«مايو 68» بين اﻷمس واليوم

الفصلين الرابع والخامس والخاتمة من كتاب «لغز مايو» لآلان باديو

ترجمة: أحمد حسان

اضغط على الروابط لقراءة الفصول اﻷول والثاني والثالث

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.

التصميم من نيجاتيف (مستلهم من ملصقات ثورة مايو 1968) وخاص بموقع كتب مملة

الفصل الرابع: سرديةٌ صغيرة شخصيةُ الطابع

لحظة انطلاق مايو 68، كنتُ أستاذًا مساعدًا في إحدى مدن الأقاليم. وُضعت الكلية في حالة إضراب (وهي في الحقيقة مركزٌ جامعي لا يتضمن سوى الدراسات التمهيدية)، مع التأخير الفرنسي الكلاسيكي بين ما يحدث في الإقليم الباريسي وبين ما يتبعه في داخل البلاد. هذا الإضراب الطلابي لا يتميز في شيء عما يجري في أي مكانٍ آخر: خليطٌ من المعتقدات والثرثرة، من التصريحات «السياسية» والإصلاحيةِ الأكاديمية. لكنه، مثلما في كل مكان آخر، يقدم قاعدةً للعمل الجماعي. ومرةً أخرى وفقَ مدرسة الوضع العام، ينتشر الإضراب العمالي إلى كل مصانع هذه المدينة، التي كانت في تلك الفترة من أكثر المدن عماليةً في فرنسا طبقاً لتعداد السكان.

وهكذا ذات يومٍ، مثل الأماكن الأخرى أيضا، نظّمنا مسيرةً نحو المصنع الرئيسي المُضرِب في المدينة. في تلك الفترة، كنتُ كادرًا محليًا للحزب الاشتراكي الموحّد (PSU)، اشتراكيا ـ ديموقراطيًا يساريًا في نهاية المطاف. لكنني، ذاتيًا، لم أبق في صفوف مقدمة الموكب بهذه الصفة. وذلك لأنني أعرف أننا نُفَعِّل هناك الأصالةَ المحورية التي يستطيعها مايو 68: الخطَّ المستعرض diagonale الجديد المثقفون ـ العمال. نسير، في موكبٍ طويل ومتلاحم، في شمس ذلك اليوم، صوب ذلك المركز العمالي. ماذا سنفعل هناك؟ لا ندري، لدينا فحسب فكرةٌ غامضةٌ بأن التمرّدَ الطلابي والإضراب العمالي يجب أن يتّحدا، دون توسّط المنظمات الكلاسيكية. نصل إلى المصنع المُحاط بالمتاريس، المكسو بالرايات الحمراء، بصفٍ من النقابيين أمام الحواجز الملحومة، بين الشك والعداء. بعدها، يقتربُ بعضُ العمال الشباب، ثم آخرون، ثم آخرون. تبدأ نقاشاتٌ غير رسمية. يعمل نوعٌ من الاندماج المحلي. نأخذ مواعيد لتنظيم اجتماعات عامة في المدينة. وهنالك ستتأسس إمكانيةُ خطٍ مستعرضٍ نشط بين اثنين من مايو 68.

وفي العام التالي، عُيِّنتُ في جامعة فانسين الجديدة تمامًا. وهناك وجدتُ فورانًا شاملًا، وجودًا لكل المجموعات، فشاركتُ بنشاطٍ في خلق منظمةٍ جديدة، ماويةً صراحةً، تريد أن تكون ــ ألم يقل ماو ذاتُه عدة مراتٍ أنه وسطي؟ ــ بين النزعة اليسارية المُدَّعية لليسار البروليتاري (GP) وبين إعادةِ الصياغة اليمينية للحزب الشيوعي الستاليني لأعوام الثلاثينات التي هي الحزب الشيوعي الماركسي ـ اللينيني لفرنسا (PCMLF). وسمينا هذه المنظمة الجديدة، بكثيرٍ من الاحتياطات، «المجموعة من أجل تأسيس الـUCFML»، أي: المجموعة التي تهدف لتأسيس اتحاد لشيوعيي فرنسا الماركسيين ـ اللينينيين، وهو اتحادٌ يهدف بدوره لخلق حزبٍ شيوعي من طرازٍ جديد، من خلال النضالات ذاتها. مما يعني القول إن هذا الحزب، ليس من أجل الغد! أولًا، يجب الارتباط بجماهير العمال، خلق نويّات شيوعية، الوجود في النضالات، عرض جِدَّتنا السياسية رويدًا رويدًا.

في هذا الإطار، منذ التتابع الأساسي الذي يمتد من مايو 68 إلى بداية أعوام السبعينات، وجدت الاجتماعاتُ الطلابية ـ العمالية في المدينة الإقليمية التي تحدّثتُ عنها مصيرها السياسي أخيرًا: بواسطة اندماجٍ واضحٍ بين الجدَّة العمالية التي ما زالت عمياء، وقدوم الطلبة، وخلق منظمةٍ ماويةٍ مركزية، كانت ستصبح مصفوفةَ ميلادِ منظمةٍ للمصنع، هي «صندوق التضامن»، الجديد تماما في تركيبه وفي أهدافه، والذي سيستمر خلال سنواتٍ طويلةٍ وحافلة بالنشاط.

يمكننا إذن القول بأن ما جرى هنالك، عند بوابة المصنع، في مايو 68، هذا الخط المستعرض العملي بين مايو رقم 1 ومايو رقم 2، الموسوم ذاتيًا بحماسةٍ بهيجةٍ وقلقةٍ في آن، والذي استمد منه مايو رقم 3 فلسفته، ضاربًا بذلك المثل لما يجب ويمكن أن يكونه مايو رقم 4 كخطٍ مستعرض للثلاثة الأخرى، كان مصيره حياةً سياسيةً جديدةً تماما في مصنعٍ كبير.

لم تكن هذه الحياةُ السياسية محتملةً، أو متخيَّلةً قبل أسبوعٍ أو أسبوعين من موكبنا من الكلية باتجاه المصنع. وقد احتفظ الجهازُ النقابي والحزبي الصلب عمومًا بالعمال، والطلبة، والمثقفين مُنغلِقين بشدةٍ داخل منظماتهم الخاصة. وكان التوسُّط الوحيد يمرُّ من خلال الإدارات المحلية أو القومية. وفي وضع تلك اللحظة، أخذ ذلك الجهاز يتصدّع تحت أعيننا. وكنا في آنٍ واحدٍ المؤدين المباشرين لهذه الجدّة والمشاهدين المنبهرين لها.

هذا، هو الحدث l'événement بالمعنى الفلسفي للمصطلح: شيءٌ يحدثُ لا يمكن لعواقبه، رغم كونها ضرورية، أن تكون قابلةً للتنبؤ في هذه الأثناء. وبهذا المعنى، فإن مايو 68 الرابع، وهو وحده، ما كان، في النظام السياسي، حَدَثِيًا. حدَث فكرةٍ جديدة عن السياسة.

ما هي عواقب الحدَث، طوال «السنوات الحمراء» العشر، من 1968 إلى 1978، وطوال انتشارها المضاد من 1978 إلى 1988؟ لا أكثر، ولا أقل من البحث عن سياسةٍ أخرى، توضِّحها المرحلة الماوية للفكر الماركسي، بحثٌ قامت به حفنةٌ من المثقفين، وبضع آلآفٍ من الطلبة والتلامذة، وبضع مئاتٍ من العمال أو من نساء المدن. ونشدد على أن فئةً ليست بالقليلة من البروليتاريين، القادمين غالبًا من إفريقيا، قد لعبت، من خلال المصانع والمقار السكنية، دوراً خلاّقاً خلال كل هذا التتابع.

تساءلنا ــ مثلما ما زلت أتساءل اليوم، مع آخرين ــ، ماذا كان يمكن أن تكون عليه، وربما بنجاحاتٍ تجريبيةٍ كبرى، ممارسةٌ للسياسة لا تقبلُ بأن تتركَ كلَّ واحدٍ في مكانه؟ تقبل مساراتٍ غير مسبوقةٍ، ولقاءاتٍ مستحيلةٍ، ولقاءاتٍ بين أشخاصٍ لا يتحادثون في العادة؟ ماذا يمكن أن يكون عليه فكرٌ ـ ممارسةٌ يكون على نحوٍ ما شيوعيًا بصورةٍ مباشرة؟

في تلك اللحظة من مايو 68، هناك، أمام المصنع، بموكبنا الأخرق، أدركنا، دون أن نفهم بعد، أنه إذا كان ثمة سياسةٌ شيوعيةٌ جديدةٌ ممكنةٌ، فإنها ستنطلق من الارتباط بالجماهير، ستكون نَسفًا للتصنيفات الراسخة، لن تتمثل في تنظيم كلِ شخصٍ في موقعه، بل ستُنظِّمُ على العكس إزاحاتٍ، مادية وذهنيةٍ، صاعقة. ستُصنَعُ بالحضور المحايث للمثقفين في المصانع، والمقار السكنية، والأحياء، والأرياف، كي يؤسِّسَ مبدأٌ منظَّمٌ، كما قال ماو، أن «يُعادَ إلى الجماهير في شكلٍ دقيق ما أعطته لنا في شكلٍ مشوَّش».

في العمق، فإن مايو 68، الرابع، الحقيقي، هو تاريخُ إزاحةٍ، ما زالت عمياء جزئيًا. وما حفزّنا، ما حمَّسنا، كان الاقتناع بأنه يجب القضاء على المواقع places. إنه، بوجهٍ عام، ما يستعيدُ كلمةَ الشيوعية البديعة، المجتمعَ المساواتي، المجتمعَ الذي بحركته ذاتِها يهدمُ الجدران والانفصالات، مجتمعَ التكافؤ المتعدد والمسارات المتغيرة، في العمل مثلما في الحياة. لكن «الشيوعية» تعني أيضًا: أشكال تنظيمٍ سياسية ليس نموذجها تراتبية المواقع. مايو 68 الرابع، كان هذا: مجموع الخبرات التي برهنت أن النَسفَ المستحيل للمواقع الاجتماعية، التقويضَ لما لا يلين، للتراتبية الدنيئة للثروات، والحريات، والسلطات، أمورٌ ممكنةٌ اجتماعيا، عن طريق نمطٍ غير مسبوق من أخذِ الكلمة والبحث المُتلَمِّس عن أشكال تنظيمٍ مناسبةٍ لجِدَّة الحدَث.

الفصل الخامس: واليوم؟

بعد عشرة أعوام من مايو 68، قامت سيرورةُ وحدةِ اليسار وانتخاب ميتران بكبت هذا كلِّه جزئيا، فارضةً ظاهريًا عودةً إلى النماذج الكلاسيكية. عدنا إلى «كلّ واحدٍ في موضعه» المميِّزة لذلك النموذج: أحزاب اليسار تحكمُ إذا استطاعت، والنقابات تُطالب، والمثقفون يُثقِّفون، والعمال في المصنع، إلى آخره. ومثل كل عملياتِ العودة إلى النظام، فإن هذه المغامرة لـ«يسارٍ» ميتٍ بالفعل في الحقيقة قد ولَّدت داخل قطاعٍ كبير من الشعب وهمًا بالغَ الإيجاز، يقع عند مستهل أعوام الثمانينات، بين 1980 و1983. وتوجَّب على أجيالٍ جديدة أن تُعيد بشكلٍ مؤلمٍ تعلُّمَ أن اليسار ليس، ولم يكن أبدًا، فرصةً جديدة للحياة السياسية. إنه دومًا شبحٌ عائدٌ موشومٌ بقوةٍ بندوبِ العفَن. فمنذ عام 1982-1983، رأينا ذلك جيدًا، مع «الصرامة»، كيف يُعامَلُ العمالُ المضربون لشركة تالبوت Talbot كإرهابيين شيعةٍ، بالفعل، وفتحُ معسكرات احتجاز، والمراسيمُ ضد الهجرة العائلية، ووضعُ بيريجوفواه Bérégovoy لفرنسا على طريق لبْرَلةٍ ماليةٍ غير مسبوقةٍ، بدأت إدراجَ فرنسا في الرأسمالية المعولمة الأشد وحشية.

لكن في النهاية يمكننا قول إننا دائمًا فوق صدعِ أسئلةٍ صعبة فتحها مايو 68. من وجهة نظر السياسة، من وجهة نظر تعريفها، ومستقبلها المنظَّم فإننا معاصرون لـ 68 بمعنىً بالغِ القوة للكلمة. مؤكدٌ أن العالم قد تغيَّر، وتغيَّرت التصنيفات، فالشبيبة الطلابية، والعمال، والفلاحون، يعنُون شيئًا مختلفًا اليوم، والمنظمات النقابية والحزبية السائدة في تلك الفترة قد أصبحت اليوم حطامًا. لكن [ما زال] لدينا نفس المشكلة، نحن معاصرون للمشكلة التي وضعها مايو 68 الرابع على جدول أعمال اليوم، مشكلة معرفة أن الشيوعية، حسب مدرسة التدخلات الأخيرة للينين ولماو الثورة الثقافية الصينية، يجب في آنٍ واحد إعادةُ الإمساكِ بها وإعادةُ اختراعها.

ونحن، مُناضلو أعوام الستينات والسبعينات، وكذلك الثمانينات، وما بعدها، لم نكن بحاجةٍ إلى انهيار الاتحاد السوفيتي عند نهاية الثمانينات لنعرف ذلك. فقد جرى تجريبُ، وامتحانُ، واختبارُ ما لا يحصى من الأشياء الجديدة في الفكر مثلما في الممارسات المرتبطة به جدليًا. ويستمر ذلك، بفضل الطاقةِ الموسُومةِ عادةً بالعزلةِ البادية لحفنةٍ من المناضلين، والمثقفين، والعمال الحياري. إنهم حُرَّاسُ المستقبل ويبتكرون هذا الحرَس. لكن لا يمكن القول إن المشكلة قد حُلَّت، مشكلة الأشكال الجديدة للتنظيم الملائمة للمعالجة المعاصرة للتناحرات السياسية. الأمرُ مثلما في العلم: طالما لم يتمَ حلُ مشكلة، تكون لديك كلُّ أنواعِ الاكتشافات التي حفزها البحثُ عن حلٍ لها، وأحيانًا ترى النورَ نظرياتٌ جديدة كاملة لهذا السبب، لكن المشكلة، بوصفها كذلك، تبقى. بهذه الطريقة، ظل كثيرون من كبار عظماء الرياضيات معاصرين لفيرما Fermat -رجل القرن السابع عشر- (1) حتى وجد وايلز Wiles، منذ عدة سنوات، الحل أخيرًا. ويمكننا بنفس الطريقة تعريفُ معاصرتنا لمايو 68، التي يمكن القول أنها: الوفاء لمايو 68 الرابع.

ما هو حاسمٌ في المقام الأول، هو الحفاظُ على الفرضيةِ التاريخية لعالمٍ مُتخَلِّصٍ من قانون الربح والمنفعة الخاصة. وطالما ظل المرء، داخل نظام التمثيلات الفكرية، خاضعًا للاعتقاد بأنه لا يمكنه القضاء على ذلك، بأن ذلك هو قانون العالم، لن تكون أيُّ سياسيةِ انعتاقٍ ممكنةً. هذا ما اقترحتُ تسميتَه الفرضيةَ الشيوعية. وهي في الواقع سلبيةٌ إلى حدٍ كبير، لأن الأكثر تأكيدًا والأكثر أهميةً هو القولُ بأن العالمَ كما هو ليس ضروريًا، أكثر من القول «في الفراغ» بأن عالما آخر ممكنٌ. هذه مسألة منطقٍ موجَّه (2) logique modale. فيها، نجدُ أن ما يجب فرضُه، سياسيًا، هو أن نمضي من اللا-ضرورة إلى الإمكان.

ثانيًا، يجب محاولةُ الحفاظِ على كلمات لغتنا، التي لم نعد نتجاسرُ على نُطقها، تلك الكلمات التي كانت لا تزال كلماتِ الجميع في 68. يقال لنا: «العالم تغيّر ومن ثم لم يعد يمكنكم نُطقها، أنتم تعرفون أنها كانت لغةَ وهمٍ وإرهاب.» لكن بلى! نستطيع! بل ويجب علينا! المشكلة باقية، ومن ثم يجب أن نستطيعَ نُطق تلك الكلمات. ويرجع إلينا أن ننتقِدَها، وأن نمنحها معنىً جديدًا. يجبُ أن يظلَّ باستطاعتنا أن نقول «الشعب»، و«العامل»، و«إلغاء الملكية الخاصة»، دون أن نُعَدَّ في أعيُنِنا ذاتها ذوي ذوقٍ سقيم. يجب أن نُناقش تلك الكلمات داخل مجالنا نحن، داخل معسكرنا نحن. يجب أن نضع حدًّا للإرهاب اللغوي الذي يُسلِمنا إلى الأعداء. إن التخاذُل في اللغة، وقبول الإرهاب الذي يمنعنا بصورةٍ حميمة من نطق الكلمات التي ليست ضمن اللياقة السائدة، هو اضطهادٌ لا يُحتَمَل.

وأخيرًا، يجب أن نعرف أن كل سياسةٍ منظَّمةٌ وأن السؤال الأكثر استعصاء على الحل دون شك عن طريق عمليات تجريبٍ متعدِّدة الأشكال، بدأت منذ 68، هو معرفةُ أيِّ نوعٍ من التنظيم نحتاجه. إذ أن الجهازَ الكلاسيكي للحزب، المرتكز على روابطٍ اجتماعيةٍ والذي تكون «معاركه» الأهم هي في الحقيقة المعاركُ الانتخابية، هو مذهبٌ قد أعطى كل ما في طاقته. وهو الآن مُستَهلَكٌ، ولم يعد قادرًا على الأداء، رغم الأشياء العظيمة التي استطاع إعطاءَها، أو مصاحبَتها، فيما بين 1900 و1960.

تتمُ ممارسةُ التعامُل مع وفائنا لمايو 68 على مستويين. فعلى مستوى الإيديولوجيا والتاريخ، يكون من المناسب أن نقوم بحسابنا الختامي الخاص للقرن العشرين، بحيث نُعيد صياغةَ رؤيةٍ استراتيجية في شروط عصرنا، بعد إخفاق الدول الاشتراكية. وأبعد من ذلك، نعرف أن ثمة عملياتُ تجريبٍ محليةٌ جاريةٌ، ومعاركُ سياسيةٌ تتخلَّق على خلفيتها أشكالٌ جديدةٌ للتنظيم. يجب أن نشارك فيها ونوضِّحها من وجهة نظر الفرضية الشيوعية.

وختامًا

هذه التوليفة من العمل الإيديولوجي والتاريخي المعقّد ومن المعطيات النظرية والعملية المرتبطة بالأشكال الجديدة للتنظيم السياسي تُحدِّدُ حقبَتنا. وهي حقبةٌ يمكنني تعريفها عن طيب خاطرٍ بأنها حقبة إعادة صياغة الفرضية الشيوعية. ما هي إذن الفضيلة الأهم بالنسبة لنا؟ تعرفون أن ثوريي أعوام 1792- 1794 كانوا يستخدمون كلمة «الفضيلة». فقد سأل سان ـ جوست Saint-Just، كسؤالٍ محوري: «ماذا يريد من لا يريدون لا الفضيلة ولا الإرهاب؟» وأجاب: يريدون الفساد. وهذا ما يطلبه منا عالمُ اليوم: القبولُ بفسادِ الأرواحِ المُعمَّم، تحت نير السلعة والنقود. وضد ذلك، فإن الفضيلةَ السياسية الأساسية اليوم هي الشجاعة. الشجاعة، ليس فقط في مواجهة الشرطة، فتلك ستأتي بالتأكيد، بل شجاعةُ الدفاعِ عن أفكارنا وممارستها، عن مبادئنا وكلماتنا، شجاعة تأكيد ما نفكّر فيه، ما نريده، ما نفعله.

لنقل الأمر في كلمةٍ واحدة: لا بد لنا من شجاعة امتلاك فكرةٍ. فكرةٍ عظيمة. فلنقتنع بأن امتلاكَ فكرةٍ عظيمة ليس مثيرًا للسخرية ولا إجراميًا. عالم الرأسمالية المُعمَّمة والمتغطرسة الذي نعيش فيه يُحيلنا إلى أعوام أربعينات القرن التاسع عشر، إلى الرأسمالية الوليدة، التي كان الأمرُ المُلزِم لها، كما صاغه جيزوه Guizot، هو: «اغتنوا!» وهو ما نترجمه بالقول: «عيشوا دون فكرةٍ!» يجب أن نقول إن المرء لا يحيا دون فكرة. يجب أن نقول: «امتلكوا الشجاعة السياسية للحفاظ على الفكرة، التي لا يمكن أن تكون سوى الفكرة الشيوعية، في معناها النوعي». هذا هو السبب في أننا نظلُّ معاصرين لمايو 68. فقد أعلن، بطريقته، أن الحياة دون فكرةٍ لا تُحتمل. ثم استقر تسليمٌ طويل، فظيعٌ. واليوم يعتقد أُناسٌ أكثر مما ينبغي أن عيش المرء من أجل نفسه، من أجل مصالحه، هو أمرٌ لا مَحِيد عنه. فلنمتلك شجاعةَ الانفصالِ عن أولئك الناس. مثلما في مايو 68، سنرفض الأمرَ المُلزِم: «القدرةُ على الاستهلاك تكفيك. عِش دون فكرةٍ.»

هنا يجبُ عليَّ كفيلسوفٍ أن أقول شيئًا جرى تكراره منذ أفلاطون، شيئًا بالغ البساطة. يقول أنه يجب العيش بفكرةٍ، وبهذا اليقين يبدأ ما يَستحقُ تسميته السياسةَ الحقة، ومعها ما أسميتُه أنا الحياةَ الحقة. لأننا إذا فكرنا في مستقبل الفكرة [المثل الأعلى]، وقِسنا كم تتناسبُ حقارةُ العالم كما يصير تحت أعيننا؛ إذا ارتبطنا بالجماهير الغفيرة من العمال والمعدَمين الهائمين على سطح الأرض كي يعرفوا أين يمكنهم العيش؛ إذا تعلمنا كلَّ الدروس، بما فيها درس مايو 68 الرابع، في قلب العالم الحيّ، لاستطعنا، لكن، تحت تلك الشروط فقط، أن نقول من جديد وأن نقتفي نداء ماو الأشد ذيوعًا منذ عواصف سنوات الستينات والسبعينات: «لنا الحق في التمرّد».

ـــ

(1) بيير دو فيرما (1607- 1665): محامٍ ورياضي فرنسي يُنسب إليه فضل التطورات المبكرة التي أدت إلى نشوء حساب التفاضل الذي لم يكن معروفًا. أسهم في الهندسة التحليلية، ونظرية الاحتمالات، والبصريات. أفضل ما يُعرف به هو مبدأ فيرما لانبعاث الضوء ونظرية الأعداد والنظرية الأخيرة التي أثبتها البريطاني السير أندرو وايلز (1953): الباحث في الجمعية الملكية للأبحاث بجامعة أوكسفورد والمتخصص في نظرية الأعداد.

(2) المنطق الموجّه: نوع من المنطق الصوري تم تطويره خلال ستينات القرن العشرين.