon River، أي شيء. لم أكن مُتطلبًا. أي موسيقى. لكن لم أبرع في تشغيل الستيريو في منزلٍ شخصٍ آخر دون إذن. نظرتُ حولي متطلعًا لأي شيءٍ أقرأه، لكن لم أجد أي جرائد أو مجلات. فتشتُ حقيبة كتفي لأرى ما فيها؛ أحمل أغلب الوقت كتابًا صغيرًا أقرأهُ في حقيبتي، لكن ليس اليوم بالطبع.        

عندما كنا نلتقي، تظاهرنا عادةً أننا ذاهبون للمكتبة لنُذاكر، وكنت أضع أدوات مدرسية في حقيبتي لكي أعزز حُجتي؛ كمجرمٍ هاوٍ يختلق حجة غيابٍ واهية. لذا الكتاب الوحيد الذي بحوزتي ذاك اليوم كان مُلحق القراءة الإضافي لمنهجنا المدرسي «اللغة اليابانية وآدابها». تناولتُه على مضضٍ وبدأت أُقلبُ صفحاته. لم أكن الشخص الذي قد تسميه قارئًا، من يتصفح الكتب بانتظام وانتباه، لكنّي الشخص الذي يُشعر بصعوبةٍ في مرور الوقت دون أن يقرأ شيئًا. لم أستطع أن أجلس هكذا، ساكنًا وساكتًا. يجب دائمًا أن أُقلب صفحات كتاب أو استمع للموسيقى، أحد الأمرين. أتناول أي شيءٍ مطبوع عندما لا يتواجد كتابٌ في محيطي، قد أقرأ كتالوج الهاتف أو كتيب إرشادات لمكواةٍ بُخارية. ومقارنةً بأنواع مواد القراءة تلك، كان مُلحق القراءة الإضافي لمنهج اللغة اليابانية أفضلَ بكثير.

قلَبتُ في القصص والمقالات في الكتاب بعشوائيةٍ. هناك نصوصٌ قليلة لروائيين أجانب، لكن معظمها كانت لكُتّابٍ يابانيين معاصرين مشهورين؛ مثلًا ريونوسكي أكوتاجاوا، وجونيتشيرو تانازاكي، وكوبو آبي، ومن شابههم. ومُلحقٌ بكل عمل -كلها مقتطفات، عدا مجموعة من القصص القصيرة جدًا- بعض الأسئلة. أغلب هذه الأسئلة كانت بلا معنى تمامًا. وبهذه الأسئلة الفارغة، يصعبُ (بل يستحيل) أن تقرر صحّة الإجابة بالمنطق. أشكُ إن كان أيًا من أتى بهذه الأسئلة قادرًا على أن يُقرر. أشياءٌ مثل: «ما الذي تستنبطه من هذه القطعة عن موقف الكاتب من الحرب؟» أو «عندما وصف الكاتب تزايد وتناقص ضوء القمر، ما نوع الأثر الرمزي الذي صاغه؟» يُمكنك أن تجيب أية إجابة تقريبًا. إن قلتَ أن وصف تزايد وتناقص ضوء القمر هو ببساطة وصفٌ لتزايد وتناقص ضوء القمر، ولم يصغ أي أثرٍ رمزي، لا أحد يستطيع أن يقول إن إجابتكَ قطعًا خاطئة. بالطبع هناك إجابةٌ صائبة نسبيًا، لكن لا أظن أن التوّصل لإجابةٍ صائبة نسبيًا يُعد واحدًا من أهداف دراسة الأدب.

أيًا يكن، أزجيتُ الوقت بمحاولة إجابة كل سؤال. وفي معظم الحالات، ما خطر في بالي (في عقلي الذي كان لا يزال في طوّر النمو والتطور، ويناضل يوميًا ليبلغ نوعًا من الاستقلال السيكولوجيّ) كانت إجابات غير صائبة نسبيًا، لكنها ليست خاطئة بالضرورة. ربما هذه النزعة هي أحد أسباب اِنخفاض درجاتي في المدرسة.

وبينما يحدث هذا، عاد شقيق حبيبتي إلى غرفة الجلوس. كان شعره لا يزال مُبعثرًا في كل اتجاه، لكن، ربما بسبب تناوله للإفطار، عيناه لم تعد نعسةً كما كانت من قبل. يحمل كوبًا كبيرًا أبيض، مطبوعٌ عليه صورة لطائرة ألمانية ثنائية السطح من الحرب العالمية الأولى، وعليها رشّاشين أمام قمرة القيادة. هذا حتمًا كوبه الخاص. ما كنت لأتصوّر أن حبيبتي تشرب من كوبٍ كهذا.

سألني: «ألا تُريد قليلًا من القهوة فعلًا؟»

هززتً رأسي وقلت: «لا أنا حقًا بخير».

كانت كنزته مُغطاةً بفتات الخبز، وركُبتا بنطاله كذلك. واردٌ أنه كان يتضور جوعًا واِلتَهم التوست دون أن يأبه بتناثر الفتات في كل مكان. بإمكاني تخيل أن هذا التصرف يُزعج حبيبتي، بما أنها مُتأنقةً ومهندمة طوال الوقت. أنا نفسي أحب أن أكون مُتأنقًا كذلك؛ أظنها سمةٌ مُشتركة مثّلت أحد أسباب تناغمنا معًا.

نظر شقيقها للحائط. كانت هناك ساعةٌ على ذاك الحائط، أشارت عقاربها إلى الحادية عشر ونصف تقريبًا.

«لم تَعد بعد، صحيح؟ أين ذهبت يا ترى؟»

لم أرد.

«ماذا تقرأ؟»

«مُلحق القراءة لمنهجنا للغة اليابانية».

«ممم»، قال وهو يميل برأسه قليلًا، «أهو شيّق؟»

«ليس بالضبط. ليس معي شيءٌ آخر لأقرأهُ».

«هل يمكن أن تُريني إياه؟»

مرَرتُ له الكتاب من على الطاولة المنخفضة. تناول الكتاب بيده اليمنى وفي يسراه كوب القهوة. شعرتُ بالقلق من أن يسكب القهوة عليه، بدا ذلك على وشك الحدوث. لكنه لم يسكبها. وضع كوبه على سطح المنضدة الزجاجية مع صوت طرقعة، وأمسك بالكتاب بكلتا يديه وبدأ يُقلّب فيه.

«أي جزءٍ كنت تقرأه؟»

«كنت أقرأ قصة (تروسٌ دوّارة) لأكوتاجاوا. يوجد هنا جزءٌ من القصة وليس العمل بأكمله».

فكر مليًا ثم قال: «لم أقرأ (تروسٌ دوّارة) من قبل، لكن قرأت قصته (كابا) من زمنٍ بعيد. أليست (تروسٌ دوّارة) بقصةٍ شديدة الكآبة؟».

«صحيح. كتبها قبل موته مباشرةً». تناول أكوتاجاوا جرعةً زائدة وهو في الخامسة والثلاثين من عمره، وتُشير ملاحظات مُلحق القراءة أن قصة (تروسٌ دوّارة) نُشرت بعد وفاته عام 1927. كأن القصة وصيةٌ أخيرة.

قال شقيق حبيبتي: «ممم هل بإمكانكَ أن تقرأها لي؟»

نظرتُ له متفاجئًا، «تقصد أقرأها جهرًا؟»

«نعم. أحب دائمًا أن يقرأ الناس لي؛ أنا لستُ بقارئٍ عظيم».

«لستُ بارعًا في القراءة جهرًا».

«لا أمانع، لا يجب أن تكون بارعًا. اقرأ بالترتيب الصحيح وسيفي هذا بالغرض. أقصد، واضحٌ أنه ما من شيءٍ آخر لنفعله».

قلت: «لكنها قصةٌ مُوحشة ومربكة للغاية».

«أحبُ أحيانًا سماع هذا النوع من القصص؛ مثل أن نُصارع الشر بالشر».

نَاولَني الكتاب وتناول كوب القهوة ذا الطائرة والصُلبان الحديدية، وأخذ رشفةً. ثم غاص في الأريكة مُنتظرًا أن أبدأ القراءة.

هكذا انتهى المطاف بي في يوم الأحد ذاك إلى قراءة فصل من قصة (تروسٌ دوّارة) لأكوتاجاوا على مسامع الشقيق الأكبر لحبيبتي غريب الأطوار. ترددتُ في البداية، ثم زاد حماسي لما أفعله. كان في ملحق القراءة أخر فصلين من القصة -«أضواءٌ حمراء» و«طائرة»- لكن قرأت فصل «طائرة» وحسب. بلغَ طوله ثماني صفحاتٍ تقريبًا، ختامه سطرٌ يقول: «هل من أحدٍ طيّبٍ كفاية ليخنقني في نومي؟» قَتَل أكوتاجاوا نفسه بعد كتابته لهذا السطر فورًا.

أنهيتُ القراءة ولم يَعُد أيًا من أفراد العائلة للمنزل بعد. لم يرن الهاتف، لم ينعق غرابٌ واحد في الخارج. حلّ السكون على الأرجاء كلها. أضاءت أشعة الشمس الخريفية غرفة المعيشة عبر ستائر الدانتيل. الوقتُ وحده هو من مضى في طريقه بطيئًا وثابتًا. جلسَ شقيق حبيبتي هناك، بذراعين مكتوفتين وعينين مغلقتين، وكأنه يتذوّق الأسطر الأخيرة التي قرأتها: «لا أملك القوة لأُتابع الكتابة. مؤلمٌ جدًا، بحدٍ يتجاوز الكلمات، أن استمر في العيش وأنا أشعر هكذا. هل من أحدٍ طيّبٍ كفاية ليخنقني في نومي؟»

هنالك شيءٌ واحد واضح، سواءً أعجبتك هذه الكتابة أم لا: لم تصلح هذه القصة للقراءة في يوم أحدٍ رائق ومُشرق. أغلقتُ الكتاب ونظرتُ لساعة الحائط. تجاوز الوقت الثانية عشر.

قلتُ: «بالتأكيد حصلَ سوء فهم. أظن أنني سأرحل»، ونهضتُ من على الأريكة. رددت أمي على مسامعي مرارًا وتكرارًا منذ الطفولة أنه لا ينبغي عليك أن تزعج الناس في بيوتهم عندما تحين أوقات الطعام. وبغض النظر عن العواقب، تسرّب هذا في تكويني وأصبح عادةً تلقائية.

سأل شقيقها: «لقد قطعت كل هذا الطريق! لما لا تنتظر ثلاثين دقيقة أخرى؟» واسترسل: « لماذا لا تنتظر ثلاثين دقيقة أخرى وإن لم تأتِ وقتها، فبإمكانك الرحيل؟»

كانت كلماته مميزةً على نحوٍ غريب، جلستُ مجددًا وأرحتُ يداي على حجري.

«أنت بارعٌ في القراءة جهرًا»، قال وهو يبدو مبهورًا بصدق. «هل أخبركَ أحدهم بهذا من قبل؟»

هززتُ رأسي نافيًا.

«لا يُمكنك قراءتها كما فعلت إن لم تتشرب المضمون تمامًا. كان الجزء الأخير جيدًا بشكلٍ خاص».

أجبتُ باقتضاب، «أوه». وشعرتُ بالحمرة تضرب وجنتاي قليلًا. بدا المديح مُضَلّلًا وأشعرني بالارتباك. لكن الشعور الذي وصلني هو أنني سأُشارك في حوارٍ سيستمر لثلاثين دقيقة معه، بدا محتاجًا لشخصٍ ما ليتحدث معه.

ضمَ كفيه بإحكامٍ أمامه، كما في الصلاة، ثم قال فجأةً: «قد يبدو هذا سؤالًا مريبًا، لكن هل سبق وتوقفت ذاكرتك؟»

«توقَفت؟»

«أقصد، مثلًا، ألا تتذكر أبدًا أين كنت ولا ما كنت تفعله من نقطة زمنيةٍ بعينها إلى نقطةٍ أخرى».

حركتُ رأسي، «لا أظن أن هذا حدث لي من قبل».

«يعني أنت تتذكر تتابُع زمن وتفاصيل ما فعلته؟»

«إن كان شيئًا حدث مؤخرًا فسأقول نعم، أتذكر».

«هممم»، قال ثم حكّ مؤخرة رأسه للحظة، ثم تكلم، «أعتقد أن هذا طبيعي».

انتظرتهُ يُكمل حديثه.

«في الواقع، سبق أن تلاشت ذاكرتي عدة مراتٍ من قبل. كأن ذاكرتي تنقطع عند الساعة الثالثة مساءً، وما أدركه بعد ذلك هو أن الساعة السابعة مساءً. ولا أتمكن من تَذكر أين كنت ولا ما فعلت خلال هذه الساعات الأربع. ليس الأمر وكأن شيئًا استثنائيًا حدث لي، كأن ضُربت على رأسي أو سكرت أو أي شيء. أفعل ما أفعله في العادة، ودون تحذير، تنقطع ذاكرتي. لا أستطيع التنبؤ بوقت حدوثه. ولا أعرف كم ساعةً، بل كم يومًا، ستتلاشى ذاكرتي».

همهمتُ: «أفهم»، لأُعلمه أنّي أتابع ما يقول.

«تخيّل أنك سَجلت سيمفونيةً لموزارت على مُسجل، وعندما أعدت تشغيله، قفز الصوت من منتصف الحركة الثانية إلى منتصف الحركة الثالثة، وتلاشى ما كان يجب أن يُعزف بينهما. يُشبهه هذا الأمر. وعندما أقول (تلاشى)، لا أقصد أن في الشريط جزءًا خاليًا. بل اختفى وحسب. أتفهم ما أقول؟»

قلتُ بنبرةٍ غير واثقة: «أظن ذلك».

«سيكون شيئًا مزعجًا إن حدث هذا في الموسيقى، لكن ما من ضررٍ حقيقي، صحيح؟ لكن، إن حدث في حياتكَ الواقعية، فإنه لعذاب، صدقني... تفهم ما أعنيه؟»

أومأتُ.

«تذهب للجزء المُعتم من القمر وتعود خالي الوفاض».

أومأت مجددًا. لم أكن متأكدًا من فهمي لمعنى التشبيه تمامًا.

قلتُ بنبرةٍ غير واثقة: «أظن ذلك».

«يُسببه مرضٌ وراثي، وتندُر الحالات الواضحة كحالتي. يُصاب شخصٌ واحد من عشرات الآلاف بهذا المرض. هناك اختلافات بينهم بالطبع. في السنة الأخيرة من المدرسة الثانوية، فحصني أخصائي الأمراض العصبية في مستشفى الجامعة. أخذتني أمي إليه».

توقفَ بُرهةً ثم تابع: «بمعنى آخر، هي حالةٌ يتشوش فيها تتابع ذاكرتك. يُحجب جزءٌ من ذاكرتك في الدُرج الخطأ. ومن شبه مستحيل، بل من المستحيل فعلًا، أن تعثر عليه مجددًا. هكذا شرحوا الحالة لي. لم يكن نوعًا من الاضطرابات الشنيعة التي يحتمل أن تكون مُميتة، أو حيثما تفقد عقلك بالتدريج. لكنه يُسبب مشاكل في حياتك اليومية. أخبروني اسم الاضطراب وأعطوني أدويةً لتناولها، لكن لم تفعل الأقراص أي شيء. إنها أدويةٌ وهمية (بلاسيبو) لا أكثر».

سكَت شقيق حبيبتي للحظة، متمعنًا فيّ عن كثبٍ ليرى إن كنتُ أفهمه. كأنه موجودٌ خارج المنزل ويحدق إلى داخله عبر نافذة.

قال أخيرًا: «تحدث هذه النوبات مرةً أو مرتين في العام الآن. ليس كثيرًا، لكن القضية ليست التكرار. تُسببُ النوبات مشاكل حقيقية عندما تحدث، حتى إن كان لمامًا، بشعٌ للغاية هذا النوع من فقدان الذاكرة، وألّا تعرف متى حدث. تفهمني، صحيح؟»

قلتُ بغموض: «آها». كان ذلك كل ما يُمكن فعله لأتابع سير هذه القصة السريعة العجيبة.

«افترض مثلًا أن انقطعت ذاكرتي فجأة، وحدث خلال هذه الثغرة أن تناولتُ مطرقةً وهشمت بها رأس شخصٍ ما، شخصٌ لا أحبه. مستحيلٌ أن تتغاضى عن هذا بقولك (حسنٌ، هذا غير مهذب). هل أنا مُحق؟»

«أظن ذلك».

«ستتدخل الشرطة، وإن أخبرتهم أن (كل ما في الأمر أن ذاكرتي طارت)، لن يصدقوا قولي هذا، ها؟ أليس كذلك؟»

هززتُ رأسي.

«هناك بالفعل عددٌ من الناس لا أحبهم بالمرة؛ أشخاصٌ يثيرون حنقي. أبي واحدٌ منهم. لكن حين يصفو تفكيري، لا أكون على وشك تحطيم رأس أبي بمطرقة، أليس كذلك؟ أنا قادرٌ على التحكم بذاتي. لكن، عندما تنقطع ذاكرتي، ما من فكرةٍ لدي عما أفعله».

مِلتُ برأسي للأمام، ممتنعًا عن الإفصاح بأي رأي.

«قال الطبيب إنه ما من خطرٍ لحدوث ذلك. فالأمر ليس كأن أحدًا ما يتلبس شخصيتي عندما أفقدُ ذاكرتي. مثل الدكتور جيكل والسيد هايد. أنا دائمًا كما أنا. الأمر ببساطة هو أن الجزء المُسجل يَشطب من منتصف الحركة الثانية حتى منتصف الثالثة. أنا قادرٌ دائمًا على السيطرة على ذاتي، وأن أتصرف بشكلٍ طبيعي معظم الوقت. لم يتحول موزارت فجأةً إلى سترافينسكي. ظل موزارت نفسه؛ فقط توارى جزءٌ واحد في درجٍ في مكانٍ ما».

سكَت لحظتها ورشفَ رشفةً من كوب قهوته. كنت أتوق لأحظى بقليلٍ من القهوة أيضًا.

«أو على الأقل، هذا ما أخبرني به الأطباء. لكن يجب عليكَ أن تأخذ كلام الأطباء على محملِ الشك. عندما كنتُ في المرحلة الثانوية، أرعبني أشد الرعب التفكير في أنني، عندما لا أعرف ما أنا بفاعل، قد أُحطم رأس أحد زملائي بمطرقة. أقصد، ها أنت في المرحلة الثانوية وما زلتَ لا تعرف من أنت، صحيح؟ أَضف لذلك ألم فقدان الذاكرة ولن تُطق الأمر البتة».

أومأتُ بصمت؛ ربما هو على حق.

استرسل شقيق حبيبتي كلامه: «توقفتُ تمامًا عن الذهاب للمدرسة بسبب كل ذلك. وكلما فكرتُ في الأمر أكثر، اِزددتُ خوفًا، ولم أقو على الذهاب للمدرسة. شرحتْ أمي موقفي لمعلمي، فاستثنوني وسمحوا لي بالتخرج رغم غيابي المبالغ فيه. أظن أن المدرسة أرادت التخلّص بأسرع ما يُمكن من طالب مُشكلة مثلي. لكن لم ألتحق بالجامعة. درجاتي لم تكن سيئة وبإمكاني الذهاب لكليةٍ ما، لكن فقدت الثقة لأخرج. ومن وقتها وأنا أتسكعُ في أرجاء المنزل. آخذُ الكلب ليتمشى أحيانًا، وتندُر مغادرتي للمنزل عدا ذلك. لا أشعر بالفزع هذه الأيام، وإن أصبحت الأشياء أكثر هدوءًا، فلربما أشرع بالالتحاق بالكلية».

سكتَ آنذاك، وسكتُ أنا أيضًا. لم أعرف ماذا أقول؛ أفهم الآن لماذا لم ترغب حبيبتي في التحدث عن شقيقها أبدًا.

قال: «شكرًا لقراءتك تلك القصة لي. (تروسٌ دوَّارة) قصةٌ عظيمةٌ للغاية. حالكة السواد بالتأكيد، لكن الكتابة لمست قلبي. أواثقٌ أنك لا تريد قليلًا من القهوة؟ ستأخذ دقيقةً واحدة فحسب لإعدادها».

«لا، أنا بخيرٍ فعلًا. يُفضل أن أرحل».

نظرَ مُجددًا إلى الساعة المُعلقة على الحائط، ثم قال: «لِم لا تنتظر حتى الساعة الواحدة، ثم تغادر إن لم يَعد أحدٌ وقتها. سأكون في الأعلى في غرفتي، لذا بإمكانك المغادرة بنفسك. لا حاجة للقلق عليّ».

أومأتُ.

سأل شقيق حبيبتي مرةً أخرى: «أهو أمرٌ شيّق؟ صحبة سايوكو؟»

أومأتُ. «نعم، شيّق».

«أي شيءٍ بالتحديد؟»

أجبتُ: «حقيقةُ أن هنالك الكثير مما لا أعرفهُ حِيالها»، أظنُها إجابةً صريحة جدًا.

قال وهو يفكر مليًا في الإجابة: «همم. الآن بما أنك أشرتَ لهذا، إنها أختي الصغرى، نحن مرتبطان بالدم، نحمل نفس الجِينات وكل شيء، ونعيش سويًا تحت السقف نفسه منذ ولادتها، لكن لا تزال هناك أطنان من الأشياء التي لا أفهمها فيها. لا أفهم... كيف أصوغه؟ ما يُحركها؟ لذا سأحب لو فهمتَ هذه الأشياء لأجلي. رغم أن ربما هناك أشياءٌ من الأفضل ألا تُحاول فهمها».

ثم نهضَ من على الأريكة حاملًا كوب القهوة في يده.

قال شقيقُ حبيبتي: «على العموم، ابذُل قصارى جهدكَ». ولوّح لي بيده الفارغة ثم غادر الغرفة.

قلتُ: «شكرًا».

دقت الساعة الواحدة، وما من علامةٍ تُشير إلى عودة أي شخص، لذا توجهت بمفردي إلى الباب الأمامي، اِنتعلتُ حذائي الرياضي وغادرت. مررتُ بجوار غابة الصنوبر وأنا في طريقي إلى المحطة، ركبتُ القطار وعدتُ للمنزل. كانت ظهيرة يوم أحدٍ خريفية هادئة وساكنة على نحوٍ غريب.

هاتفتني حبيبتي بعد الساعة الثانية مساءً. قالت: «كان المفروض أن تأتي يوم الأحد القادم». لم أقتنع تمامًا، لكنها كانت مُحددةً للغاية حيال الموعد لذا فهي على حقٍ غالبًا. اعتذرتُ بوداعةٍ عن قدومي لمنزلها مُبكرًا بأسبوعٍ كامل عن الموعد.

لم آتِ على ذكر أنني خضت حوارًا مع شقيقها بينما أنتظر عودتها إلى المنزل، ربما كلمة «حوار» ليست بالكلمة الصائبة، بما أنني استمعتُ له فحسب. قررتُ أن من الأفضل ألا أخبرها بقراءتي لقصة ريونوسكي أكوتاجاوا، (تروسٌ دوَّارة) له، وأنه أفصح لي عن علة ثغرات ذاكرته. إن لم يُطلعها هو على تلك الأشياء، فلا سبب لأفعل أنا ذلك.

بعد ثمانية عشر عامًا، قابلتُ شقيقها مجددًا. حدث هذا في منتصف أكتوبر، وكنت حينها في الخامسة والثلاثين من عمري وأعيش في طوكيو مع زوجتي. أبقاني عملي مشغولًا ونادرًا ما عدتُ إلى كوبه.

في آخر النهار، كنتُ أمشي على رابيةٍ في حي شيبويا لاستلام ساعةً بعد إصلاحها. وبينما أمضي قُدمًا، تائهًا في أفكاري، التفتَ رجلٌ مررتُ بجانبه ونادى عليّ.

قال: «من فضلكَ»، لديه لهجة كانساي لا لبس فيها. توقفتُ واستدرتُ، فرأيتُ رجلًا لم أميزه. بدا أكبر وأطول بقليلٍ مني. ارتدى جاكِيتَة صوفية ثقيلة رمادية اللون، وكنزة كريمية ضيقة العنق من الكشمير، وبنطال تشينو بنيّ. شعره قصير ولديه قوام مشدودٌ كشخصٍ رياضي وسمرةٌ داكنة (اكتسبها من لعب الجولف على الأرجح). كانت ملامحه خشنة لكن جذابة. أظنه وسيمًا. باغتني شعورٌ بأنه رجلٌ سعيد بصحبة زوجته؛ حسبته رجلًا نبيلًا.

قال: «لا أتذكر اسمكَ، لكن ألم تكن حبيب أختي الصغرى لفترة؟»

تفحصتُ وجهه مجددًا، لكن لم يَحضر لذاكرتي.

«أختكَ الصغرى؟»

قال: «سايوكو، أعتقد أنكما كنتما في الصف نفسه في الثانوية».

وقعت عيناي على بقعة صلصة طماطم على كنزته الكشمير الكريمية. كان متأنق الملبس وفاجئتني هذه البقعة الصغيرة التي في غير محلها. ثم صعقتني الذكرى؛ الشقيق ذو العيون الناعسة والكنزة الكحلية ذات الياقة الفضفاضة والمُغطاة بفتات الخبز.

قلتُ: «أتذكركَ الآن. أنت أخو سايوكو الأكبر. تقابلنا مرةً في منزلكم، صحيح؟»

«نعم، صحيح. قرأت لي قصة ريونوسكي أكوتاجاوا (تروسٌ دوَّارة)».

ضحكتُ وقلت: «لكنّي مندهش من مقدرتكَ على ملاحظتي وسط هذا الحشد؛ تقابلنا مرةً واحدة منذ زمنٍ بعيد».

«لا أنسى أي وجهٍ أبدًا، لا أعرفُ السبب. لا يبدو كذلك أنكَ تغيرتَ على الإطلاق».

قلتُ: «لكنكَ تغيرت كليًا، تبدو مختلفًا الآن».

قال مُبتسمًا: «حسنٌ، ما فاتَ مات. الأمور كانت شديدة التعقيد في حياتي لفترةٍ كما تعرف».

سألتُ: «كيف حال سايوكو؟»

أشاح بنظرةٍ مضطربة جانبًا، وأخذ نفسًا بطيئًا، ثم تنهد كأنهُ يقيس كثافة الهواء حوله.

قال: «لمَ لا نذهب إلى مكانٍ ما لنجلس ونتحدث بدلًا من أن نقف هنا في الشارع؟ إن لم تكن مشغولًا طبعًا».

أجبته: «لا شيء ملحًا».

قال بهدوء: «فارقتْ سايوكو الحياة».

جلسنا في مقهى قريب مُتقابلين تفصل بيننا  طاولةُ بلاستيكية.

«فارقت الحياة؟»

«ماتت. من ثلاث سنوات».

أخرسني ما قاله؛ شعرتُ بلساني يتضخم داخل فمي. حاولتُ بلع اللعاب المتكوّم، ولم أقدر.

أخر مرةٍ رأيت سايوكو كانت في العشرين من عمرها وحصلت لتوها على رخصة القيادة، قادت بنا  إلى قمة جبل روكّو في كوبه، في سيارةٍ من طراز تويوتا كراون بيضاء اللون بسقف، وكانت سيارة أبيها. كانت قيادتها ما تزال خرقاء بعض الشيء، لكنها بدت منتشيةً وهي تقود. وكما هو متوقع، صدح المذياع بأغنيةٍ للبيتلز. أتذكرها جيدًا. «مرحبًا، وداعًا» Hello, Goodbye تقولين وداعًا وأقولُ مرحبًا. وكما أشرتُ سابقًا، انتشرت موسيقاهم في كل مكان وقتئذ.

لم أتمكن من استيعاب حقيقة موتها وعدم وجودها في هذا العالم بعد الآن. لا أعرف كيف أصوغ الأمر، لكنه شديد السريالية.

سألته بفمٍ جاف: «كيف.. ماتت؟»

قال مُنتقيًا كلماتهٍ بحرص شديد: «انتحَرت.. تزوجت وهي في السادسة والعشرين من زميل في شركة التأمين التي عملت بها وأنجبت طفلين، ثم أنهت حياتها عندما أتمت الثانية والثلاثين».

«خلّفت وراءها طفلين؟»

أومأ شقيق حبيبتي السابقة. «الأكبر فتى، والصغرى فتاة. يتولى زوجها رعايتهما، وأزورهما بين الحين والآخر. طفلان رائعان».

كنتُ ما أزال مضطربًا لأفهم حقيقة الأمر. حبيبتي السابقة قتلت نفسها، تاركةً وراءها طفلين صغيرين؟

«لماذا انتحرت؟»

هزّ رأسه، «لا أحد يعرف السبب. لم تتصرف كأنها مكتئبة أو مشوشة. صحتها كانت بخير، والأوضاع بينها وبين زوجها جيدة، وعشقت طفليها. لم تترك رسالةً أو أي شيء. وصف لها طبيبها أقراصًا منومة، اِدخرتهم وتناولتهم كلهم مرةً واحدة. لذا يبدو أنها خططت لقتل نفسها، أرادت أن تموت؛ خبأت الدواء قرصًا قرصًا. لم يكن الأمر نزوةً مُباغتة».

سكتنا لفترة؛ كلٌ منا ضائعٌ في أفكاره.

في ذلك اليوم، في مقهى على قمة جبل روكّو، انفصلتُ أنا وحبيبتي. كنتُ سألتحق بالكلية في طوكيو ووقعتُ في حب فتاةٍ هناك. كنتُ صريحًا واعترفتُ بالأمر كله، وهي، لم تلفظ سوى كلمةً واحدة، أمسكتْ بحقيبة يدها ووقفت، ثم ولتْ مسرعةً من المقهى، دون أن تُلقي نظرةً خاطفة للخلف.

اِضطررتُ لركوب التِلِفريك بمفردي لأهبط من الجبل. وحتمًا قادت هي سيارة التويوتا كراون البيضاء للمنزل. كان يومًا مشمسًا وبديعًا، أتذكر كيف تمكنتُ من رؤية كوبه كلها من نافذة العربة المعلّقة، كان منظرًا خلّابًا.

ذهبت سايوكو للكلية، حصلت على عمل في شركة تأمين رائدة، تزوجت أحد زملائها في العمل، أنجبت طفلين، ادخرت الأقراص المنومة، وأنهت حياتها.

كنت سأنفصلُ عنها عاجلًا أم آجلًا. مع ذلك، في جعبتي ذكرياتٌ أثيرة للسنوات التي قضيناها بصحبة بعضنا. كانت حبيبتي الأولى، وأحببتها بشدة. هي من علّمني عن الجسد الأنثوي، خضنا كل الأشياء الجديدة سويًا، وتشاركنا أوقاتًا جميلة، الشيء الذي يكون مُمكنًا فقط خلال مراهقتك.

يشق عليّ قول هذا الآن، لكنها لم تقرع ذاك الجرس الخاص داخل أُذناي. أنصتُّ له بكل قواي، لكنه لم يرن ولا مرةٍ أبدًا. للأسف. من قرعته هي الفتاة التي تُعرفتُ عليها في طوكيو. هذا ليس بشيءٍ تختاره بمحض إرادتك، تبعًا للمنطق أو للأخلاقيات. إمّا أن يحدثُ أو لا. وعندما يحدث، يحدثُ من تلقاء نفسه، في لاوعيكَ أو في مكانٍ عميق في روحكَ.

قال شقيق حبيبتي السابقة: «تعرف، لم يخطر ببالي أبدًا، ولا مرة، أن سايوكو قد تنتحر. حتى إن قتل كل إنسانٍ في العالم بأكمله نفسه، ظننتُ -وأتضح أنني على خطأ- أنها ستظل موجودة، حيةً وبخير. لم أرَ أنها من النوع خائب الأمل أو كمن يحملُ بداخله ظلمةً مخفيّة. بصراحة، ظننتُها سطحيةً بعض الشيء. لم أُعرها اهتمامًا على الإطلاق، وأظن الأمر سيان من ناحيتها. ربما لم ننسجم سويًا لا أكثر... في الواقع، كنتُ على وفاقٍ أكثر مع أختي الثانية. لكن أشعر أنني ارتكبت فِعلًا شنيعًا في حق سايوكو، ويؤلمني هذا. ربما لم أعرفها فعلًا. ربما كنتُ شديد الانشغال بحياتي. لعل شخصًا مثلي يفتقر للقوة لينقذ حياتها، كان يجب أن أتمكن من فهم شيءٍ ما فيها، حتى إن لم يكن كثيرًا. يشق على نفسي تحمل هذا الآن. كنتٌ شديد الغرور والأنانية».

ما من شيءٍ يمكن قوله. محتملٌ أنني كذلك لم أفهمها مطلقًا. كنتُ مثله، شديد الانشغال بحياتي.

قال شقيق حبيبتي السابقة: «في تلك القصة التي قرأتها لي وقتئذ، (تروسٌ دوّارة) لأكوتاجاوا، يوجد جزءٌ يحكي عن أنه عندما يتنفس الطيار هواء السماء الطلق، لا يُطيق تنفس الهواء على الأرض بعد ذلك... يسمونه (مرض الطائرات). لا أعرف إن كان هذا مرضًا حقيقًا أم لا، لكن ما زلتُ أتذكر هذه السطور».

سألتُه: «هل تغلبتَ على تلك الحالة حيثما تطير ذاكرتك أحيانًا؟» أظنني كنتُ أحاول تغيير دفة الحديث عن سايوكو.

قال مُضيقًا عينيه قليلًا: «آه صحيح، ذاك الأمر. كان غريبًا، لكنه اختفى تِلقائِيًا. أنهُ اضطرابٌ جيني، ويُفترض أن يسوء بمرور الوقت، كما قال الطبيب، لكنه تلاشى هكذا، كأنني لم أُصب به أساسًا. كأنه طيفٌ شيطاني ورحل».

قلت وأنا أعني ما أقول: «سعيدٌ لسماع هذا».

«حدثت لي نوبة بعدما تقابلنا بفترةٍ وجيزة، ومن بعدها لم أقاسِ فقدان الذاكرةِ مجددًا، ولا مرة أبدًا. كنتُ أكثر هدوءًا، وقادرًا على الالتحاق بكليةٍ جيدة إلى حدٍ ما، تخرجتُ ثم توليتُ مسؤولية عمل والدي. أخذتْ الأمور منعطفًا لعدة سنوات، لكنّي أعيش حياةً طبيعيةً الآن».

كررتُ: «سعيدٌ لسماع هذا. يعني لم ينته بكَ المطاف مُهشمًا رأس أبيكَ بمطرقة».

قال: «إنك تتذكر بعضًا من الأشياء الغبية» ثم ضحكَ بصوتٍ عالٍ. «لكن، تعرف، لا آتي لطوكيو لغرض العمل عادةً، ومن الغريب أن أتعثر فيك بهذه الطريقة في هذه المدينة الهائلة. لا يسعني إلا أن أشعر أن شيئًا ما جمعنا سويًا».

قلتُ: «بالتأكيد».

«ماذا عنك أنت؟ هل تعيش في طوكيو طوال تلك الفترة؟»

أجبته: «تزوجتُ بعد تخرجي من الكلية، وأعيش في طوكيو من وقتها. أكسب رزقي بالعمل ككاتب الآن».

«كاتب؟»

«نعم. إلى حدٍ ما».

«كنتَ بارعًا للغاية في القراءة جهرًا. ربما يُشكل عليكَ عبئًا قولي هذا، لكن أظن أن سايوكو أحبتكَ أكثر من الجميع».

لم أرد. ولم يقل شقيق حبيبي السابقة شيئًا آخر.

ثم ودعنا بعضنا. ذهبتُ لاستلام ساعتي التي كانت تُصلّح، ومشى شقيق حبيبتي السابقة لأسفل الرابية إلى محطة شيبويا. وابتلع زحام الظهيرة قوامه ذو الجاكتة الصوفية.

لم أقابله مجددًا. جمعتنا الصدفة مرةً ثانية، بفاصل عشرين عامًا بين اللقاءين، في مدينة تبعد عن محل لقاءنا الأول بمسافة ثلاثمئة ميل، جلسنا، تفصل بيننا طاولة، نرتشف القهوة ونتحدثُ عن أشياء قليلة. لكنها لم تكن من نوع المواضيع التي يدردشُ فيها المرء أثناء شرب القهوة. كان هناك شيءٌ أكثر أهمية في حديثنا، شيءٌ مهمٌ عندنا، في طريقة عيشنا لحياتنا. رغم ذلك، ما كان ذلك سوى تلميحًا يصل لنا بمحض الصدفة. ما من شيءٍ يربط بيننا بطريقةٍ منظمة أو منهجية. (سؤال: اذكر العناصر الموجودة في حياة الرجلين المُشار لها رمزيًا في اللقائين والمحادثتين؟)

كذلك لم أرَ الفتاة الحلوة مرةً ثانية؛ الفتاة التي تحمل أسطوانة ألبوم «بصحبة البيتلز». أحيانًا أتساءل، هل لا تزال تمشي على عجلٍ في رواق المدرسة الثانوية المعتم في عام 1964، وحاشيةُ تنورتها ترفرفُ معها؟ في السادسة عشر من عمرها للآن، تحمل غلاف الألبوم المدهش ذاك، بصورةٍ نصف مُضاءة لجون وبول وجورج ورينجو، قابضةً عليه بإحكام وكأن حياتها تعتمد عليه.


اقرأ المزيد: كِريمة – هاروكي موراكامي – قصة قصيرة


[1] سابع أكبر مدينة في اليابان.

[2] يُشير مصطلح جيل طفرة المواليد (baby-boomer generation) إلى المواليد بعد الحرب العالمية الثانية ما بين عام 1946 إلى 1964، وأطلق عليه هذا الاسم بسبب ارتفاع معدل المواليد بعد الحرب.