الحكيم

ريونوسوكي أكوتاجاوا*

ترجمة: رولا عادل رشوان

عن ترجمة تشارلز دي وولف للإنجليزية

ريونوسوكي أكوتاجاوا، كاتب ياباني من مواليد عام 1892، درس الأدب الإنجليزي في جامعة طوكيو، وامتهن كتابة القصة حتى سُمّي بـ «أبو القصة القصيرة»، و«تشيخوف اليابان»، انتحر أكوتاجاوا عام 1927 ودشَّن صديق عمره؛ الناشر كان كيكوكتشي، بعد وفاته، جائزة أدبية باسمه، «جائزة أكوتاجاوا»، لتصبح من أشهر الجوائز الأدبية في اليابان.

خاص بـ Boring Books

تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها.

***

عن wikiquote

قرائي الأعزاء، دعوني أنتهز فرصة وجودي الآن في أوساكا، لأقص عليكم قصة محلية جرت أحداثها في المدينة.

في زمن بعيد، ارتحل رجل قاصدًا مدينة «أوساكا» بحثًا عن وظيفة خادم منزلي. كان الرجل قد تدرّج بين مهام عدّة ضمن العاملين في المطبخ، عُرف الرجل بين الجميع باسم «جونسوكي».[1]

عَبَر جونسوكي الستائر التي تحجب المدخل إلى وكالة لتوظيف الخادمين، وتحدث إلى الموظف الجالس على مكتب الاستقبال الذي تتدلى قصبة غليون طويلة من فمه.

«سيدي، تراودني أمنية عزيزة بأن أصبح حكيمًا خالدًا، وعليه ألتمس منك أن تلحقني بخدمة من يساعدني على تحقيق أمنيتي الغالية».

عندما لم يمنحه الموظف المندهش ردًا فوريًا، استرسل جونسوكي: «سيدي، ألم تسمع ما قلت؟ وددت لو أرسلتني إلى مكان يؤهلني لأصبح حكيمًا».

أجاب الموظف أخيرًا بينما ظل ينفخ في غليونه «إني آسف حقًا، سيدي الكريم، لإخبارك أننا لا نملك أي خبرة سابقة في التوسط لتوظيف متدربين في مجال الحكمة، وهكذا أقترح عليك فضلًا أن تبحث في مكان آخر».

اعترض جونسوكي مبديًا امتعاضه الشديد، ومتقدمًا نحو الموظف وراكعًا حتي احتك بالأرض بنطاله الأزرق المائل إلى الرمادي[2]. «ولكن يا سيدي، أليس ما تقول يتعارض كليًا مع ما تدعي مؤسستكم الفاضلة قدرتها على تحقيقه، والمذكور على البوابة: (نتوسط لكافة أشكال التوظيف)، هل ادعاؤكم هذا حقيقي؟ أم مضل ومزيف؟»

كان غضب جونسوكي عظيمًا، ومبررًا.

«لا، ما نقوله هو الحقيقة بعينها، إذا كان ما تريده هو وظيفة تؤهلك لأن تصبح حكيمًا ذا روح خالدة، سأبحث اليوم بعزم في الأمر، ويمكنك المرور غدًا لأبلغك بالرد».

وهكذا انصاع الموظف إلى طلب جونسوكي، بينما كان يسعى في الحقيقة للتهرب منه، ولكن مشكلته الحقيقية تركزت في أنه كان يجهل بالفعل كيف يمكنه مساعدة رجل تراوده الرغبة في التدرب لهذه الوظيفة، وكيف يمكن في الأصل أن يتدرب المرء في مجال كمجال الحكماء؟ ولهذا، فور رحيل جونسوكي، هرع الموظف إلى جار له يعمل طبيبًا.

سأل الموظف بنبرة قلقة، مستفهمًا عن حلٍّ بعدما أفضى للطبيب بكامل القصة، «والعمل يا سيدي الطبيب؟ أين نرسل هذا الرجل ليتعلم كيف يُصبح خالدًا؟»

لا بد أن حيرة مشابهة لحيرة الموظف قد أصابت الطبيب أيضًا، فقد جلس عاقدًا ذراعيه محملقًا في شجرة الصنوبر القائم جذعها في حديقته. متنصّتة على حديثهم كانت زوجة الطبيب، والتي كُنيت باسم ناسبها تمامًا؛ «الثعلبة العجوز». تدخلت الزوجة في الحديث بغير تردد: «أرسله إلينا، في غضون عامين أو ثلاثة سيكون جاهزًا لمواجهة العالم كحكيم حقيقي».

«كم أنا سعيد لسماع هذا، وسوف أنقل العرض إلى الرجل بكل امتنان. صَدَق حدسي الذي أخبرني عن ضرورة وجود علاقة ما تربط الأطباء بالحكماء».

انحنى الموظف في حماس مرارًا للطبيب، وانصرف محتفلًا، جاهلًا بتفاقم مشكلته، وإذ راقبه الطبيب ينصرف، بذات ملامحه المنزعجة وبسخط يتزايد في كل لحظة، سأل زوجته: «ما هذه الترهات؟»، انتقدها مسترسلًا: "هلّا أخبرتني ماذا عسانا سنخبر هذا الساذج خلال سنوات معدودة إذا لم نف بوعدنا الذي قطعتيه لتوّك؟»

بعيدًا عن أن الزوجة ما كانت لتقبل هذا التوبيخ، فقد أجابته بازدراء: «هلا أمسكت عن الحديث وتوقفت عن مثاليتك؟ أي فرصة تظن أنها قد تُمنح لك ولأمثالك للعيش في هذه الحياة عديمة الرحمة أيها النزيه المغفّل؟»

أخْرَسَت كلمات المرأة زوجها.

في اليوم التالي، عاد الموظف كما وعد، ولكنه في هذه المرّة أتي مُصطحبًا جونسوكي، الريفي الذي بدا مختالًا في معطفه البالي، راغبًا في رسم انطباع أوّلي مهيب، بينما كان مرآه في الحقيقة لا ينبئ عن أكثر من مجرد قروي. كان مظهره غريبًا بالفعل؛ حدَّق إليه الطبيب كما لو كان الرجل وحشًا من جبال الإنديز.

«إذن هل ترغب في أن تصير حكيمًا ذا روح خالدة؟»، تساءل الطبيب متشككًا، «ما الذي ألهمك بهذه الرغبة؟»

«لست متأكدًا تمامًا من دوافعي، ولكنني حين زرت قلعة (أوساكا)، فكّرت أنه حتى الموحد العظيم (هيديوشي)[3] الذي بناها وعمَّرها قد لاقى الموت مصيرًا بعد عمره الطويل، وبهذا خطر لي أن مهما كانت عظمة الإنسان ومهما حقق من مجد، فمصيره في النهاية إلى فناء».

تدخلت المرأة الماكرة زوجة الطبيب وسألت: «إذن أنت مستعد لفعل أي شيء لتتعلم الحكمة وسر الخلود؟»

«نعم. أنا مستعد تمامًا لتنفيذ كافة ما يتطلبه الأمر».

«إذن ومن اللحظة، سوف تعمل في خدمتنا لعشرين عامًا قادمة، بعدها نكشف لك عن سر الحكمة والخلود».

«إنني ممتنٌ لكما حقًا وصدقًا».

«وطيلة هذه المدة لن تتقاضى أي أجر مقابلًا لخدمتك».

«نعم، نعم، أوافق على هذا».

وهكذا، ولمدة عشرين عامًا تلت ذاك الاتفاق، عمل جونسوكي في منزل الطبيب؛ وصار مسؤولًا عن ملء جرار الماء وقطع الأخشاب وطهي الطعام ونظافة المكان، حتى أنه اعتاد حمل حقيبة الطبيب في أثناء جولاته على مرضاه. لم يطلب جونسوكي يومًا أي مقابل لخدماته ولم يتلق مقابلها ولا حتى عملة نقدية واحدة، الأمر الذي جعله خادمًا مثاليًا، لم يكن أي خادم آخر في اليابان ليستطيع الإيفاء حتى بنصف ما منحه جونسوكي لمخدوميه.

وبينما مرَّ عقدان من الزمان، أنهى جونسوكي فترة خدمته، وعاد إلى الظهور بمعطفه البالي، ماثلًا أمام مخدوميه، مانحًا جزيل شكره وتقديره.

«والآن ألتمس إليكما الإيفاء بوعدكما في تعليمي كيف يمكنني أن أصبح حكيمًا وأمتلك سر الخلود».

استمع الطبيب إلى جونسوكي في صمت تتخلله كآبة مطبقة، كيف سيخبر الرجل، الذي استخدمه لسنوات طويلة ماضية دون مقابل يذكر، أنه لا يمتلك أي معرفة عن الحكمة وعلم الخلود حاليًا أكثر مما امتلكه بالأصل في أي يوم من الأيام.

كان رده قاطعًا، بل وفظًا: «إنها زوجتي التي يمكنها تعليمك».

وبدورها أجابت الزوجة بثقة قاطعة تقطر من كلماتها: «سوف أعلِّمك الحكمة، لكن في المقابل عليك أن تلتزم بتنفيذ كافة ما آمرك به، حتى مع صعوبة بعض الأمور أو استحالتها، وإن لم تفعل فلن يكون جزاؤك مجرد الحرمان من امتلاك الحكمة، وإنما سيكون عليك التكفير عن عجزك في أداء المهام بالعمل لدينا لمدة عشرين سنة أخرى، وبدون مقابل، وحينها إما الخدمة وإما الموت جزاء وفاقًا».

«فضلًا أعلميني بواجباتي وما عليَّ فعله، مهما كان شاقًا». أجاب جونسوكي بسعادة منتظرًا أوامرها.

«إذن اذهب وتسلَّق شجرة الصنوبر في الحديقة».

جاهلة بأي من علوم الحكمة وأسرار الخلود، كان كل ما فكرت فيه زوجة الطبيب أنها إذا أجهدت جونسوكي بالعديد من الأوامر والأفعال المستحيل إتمامها، ستمنح نفسها مسرَّة الحصول عليه كخادم لعشرين سنة أخرى قادمة، ومع ذلك، فور سماعه لمهمته الأولى، هرع جونسوكي إلى الحديقة لتنفيذها.

صرخت زوجة الطبيب في جونسوكي بينما تراه متسلقًا الشجرة من الشرفة حيث وقفَت، «أكمِل طريقك، إلى الأعلى، تسلق إلى أعلى الشجرة».، كان معطف جونسوكي البالي يرفرف من حوله الآن من قمة شجرة الصنوبر العالية في حديقة الطبيب.

«والآن ارفع يدك اليمنى عن الشجرة».

نفّذ جونسوكي الأمر بحذر، بينما تمسّك بشدة بيده اليُسرى بغصن ضخم.

«والآن ارفع يدك الأخرى».

انضم لها الطبيب في الشرفة، وصرخ فيها بنظرة ذاهلة: «كفى يا امرأة. لو رفع الساذج يديه الاثنتين لوقع على الصخور دون شك وانتهت حياته علي الفور».

"هذا ليس من شأنك يا عزيزي. دع لي هذا الأمر".

“ارفع يدك اليُسرى".

لم ينتظر جونسوكي حتى لسماع بقية الأمر. رفع جونسوكي يده اليُسرى بنية صادقة. هناك.. من أعلى أغصان الشجرة، لم يبق أي سبب منطقي ليمنع سقوط جونسوكي إلى الأرض في الحال.

انفصل جونسوكي ومعطفه عن جذع الشجرة، ومع هذا، كأعجب ما يكون، ظل جونسوكي معلقًا في الهواء كدمية خشبية مرفوعة بخيوط غير مرئية.

«أشكرك، أشكرك». صرخ جونسوكي، «لقد تعلّمت أخيرا بفضلك ووصلت إلى الحكمة».

منحنيًا بإجلال، سلك جونسوكي طريقه عاليًا نحو السماء الزرقاء، وارتفع محلقًا نحو السحاب.

أما عن مصير الزوجين، فقد بقي مجهولًا، غير أن شجرة الصنوبر عاشت لسنوات طويلة تلت، حتي قيل إن محيط جذعها بلغ أربعة أذرع، ولقد تكبَّد «يودويا تاتسجورو»[4] مشقة نقلها إلى حديقته حتي يمكنه النظر إلى حُسنها تحت الثلوج.


[1]  تأتي كلمة «جونسوكي» في اليابانية بمعني «خادم».

[2]  بالنظر لعادات أهل اليابان في زمن القصة بتبادل الأحاديث، حتى الرسمية منها، بينما يجلسون في وضع الركوع (الجلوس علي الأرض معتمدين على الركبة).

[3]  تويوتومي هيديوشي: أكبر القادة العسكريين في تاريخ اليابان على الإطلاق، وهو ثاني ثلاثة من القادة العسكريين الذين ساهموا في توحيد اليابان.

[4]  يودويا تاتسجورو: تاجر ياباني شهير عاش في القرن السابع عشر وكان شديد الثراء وانتهت أسطورته بمصادرة أمواله ونفيه خارج البلاد.


اقرأ المزيد من ترجمات رولا عادل رشوان: قصتان من بابا ياجا