لنا الحق في التمرد

الفصل الثاني من كتاب «لغز مايو» لآلان باديو

ترجمة: أحمد حسان

لقراءة الفصل الأول اضغط على هذا الرابط

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.


التصميم من نيجاتيف (مستلهم من ملصقات ثورة مايو 1968) وخاص بـ Boring Books

«مايو 68» كان ثلاثة

الأول...

من البديهي أنه قد وُجد، في وقتٍ واحد، ثلاثة «مايو 68» مختلفين. علاوةً على رابعٍ، لكن لندعه الآن جانبا. وقوةُ، خصوصيةُ، مايو 68، هي أنه ضَفَر، زاوجَ، راكَب بين ثلاث سيروراتٍ بالغة التنافر في النهاية.  لنُسمِّها على الفور: (1) مايو 68 الطلاب والتلاميذ. (2) مايو 68 العمّالي. (3) مايو 68 الليبرتاري. وإذا كانت مُحصِّلات هذا الحدث بالغة الاختلاف، فذلك لأن المرء يتمسك عمومًا بواحدٍ من الجوانب وليس بالإجمالي المعقّد الذي صنع طبيعتَه التاريخية الحقة.

لنتحدث هنا، أولاً، عن مايو رقم 1، لأنه هو الذي، ظاهريًا على الأقل، وضع النار على البارود.

كان مايو 68 أولًا، بالفعل، انتفاضةً، تمردًا للشبيبة، الطلبة والتلاميذ. هذا هو الجانب الأكثر استعراضيةً، الأكثر شيوعًا، هو الذي ترك صوراً قوية، نُعاود الرجوع إليها مؤخّرًا: المظاهرات الحاشدة، المتاريس، المعارك مع الشرطة، إلى آخره. صورَ عنفٍ، وقمع، وحماس، يجب، فيما يبدو لي، أن نستخلص منها ثلاثَ خصائص. أولًا، كانت هذه الانتفاضة في حينها ظاهرةً عالمية. من مكسيكٍ المذابحِ في ميدانٍ عام إلى ألمانيا الهبَّات الطلابية القوية، من صين الثورة الثقافية إلى الولايات المتحدة ذات الحركات ضد حرب فيتنام، من إيطاليا الكيانات المستقلة ذاتيًا إلى يابان الجيش الأحمر، من الانتفاضات الإصلاحية في تشيكوسلوفاكيا إلى التمردات الفلسطينية ضد الاحتلال الصهيوني، كان الشباب في كل مكان يهبُّ ضد العالم كما أُعيد تأسيسه في نهاية الحربِ العالمية الثانية. إن مايو 68، بمعنى مُكَوِّنه الطلابي، هو التنويعة الفرنسية لظاهرةٍ عالمية.

ثانيًا، من المهم تذكّر أنه في تلك الفترة، قبل التعديلات المُتَّخّذَة لدينا جزئيًا تحت تأثير القوة الدافعة الكوكبية للشباب، كان الطلبة [طلبة الجامعات]، وحتى التلاميذ [تلاميذ المدارس الثانوية]، يمثلون أقليةً بالغة الضآلة من الشباب في مجمله. هذه الظاهرة محجوبةٌ الآن لأنه، منذ قانون شفينمان Chevènement لعام 1985 والقوانين التي تلته، يمكننا إعلان أنه، منذ عام 2012، فإن 79% من الفئة العمرية قد اجتازت البكالوريا. وفي الحقيقة، يُخفي هذا التأكيد الظافر استقرار مُحدِّدات الفئة. لأن البكالوريا العامة، الوريث الوحيد الحقيقي للبكالوريا القديمة، مستقرةٌ بصورة ملحوظة منذ عشرين عامًا: 33% من الفئة العمرية اجتازت هذه البكالوريا عام 1990، و38% عام 2012. أما البكالوريا «الشعبية» الأصعب، أي التقنية، فهي مستقرةٌ بدورها، مع تراجعٍ طفيف: 18% عام 1990، و 16% عام 2012. البكالوريا الحِرَفية، ما ـ قبل البكالوريا الحقيقية بالنسبة للجماهير، هي التي تخلق الارتفاع الظاهر: 5% بعد خلقها مباشرةً عام 1990، و 25% عام 2012. الحقيقة هي أن البكالوريا البورجوازية / البورجوازية الصغيرة كانت تتعلق، عام 2012، بنسبة 38% من السكان، ويتعلق نوعا البكالوريا الشعبيان بنسبة 41%. وتبقى نسبة 21% من المُستبعَدين، مما لا يمكن إغفاله على الإطلاق. هذه الأرقام تقدم محصِّلةً على أساس تحليلٍ طبقي كلاسيكي تماما حيث أنه يتعلَّق ببلدٍ «متطوِّر»، مما يعني أنه قوةٌ إمبريالية: 38% من الأوليجاركية والبورجوازية الصغيرة الميسورة، و62% من المأجورين القاعديين والعاطلين. بعد توضيح ذلك، فإن الوضعَ الذي ترمِز إليه كلمة «بكالوريا» مختلفٌ تماما حين نريدُ الحديثَ عن مايو 68. ففي عام 1967، كان ما لا يزيد على 15% من الفئة العمرية يجتاوزون البكالوريا، وحين نتحدث عن «طلبة»، فإننا نتحدث عن جزءٍ محدودٍ جدًا، ومتميزٍ بداهةً، من مجموع الشباب، جزءٍ منفصلٍ بقوةٍ عن جمهور الشبابِ الشعبي. وهذا ما يمكن أن يُفسّر أن قسمًا هامًا من حركة الشباب، في مايو 68، قد حرَّكهُ أبناء وبنات البورجوازية، بما في ذلك البورجوازية الكبيرة. كما توضح هذه الظاهرةُ بدورها أن التماسُكَ الإيديولوجي كان ضعيفًا: فقد كان تَنكُّرٌ استثنائي يُهلِك المعسكرَ النضالي، وبالأخص من احتلوا وظيفةً قيادية، ومعسكرَ السنوات التي تلت نهاية أعوام السبعينات. يضرب عددٌ من المثقفين صدورَهم وهم ينبُذُون الماوية، أو التروتسكية، أو الستالينية، وينحازون جماعيًا إلى جانب «الديموقراطية»، و«حقوق الإنسان»، و«الحضارة الغربية». تتضح هذه الظاهرة المثيرة للاهتمام حين نتذكر أن الشبيبة الطلابية لمايو 68 كانت نابعةً في غالبيتها من البورجوازية السائدة. وحين رأت أنه لم تظهر أدنى بادرةٍ على أي انتصارٍ ثوري، يمكنها أن تلعبَ فيه دورًا مجيدًا، ولن يحدُثَ، بالنسبة للقادة المُرتَجَلين للمجموعات السياسية، نقلٌ مُغرٍ لشهرتهم، أصبح طبيعياً في المحصلة أن ينضمّ جزءٌ ملحوظٌ من متمرّدي 68 من جديدٍ إلى الوضع الرِّيعي لمعسكرهم الأصلي.

يبقى أن الطلبةَ وجزءًا كبيرًا من المثقفين، في مايو 68 أولًا، ثم في التتابع الذي يمضي من 1968 إلى 1978 ــ «السنوات الحمراء» العشر ــ بالحساب الأوسع، قد فعَّلوا حركةً قويةً إيديولوجية وعملية.

الملاحظة الثالثة والأخيرة بصدد مايو 68 الأول هذا هي أن عناصر الجِدَّة من نوعين: من جهة، القوة الاستثنائية للأيديولوجيا ورموزها، للقاموس الماركسي، لفكرة الثورة. وفيما هو أبعدُ من ازدحام المنظماتِ والشراذم، التي عادةً ما تكون متعارضةً بقوةٍ، فإن نوعًا من اللغة المشتركة ــ مزيجًا من الضراوة الأناركية، والدوجمائية الماركسية، والشِعر الظرْفي ــ تُوحِّد رمزية الحركة وتُضفي على شعاراتها نغمةً قابلةً للتَعرُّف. والملصقات البالغة الجمال التي أنجزها طلبة مدرسة الفنون الجميلة هي نوعُ من التلخيص البصري لهذا الابتكار. ومن جهةٍ أخرى، ثمة، بوجهٍ شديد العمومية، قبولٌ جديد للعنف، لمشروعيته، حتى لو لم تُمارِسه في الشارع إلَّا مجموعاتٍ مُنظَّمة ومحدودة. هذا العنف دفاعيٌ بشكلٍ كبير، ضد القمع، ضد قوات الدولة، لكن ليس هذا فحسب. إذ سيظل مُمكنًا خلال أعوامٍ ليست بالقليلة رؤيةُ فصائلَ جامعيةٍ تذهبُ لإلقاء أحجار الرصف على الوكالات المصرفية، وأوكار اليانكي أو مكاتب أصحاب الأعمال. وقد جرى تعلُّم صُنع والتعاملِ مع الكوكتيل مولوتوف في أفنية مدرسة المعلمين العليا. كلُّ هذه الترسانة الإيديولوجية والنشاطية ستُضفي لونَها، وصورَها القوية، على هبَّة الطلاب والتلاميذ خلال بضعة أعوام، بدءًا من الانفجار الربيعي الأول.

بعد قول هذا، لن يعودَ باستطاعتنا نسيانُ أن جزءًا بالغَ الأهمية عدديًا من حركة الطلبة كان يتكون من جمعياتٍ عامةٍ لا تنتهي موجَّهةٍ مبدئيا لتغيير الجامعة، لخلق «مجموعات عمل»، للاعتراض على الامتحانات، لنقد «الدرس الأستاذي»[1] cours magistral، لتغيير البرامج الدراسية بصورةٍ إبداعية وغيرها من المهام من الدرجة الثانية، رغم امتلائها بالنوايا الحسنة.

لكن كل حركةٍ تتضمَّنُ جزءَها الكامن من القصور الذاتي، أو من التحريض بلا جدوى. الأيديولوجيا الثوروية المُشفَّرة، الأفعال الحادّة موضعيًا، الوقت الضائع، والإصلاحات الوهمية: كل هذا يُشكِّل مايو 68 الأول.

الثاني...

ثمة مايو 68 ثانٍ، مختلفٌ تمامًا، هو أضخمُ إضرابٍ عامٍ في كلّ التاريخ الفرنسي. هنا يكمنُ مُكَوِّنٌ بالغ الأهمية. من جوانب عديدةٍ يُعدُّ هذا الإضراب العام كلاسيكيًا بشكلٍ كبير وعادةً ما ستجري مقارنتُه بالانتفاضة العمالية لعام 1936، بلحظة إقامة حكومة الجبهة الشعبية. ستتم من البداية بَنْيَنتُه حول المصانع الكبرى والشركات المؤمَّمة ــ السيارات، ومصانع الصلب، والكيمياء، ومعامل تكرير البترول، والسكك الحديدية... وفيما وراء الوقائعِ الاستهلالية، التي سأعود إليها، سيكون الإضرابُ من الناحية الأساسية مُبَنْيَنًا ومُسيَّرًا من جانب النقابات، وبصورةٍ فريدة من جانب النقابة العامة للشغل CGT، التي كانت لا تزال بكاملها تحت سيطرة الحزب الشيوعي الفرنسي PCF. وسيكون امتدادُ الحركة بوجهٍ خاص إلى الشركات المتوسطة والصغيرة موضعَ «تشجيعٍ» كبيرٍ من فِرَق إقناعٍ نقابية.

ويمكن القولُ على الفور إن هذا الإضراب، في اتساعه وديمومته، في هيئته «المتوسطة»، يتموضعُ تاريخيًا ضمن سياقٍ بالغ الاختلاف عن تمرد الشباب، الذي سيحاولُ الحزبُ الشيوعي ــ وسنرى أن هذه النقطة تتمتع بأكبر أهمية ــ عزلَه بجدرانٍ حقيقية. ينتمي الإضراب إلى سياقٍ يمكنني القول إنه يساريٌ على نحوٍ كلاسيكي، بالمعنى الذي كان به الحزب الشيوعي، في تلك الفترة، دون أدنى شك مُكوِّنُ هذا اليسار الأكثر حضورًا في الوسط العمّالي.

وفي نفس الوقت كان هذا الإضراب يستمدُّ الحيوية بشكلٍ مكافئ من عناصرِ راديكاليةٍ تجديدية، هي أربعةٌ بالعدد.

        1. أولًا، كان شنُّ الإضراب وسيره، خارجًا إلى حدٍ كبير ٍعن المؤسسات العمالية الرسمية. ففي أغلب الحالات كانت مجموعاتٌ من العمال الشباب هي التي أطلقت الحركة خارج المنظمات النقابية الكبرى، التي انضمت إليها على الفور، جزئيًا لتكون في موضع التحكّم فيها. ثمة إذن، في مايو 68 العمالي هذا، عنصرُ تمردٍ كامن، هو أيضًا، في الشباب. وقد مارس هؤلاء العمالُ الشباب ما أُطلق عليه غالبًا «إضرابات وحشية» grèves sauvages، لتمييزها عن الأيام النقابية التقليدية الكبرى. ولنلاحظ أن هذه الإضرابات الوحشية بدأت منذ عام 1967، في نورماندي بالتحديد، ومن ثم لم يكن مايو 68 العمالي مجرد تأثيرٍ لمايو 68 الطلابي، بل إنه قد استبقه. هذه الرابطة الزمنية والتاريخية بين حركة الشباب المتعلم وبين حركة العمال هي رابطةٌ خاصة تمامًا.

        2. عنصر راديكاليةٍ آخر: هو الاستخدام المنهجي لاحتلال المصانع. بديهيٌ أنه ميراث من الإضرابات الكبرى لعام 1936 أو عام 1947، لكنه أكثر تعميمًا. فمجمل المصانع تقريبًا مُحتَلَّةٌ وتكسوها الأعلام الحمراء. إنها لصورةٌ رائعة! لكن يجب هنا تذكُّر أن المباني الجامعية كانت أيضًا محتلَّةً، وتكسوها الملصقات، واللافتات، والأعلام. يجب رؤية ما جرى لهذا البلد ليجعل، في وقتٍ واحدٍ، كل المصانع وكل الكليات تكتسي بالأعلام الحمراء. من رأى ذلك لا يمكن أن ينساه.

        3. العنصر الثالث «الخشن»: منذ تلك الفترة، وخلال السنوات التالية، ثمة ممارسةٌ بالغةُ المنهجية ليس لاحتلال جهاز الإنتاج، ليل نهارٍ، فحسب، بل كذلك لاختطاف أصحاب العمل وللشجارات الهامشية مع الكوادر أو مع قوات مكافحة الشغب CRS. مما يعني أن النقطة التي تحدثتُ عنها للتو، عن قبولٍ معين للعنف، يوجد داخل حركة الطلبة والتلاميذ، لكن يوجد أيضا، بأشكال مختلفةٍ، داخل الحركة العمالية.

4. يجب أخيرًا أن نتذكر، لننتهي من مايو 68 الثاني ذاك، أنه، بعد وضع كل هذه العناصر في الاعتبار، ستصبح مسألة ديمومةِ، والسيطرة على الحركة بالغةَ الحدَّة. فبين الرغبة القيادية للنقابة العامة للشغل وبين الممارسات التي تحيل إلى ما يسميه المؤرخ كسافييه فينيا Xavier Vigna باسم «العصيان العمالي»، ستقع نزاعاتٌ داخلية في حركة الإضراب، نزاعاتٌ بالغة الحيوية. فبدءًا من لحظةٍ معينة يريد الحزب الشيوعي الفرنسي والنقابة العامة للشغل، اللذان يشكّلان عضويًا جزءًا من «الديموقراطية» البرلمانية، أن تسودَ قدرتُهما التفاوضية مع الدولة، والاعترافُ، الرسمي نوعًا ما، بهما كقوتين قائدتين للحركة. يمنحهما بومبيدو، رئيس الوزراء آنذاك، هذا الأمر ويفتح في وزارة العمل مفاوضات كبرى، سُمِّيت «مفاوضات جرينيل». ستكون مسألةً، كلاسيكية جدًا، لزيادةِ الأجور، ضروريةً فضلًا عن ذلك، ودفعِ أجور أيام الإضراب، كل الأمور التي تتميّز بأن تمرّد الطلبة لا علاقة له بها. لكن، عند تقديم بروتوكول ذلك الاتفاق، بصخبٍ كبير، إلى مُضربي مصنع رينو في بيّانكور المجتمعين في جمعيةٍ عامة، تم رفضُه بأغلبيةٍ قوية. فجأةً، ستتجاوز ديمومةُ الحركة كلَّ اعتياد. بهذا المعنى، يمكن القول بأن ذاتيةً عماليةً متمردة ربطت الاضرابَ بشيءٍ غير محددٍ لا يزال، لكنه، على كل حالٍ، لم يكن قابلاً للحل ضمن الثنائية الكلاسيكية مطلب عمالي/تفاوض نقابي. انفتح صدعٌ، واقعيٌ رغم أنه غير واضحٍ، لثغرةٍ سياسية، لرؤيةٍ أخرى لهذا النوع من النزاع.

الثالث...

مايو 68 الثالث هذا، الأقربُ دون شكٍ من الأولِ أكثر من الثاني، لكنه مُتنافرٌ بشكلٍ حاسم عن الإثنين، سأسمّيه مايو الليبرتاري. ويمكن القول إنه لا يندرج بالضبط لا ضمن الهبَّات الديموقراطية (بالمعنى الحقيقي، الذي يميل قليلًا إلى الأناركية، وليس بأية حالٍ بالمعنى البرلماني للمصطلح)، ولا ضمن مُحدِّدات الصراع الطبقي كما ينقلها الحزبُ الشيوعي الفرنسي، والنقابة العامة للشغل، وكذلك المنظمات التروتسكية مثل النضال العمالي Lutte ouvrière. ويمكن بالأحرى ضمّه إلى تقاليد الشيوعية الطوباوية، شيوعية فورييه، أو أيضًا، على مستوىً أكثر ثقافيةً، إلى التقاليد السوريالية، التي تعتقد أن «الثورة» تعني في المقام الأول: تغييراتٍ جمالية لحيواتنا.

بهذا المعنى الأخير، استطاع جى ديبور Guy Debord أن يصبح المفكِّرَ الأيقونةَ لمايو 68 الثالث هذا، وهو السليلُ الحديثُ العظيم لسوريالية أعوام العشرينات والمُنظِّرُ المتميِّز الأسلوب، الأرستقراطي بعض الشيء، للشيوعية بوصفها تحوُّلًا وجوديًا لعالمٍ منزوع الاستلاب، مُقتَلَعٍ من السلعة ومن عقيدة الاستهلاك. وحتى اليوم، ينسبُ البعضُ إلى ديبور باستثناء ذلك أهميةً شبه محوريةً في مايو 68، رغم أنه لم يفعل سوى إزهارِ مايو الأول من بين الثلاثة، ومنح بعضَ التعبيراتِ للثالث، دون أن تكون له أيةُ علاقةٍ فعلية بالثاني. وثمة شيءٌ يقبل المقارنة، بصدد مايو 68، في مصير المذهبِ الحيوي الفلسفي لدولوز. فدولوز، شخصيًا، ظل مُتباعِدًا عن السياسة النضالية. لكن فكرهُ القوي أفادَ في أن يجعل من «الحركة»، ومنها وحدها، المقولةَ التي يتبلور فيها وعدُ العوالمِ الجديدة والحيواتِ المتسامية، ومن الرغبةِ، المحرِّكَ الفرديَّ الطابعِ للحركة.

يجب القول إن موادَّ مايو 68 الثالث كانت تنتمي إلى ذاك الضرب من التنوع. فقد كانت الأسئلةُ السائدة فعليًا هي تغييرُ العاداتِ، والعلاقاتُ العاطفية الجديدة، والحريةُ الفردية. تساءلت الحركةُ الطلّابية عن تحيُّز «البؤس الجنسي». وتغلَّبت الجمالياتُ بشدةٍ على السياسة. هذه البوتقة المائلةُ إلى الأناركية هي التي ستمنحُ بعضًا من لونها لحركةِ النساء، مثلما لحركةِ حقوقِ وتحرير المثليين. وكل هذا التحريضُ الحيوي سيؤثِّرُ أيضا في المجال الثقافي، مع فكرة مسرحٍ جديد يكون فيه الجسدُ هو الحضورُ الرئيسي، حضورُ شكلٍ جديد من الكلام العام، أسلوبٍ جديد للفعل الجماعي، عبر ترويج الحدث [happening]، والارتجال والمجالس العامةétats [2]généraux  للسينما.. ويشكل هذا أيضا مكوِّنًا خاصًا لمايو 68، يمكن القولُ إنه إيديولوجيٌ، ولا يشاركُ بدرجةٍ أقل، رغم لجوئه أحيانًا إلى الكلام المُتحذلِق والفتور الاحتفالي، في النغمة العامة للحدث.

ــ


[1]  الدرس الأستاذي cours magistral: أو المحاضرة الأستاذية: درس يلقيه الأستاذ على طريقة المحاضرة ويعتمد علي المحاضر تمامًا، سواء من وجهة نظر المحتوى أو طريقة تتابعه، ويتركز على نقل المعلومات دون مشاركةٍ فعّالة من الطلبة.

[2]  المجالس العامة: كانت في النظام الملكي الفرنسي جمعيةً غير عادية تضمّ طبقات الأمة الثلاث: النبلاء، والكهنوت، والطبقة الثالثة. وكانت تجتمع وتنفض بناءً على طلب الملك.