مصير الفرضيات حول معنى مايو 68

الفصل الأول من كتاب آلان باديو «لغز مايو»

ترجمة: أحمد حسان

ضمن ملف «أصداء مايو»

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.

***

باديو عن cease fire magazine

سنُعاوِدُ إذن التحدُّثَ قليلًا في كل مكان عن مايو 68، مُستَعينينَ برمزيةِ نصفِ قرنٍ. سنرى كيف تأخذُ مكانَ الصدارة، على رأس مقالاتِ الاحتفالاتِ السنوية، الفكرةُ الغامضة عن مايو 68 بوصفه مهرجانًا شبه ـ تمرُّدي لأخلاقياتٍ جديدة ضد العالم القديم، بوصفه مَقدِمًا للنزعة النسوية، بوصفه إنتاجًا تمهيديًا لحركة[1] LGBT، بوصفه وداعًا غَسَقيًا للطبقة العاملة، بوصفه آخر اليوتوبيات، بوصفه تحرُّرًا جنسيًا، بوصفه تاريخًا نرقُصه على أنغام موسيقى الروك، بوصفه تقديمًا أعمى لليسار ـ في ـ السلطة في انتخابات عام 1981، بوصفه ألعابًا ناريةً نقابيةً قبل خمودِ النيران، بوصفه أناركيةً مُلونةً بالأحمر، بوصفه تمردًا مناهضًا ـ للسلطة، بوصفه محصِّلةً لمشاجراتٍ تافهة، بوصفه جودار وهو يصنع سينماه في الشارع، بوصفه مُزحةً لماو أخذها على محمل الجدِّ بعضُ المثقفين المُغتبِطين، بوصفه ثورةً ثقافية بالصلصةِ الغربية الناعمة، بوصفه ذريعةً لخلق ألفِ شرذمةٍ متورِّمة، بوصفه احتلالًا للجامعات من أجل تعميم الاحتلالات، بوصفه الذروة النقدية للثلاثينية المجيدة[2]، بوصفه ذكرى مستقبليةً للعجائز الحُمر المُعتزِلين، بوصفه ثورةً بروليتارية دون بروليتاريين ولا ثورة، بوصفه منفذًا للمراهقين القادمين من ازدهار ـ المواليد بعد الحرب، بوصفه واقعَ الموضة بين الشَعر الطويل والتنورات القصيرة [الميني ـ جوب]، بوصفه إدماجًا للطبقة العاملة في مجتمع الاستهلاك، بوصفه رفضًا لمجتمع الاستهلاك من جانب المستهلكين، بوصفه استنفادًا بالأعلام الحمراء للاستهلاك التجاري، بوصفه استدارةً للعبور من بنيوية ألتوسير إلى حيوية دولوز، بوصفه خلقًا مُجهَضًا لشيوعيةٍ جديدة، بوصفه حكايةً لصينيةٍ، أو لصيني(3)، بوصفه بدايةَ النهايةِ للحرب الباردة، إلى آخره، إلى آخره...

يمكن فهمُ تلك التلاوين المتنافرة. أولًا لأن حقيقةَ «مايو 68» لا يمكن قراءتُها في مايو. دعونا لا ننسى، دعونا لا ننسى أبدًا، أنه في يونيو، كانت أضخمُ مظاهرةٍ، عدديًا، في تتابُع المظاهرات، هي مظاهرة البورجوازية المذعورة، تحت قوس النصر، التي يُلوِّح على رأسها مالرو مُخدَّرٌ. أن ديجول ذهبَ إلى ألمانيا ليرى إن كان الجيشُ الفرنسي سيظل الركيزةَ الأبدية للدول الطبقية. وأنه، وسط وطءِ الأقدام، أعادت أغلبيةٌ انتخابية ساحقةٌ اليمينَ إلى سِرج القيادة، مُشيرةً بذلك إلى أن هوية مايو 68، في نظرها، تُعدُّ اختلالًا مُوجِعًا جدًا.

إن حقيقة مايو 68، بمعنى حتى مجرَّد الوصف البسيط لتفرُّده، ليست ممكنةً إلا إذا وضعنا في الاعتبار أعقابَه المباشرة من جهة ــ السنوات العشر التي تلته ــ وتعقيدَه الداخلي من جهةٍ أخرى. لأن مايو 68 هو بالأحرى كورَسٌ بوليفوني [متعدد الأصوات] متنافرٌ غالبًا أكثر من كونه فرقةً متناغمةً من العازفين.

ما شكَّل تفرُّد مايو 68 (وكذلك دون شكٍ تفرُّد ما يُقارب العشر سنوات التي تلته)، ليس على الإطلاق بساطةَ فكرةٍ، ولا ضخامة تمرُّدٍ. فلا وميضُ الفكر، ولا قوة العدد يمكنهما أن يُشكِّلا طابع تلك اللحظة. وحين يفكُّ جان ـ كلود ميلنر Jean-Claude Milner ، في عمله Constat، شفرة الحَدَث باعتبارها اقتران التمرد والفكر، فإنه يضِلُّ.

لنقُل أولًا أن ما يتعلَّق بجانب العنف والعدد لم يكن جديدًا على الإطلاق، حتى لو كانت الصورُ الباقية عنه ما زالت تمارسُ تأثيرها. فقد جرت، منذ نهاية أعوام الخمسينات، وبالأخص بصدد حرب الجزائر، لا مواجهاتٍ بالغة العنف مع الشرطة فحسب ــ أوقعَت جرحى وقتلى أكثر من مايو 68 ــ، بل مجموعٌ كاملٌ من الممارسات غير القانونية، تتراوح من رفضِ الذهاب لأداء الخدمة العسكرية كجنديٍ في الحرب الكولونيالية إلى شبكاتِ الدعم للمنظمات القومية الجزائرية، وهي ممارساتٌ عادةً ما تم دفعُ ثمنِها بعمليات نفيٍ طويل، واعتقالات، ومحاكمات، وفي الجزائر ذاتها، بعمليات تعذيبٍ وإعدامات. رويدًا رويدًا أخذ الرأيُ العام ينقسم بعنفٍ بشأن هذه الحرب، التي تم إضرامُها من جديد، عام 1956، بطاقةٍ إجرامية بالمعني الدقيق من جانب الحكومة الاشتراكية لجى موليه Guy Mollet ، بعد حملةٍ انتخابيةٍ جرت تحت شعار «السلام في الجزائر». من تلك اللحظة، فضلًا عن ذلك، اقتنعتُ بأن الاشتراكية ـ الديموقراطية خبيرةٌ في الجحود والخداع، وهو الأمر الذي رهنَت شرفَها على التو بالبرهنة عليه بصورةٍ دامغة، على جانب الحزب الاشتراكي، من موليه إلى ميتران، ومن ميتران إلى جوسبان، ومن جوسبان إلى أولاند. لكن على جانب الحزب الشيوعي الفرنسي، لم تمض الأمورُ بصورةٍ أفضل، من والديك روشيه إلى جورج مارشيه، ومن مارشيه إلى روبير هيو وماري ـ جورج بوفيه، ومن هؤلاء الأخيرين إلى بيير لوران. إن اليسار برمَّته هو ما ينبغي في العمق التفكيرُ في أنه لم يفعل، خلال التتابعِ الذي يمضي من سنوات الخمسينات حتى اليوم، والذي يتطابق مع حياتي النضالية، سوى مُتتاليةٍ من الخيانات، قبل أن يخبو إلى عدمٍ خامل. لكن بالفعل، منذ عشرات السنين، كتب سارتر: «اليسار هو جثةٌ [مدفونة] بالمقلوب [و] تتعفَّن». ربما كان المعادلُ الواقعي لهذه الفكرة الواضحة والعنيدة التي هي «اليسار» هو الميِّتُ ـ الحي من البداية. على الدوام، تحت حكم الاشتراكي موليه، كان البعض يضعون ملصقاتٍ تصِمُ بعنفٍ نادر «المثقفين الانهزاميين»، ويعنُون مُعارضي الحرب الكولونيالية الوحشية، بينما كان المثقفون المذكورون، وأنا من بينهم ، يهبطون بانتظامٍ ــ مُستعِيضين عن العددِ بنوعٍ من الشجاعةٍ ــ بولفار سان ميشيل، لينالوا الضربَ بالهراوات أسفله، وينهضوا في أوشِحَتهم ليستقرُّوا في عربات الشرطة. أود بذلك القول إنه، فيما يتعلق بالشعور السامي بانقسامٍ شرس وعنفٍ كامن، كان يجتاحني القتالُ خلال ذلك الزمن أكثر مما كان يفعل في مايو 68. في العمق، كان ثمة تمردٌ، بالتأكيد، في مايو 68. لكن كان ثمة أيضًا، خلال كل شهر مايو البديع ذاك، وبالأخص خلال تلك الأسابيع الأربعة الأولى، برغم الصدامات العديدة وضحايا تجاوزات الشرطة، والمتاريس، ودخان الغاز المسيل للدموع، نوعٌ من الإجماع المواتي الطافي، موافقةٌ بالغة الاتساع، كان شعارُها بالنسبة لي هو رؤية بعض المباني السكنية الجميلة، في أحياء هادئةٍ من باريس، مكسُوَّةً، بصورةٍ متناقضة، بالأعلام الحمراء.

أما بالنسبة لما كان على جانبِ الفكر الجديد، فيجب القول إنه كان يشجِّع ــ وسوف أعود إلى ذلك ــ الديمومةَ الصبورة والرزينة، الفعلَ النضالي العنيد، أكثر من إلحاح الفعل الجماهيري بقوةٍ مفتوحة. خلال مايو ذاته، ظل القاموس السياسي تقليديًا إلى حدٍ كبير، حتى لو كانت تزيِّنه بعض الاكتشافاتِ، الفاتنةِ أكثر من كونها ملحمية، من قبيل «تحت أحجار الرصف، الشاطئ» أو «لندع الخوفَ من الأحمر للوحوش ذات القرون». كانت الموتيفة العامة للـ«ثورة» تُمارَسُ هي ذاتها كمكانٍ مشترك دون محتوى حقيقي يمكن بلوغه، ودون فعلٍ رمزي يمكنه، ولو من بعيدٍ جدًا، أن يُذكِّر بالهجوم ضد التويلري أو الاستيلاء على قصر الشتاء. وأنا نفسي، أذهلني أن أرى مظاهراتٍ بالغة الأهمية، في المدينة الإقليمية التي كنت أسكنها وأُدرِّس فيها حينها، تمرُّ دون خوفٍ أمام قسم شرطةٍ مُجرَّدٍ تمامًا من الدفاع البوليسي ــ حيث كان كلُّ الجهاز القمعي متركِّزا على باريس ــ دون أن تبدو أدنى نيةٍ للاستيلاء عليه. وأنا نفسي، في دهشتي التي لم تخطر على بالِ أحد، حلمتُ بذلك الهجوم، لكنني في الحقيقة لم أحلم بذلك بجديةٍ أكبر لأنني لم أفعل شيئًا لإعداده أو حتى للدفاع علنًا، أمام الجمعيات العامة التي لا تُحصى لتلك الفترة، عن فرصة القيام به. ومن جهةٍ أخرى، كانت المسألةُ بداهةً مسألةَ «نضالٍ»، «معركة»، وعلى المقياس السلبي، كان ثمة أيضا رفضٌ واضحٌ للشكل البرلماني للدولة، تبدَّى منذ أن تلقَّى جزءٌ كبير من الحركة في يونيو إعلانَ الاستفتاءِ بصياحٍ مُدوٍّ، أظهر كلُّ المستقبل معناه الحقيقي، معنى «الانتخابات، فخُّ الحمقى». لكن ذلك كله لم يُشكِّل أية رؤيةٍ جديدة للسياسة. لم يوجد في ذلك سوى أشكالٍ جنينية لنفي الأشكال القائمة، وبصورةٍ فريدةٍ أحزابِ يسارٍ، بما في ذلك الشيوعيين، كان واضحًا تمامًا أن الحركة تزعجهم إلى حدِّ أنها لم تحرِّك فيهم ولو إحساسًا غامضًا بالرضى.

يمكنني القول عن طيبِ خاطر، ضد القول المأثور لميلنر، بأن مايو 68 وتوابعه أشارت إلى انفصام disjonction  التمرد والفكر. فهمتُ في نهاية المطاف أن المشكلة السياسية لم تكن مشكلةَ حركةٍ بهيجةٍ وواسعة ضد القصور الذاتي للدولة، بل مشكلةَ تنظيمٍ يجب ابتكاره، ضد شكل ـ الحزب من طراز الحزب الشيوعي الفرنسي، الذي لم يعد له وريث. يشير مايو 68 في آنٍ واحدٍ إلى نهاية الشكل الرخو والشرس لـ«حزب الطبقة العاملة» وإلى بدء لغزٍ ما زال يعمل، ويمكن صياغته ببساطة: إذا كان حقيقيًا أن من لا يملكون شيئًا على الإطلاق ــ لا نقود، ولا أسلحةً، ولا سلطة، ولا أدوات دعاية ــ ليس لديهم من قوةٍ سوى قوة اتحادهم وانضباطهم، وإذا كان حقيقيًا أيضًا أن الشكل المركزي والعسكري الطابع للحزب الستاليني قد أظهر حدوده، فبأي انضباطٍ جديدٍ، بأية وحدةٍ قادمةٍ يجب إذن دعمُ الفعل الشعبي؟ وبصورةٍ أعمٍّ، ما هي السياسة، الحقيقية، تلك التي تستهدف، كما يُنشِد نشيدُ الأممية، أن «يتغير العالم من أسفل» وأن يصبح من ليسوا شيئًا كلَّ شيءٍ؟

لكن لفهم كلِّ هذا جيدًا، يجب أولًا القضاء على الرؤى النمطية لمايو 68، الرؤى التي تُغذي بثقةٍ احتفالاتِ وكذلك إداناتِ، نوباتِ حنينِ وكذلك محاكماتِ، ذلك الشهرِ الرمزي في مناسبة إحياء ذكراه الخمسين. إنها رؤىً تجمعُها الرغبةُ بأي ثمنٍ في اختزالِ الحدث إلى نوعٍ من الوميضِ النابض للوهم داخلَ تفاهةِ ما هو واقعي. أن يتحدث المرءُ عن «أضخم إضرابٍ في تاريخ فرنسا»، عن «تمرد الشباب»، عن «ثورةٍ في العادات»، عن «عيدٍ لليوتوبيات»، فإنه يتشبَّثُ بسرابِ انقطاعٍ بسيط، بتلاشٍ باهر، ويجهل أن كلَّ حدثٍ لا يكتسب قيمةً في قوته إلا بعنادِ عواقبه. وإذا كان المرءُ يحلم، مثل ساركوزي، بـ«القضاء على مايو 68»، فذلك أيضًا لأنه ينسبُ إليه قوةً يكون هذا الشهر بوصفه كذلك، معزولًا، بعيدًا عن امتلاكها.

لكن، في هذه الظروف، لماذا تشيعُ اليوم إلى هذا الحد الرغبةُ في الاحتفال بذكرى مايو 68؟

الإجابة الأولى سلبيةٌ صراحةً. يمكننا اليوم الاحتفال بذكرى مايو 68 لأننا واثقون من أنه ميِّتٌ. فبعد خمسين سنةٍ، لم تعد به نأمةٌ. وهذا ما يُعلنه بعض الثمانية والستينيين القدامي البارزين. "Forget mai 68!" [انسوا مايو 68!] هذا ما يحضَّنا عليه منذ زمن طويل كوهن ـ بنديت، بطل المشهد الثماني والستيني الذي أصبح سياسيًا عاديًا. نحن في عالمٍ آخر تمامًا، تغير الوضعُ تمامًا، ومن ثم يمكننا الاحتفالُ بذكرى شبابنا البديع بكل هدوء. لا شيء إذن مما حدث له دلالةٌ نشطة بالنسبة لنا. حنينٌ وفولكلور.

ثمة إجابةٌ ثانيةٌ أشدُّ تشاؤمًا بدورها. إننا نُحيي ذكرى مايو 68 لأن ما كان في طريقه للميلاد، في ظل السفسطةِ الثورية، ما أصبح النتيجةَ الحقيقية منذ عام 1983، كان في الحقيقة إذعانًا واسعًا، في كل مكان، لعودة الرأسمالية الليبرالية المطلقة العنان وتمجيدًا حاسمًا للـ«ديموقراطية» الساذجة المصاحبة لها. في هذه الرؤية للأشياء، التي تتقاسمُها وتنشرها كتائبُ المثقفين المُهروِلين إلى التنكُّر لجموحات شبابهم، من جهة، فإن الجزءَ الليبرتاري لـ68، تغيير العادات، والنزعة الفردية، وطعم المتعة، يجدُ تحقُّقه في الرأسمالية ما بعد الحداثية وعالمها المُبرقَش بالاستهلاكات من كل نوع. أما بالنسبة للجانب الآخر للصخب، بالنسبة لتروتسكية وماوية تلك الفترة، دون نسيان أناركيي العمل المباشر، فلا يجب أن نرى فيه سوى ألسنةِ اللهب الأخيرة، التافهة عمليًا، لنزعةٍ شمولية بشعة، بلغت أخيرًا اختلاجات الاحتضار. وأخيرًا، في هذه الرؤية، فإن الناتج الديالكتيكي الإيجابي لمايو 68 يمكن أن يكون ساركوزي بشخصه. وكما دعانا مبكرًا جدًا جلوكسمان Glucksman  أو برنار هنري ليفي BHL ، فإن الاحتفاء بمايو 68، يعني اليومَ الاحتفاءَ بدولة القانون المُدَافَع عنها بشجاعة ضد البرابرة الروس أو الصينيين، دون أن ننسى المسلمين البشعين وإرهابييهم، بواسطة الجيش الأمريكي أولًا، ثم بواسطة الشرطة الجمهورية[4]. بالنسبة لأولئك الأشخاص، فإن مايو 68، الذي جرى التنكُّر له على نحوٍ مناسب، بما يعني تجريدَه من بَهرجِه الشمولي، يفتحُ الطريقَ الملكي لإحالةٍ مُنقِذةٍ إلى الولايات المتحدة، ودولة إسرائيل، إلى قيم وفضائل الغرب الإمبريالي.

وأودُّ أن أضع في مقابل تلك الرؤى الخانقةِ فرضياتٍ أشدَّ تفاؤلًا تتعلق بإحياء الذكرى.

الأولى، هي أن هذا الاهتمام بـ68، خصوصًا من جانب جزءٍ كبير من الشباب، هو، على نقيض الفرضية الثانية، هبَّةٌ مناهضة لساركوزي، تمردٌ أصمُّ وأعمى ضد التحول الذي تم إدخاله في نسق التمثيلات السائدة بانتخاب تلك الشخصية، التي لا يُعدُّ ماكرون سوى إدامةٍ لها. فساركوزي هو من أراد فرضَ فكرةِ أن الثراء، حُبَّ الربح وأوجه رفاهيته، احتقارَ الفقراء المبتذلين، الذين ليسوا سوى خاسرين، لا يجب أن تكون ممكنةً فحسب، بل ضروريةً وعادلة. إلا أن ميتران كان متعقلًا، في هذه النقطة. فقد تجنَّب تابي Tapie ، الذي كان مع ذلك أحد قتلته المأجورين: «انتباه! الفرنسيون لا يحبون النقود». أراد ساركوزي الوصول إلى آخر حدود هذا النفور. وواصل هولاند، فعليًا، السير في هذا الطريق: فقد شن حملته بإعلان أن عدوَّه هو «المال»، لكنه أظهر على الفور أنه مضطرٌ تماما لأن يصبح صديقه. وأخيرًا، يجعل ماكرون من رفاهية عصبةٍ أوليجاركيةٍ، من تدفُّق رؤوس الأموال، بداية ونهاية «الحداثة»، ضد كل «تشنُّجٍ عتيق» بصدد أمورٍ من قبيل الحماية الاجتماعية أو الخدمة العامة. وبديهي أنه ما من شيءٍ أشدُّ تعارضًا مع التهويمات الثمانية والستينية. هل يمكن التفكير، إذن، في ذروة النفي، أن عديدًا من الشباب وقدامى المحنكين سيستديرون صوب مايو 68 ــ الذي هو بالنسبة للأولين ميثولوجيا، وبالنسبة للآخرين ذاكرةٌ حيَّة ــ مثلما صوب مصدرٍ متاحٍ للإلهام، نوعٍ من القصيدة التاريخية، لاستعادة الشجاعة، لرد الفعلِ حقًّا ونحن في قاع الثقب الذي يفرضه علينا الانتصار المشئوم للرأسمالية المعولمة؟ 

ويمكن لبعض المؤشرات أن تتيح صياغة فرضيةٍ أخرى، أكثر تفاؤلًا. سيتم إدراج تقدير مايو 68 ضمن مسيرةِ وعيٍ ما زال غائمًا، لكنه منتشر، يمثل ضرورةَ ــ إلحاحَ ــ القضاءِ على فرضِ مصير وحيدٍ على البشرية، نهايةٍ للتاريخ، بمعنى فوكوياما، نهايةٍ يمثلها ترادفُ الرأسمالية والشكل البرلماني للسياسة، وكلاهما يتميزان على الدوام بوصم «الحرية» كقيمةٍ عليا. هذا الوعي الوليدُ يمكن أن يرفض بهلعٍ كلًّا من الرأسمالية والمناهضة العتيقة للرأسمالية من جانب اليمين المتطرف، التي تُعير عنوانها الفاشل للكتاب الأخير لجان ـ كلود ميشيا Jean-Claude Michéa ، عدوُّنا، رأس المال. هذا العنوان يمكن الاعتقادُ بأنه لا يحتملُ الرفضَ ما لم يكن مؤلفه قد علَّق عليه كما يلي: «من الأسهل اليوم تخيُّل نهايةِ العالم أكثر من نهايةِ الرأسمالية». وبذلك يضفي الصفة الفوكويامية على نقده المزعوم لليبرالية، وأخيرا يقترحُ تقهقرًا تقليديًا إلى الوراء، خليطًا من النزعة القومية و الديموجوﭼيا، يطهوه، في باحته الخلفية، قريبًا جدًا من مارين لوبنMarine Le Pen . ولن يندهش المرءُ لكونه خصمًا لدودًا، منذ زمن طويل، لمايو 68، وبالتالي، لأن الوعي ـ المسبق الذي أتحدثُ عنه لا يمكن أن يقعَ في فخاخه. لأن هذا الوعي ـ المسبق يؤكد بالضبط أن من البساطةِ بمكانٍ، وليس من المستحيل على الإطلاق، التفكيرُ في نهاية الرأسمالية ووضعها موضع التنفيذ، وأن ذلك هو ذاتُ إلحاحِ اللحظة: إعادة تشييد رؤيةٍ للعالم، داخل كل فردٍ وكذلك على نطاقٍ واسع، على أساس الصراع بين طريقين، الطريق الرأسمالي والطريق الشيوعي. بالنسبة لهذا الوعي على وشك الاستيقاظ، فإن الاحتفال بذكرى مايو 68 سيكون بمثابة إشارةٍ إلى أن اليوم سيعود.

ما زال يتوجَّبُ معرفة عن أي مايو 68 نتحدث. لأن ما يجب فهمه أولًا، هو أن إحياء الذكرى هذا إذا كان يتيحُ مجالًا لكل هذه الفرضيات المتناقضة، فذلك لأن مايو 68، مع كل ما انفتح عليه خلال ما يقارب عشرين عامًا، هو حدثٌ ذو تعقيدٍ بالغ. من المستحيل إعطاء صورةٍ موحَّدةٍ ومريحةٍ له. لهذا السبب، فإن هذا الحدث، باستثناء تفرُّده الذي نادرا ما يُلاحظُ، قد احتفظ كاسمٍ، بتاريخه، السنة والشهر، ولا شيء آخر. برهانًا على أن اسمًا سياسيًا، من قبيل «الثورة الفرنسية»، أو «كوميونة باريس»، أو «الثورة الثقافية»، أو «الأيام الثلاثة المجيدة[5]»، لم يمكن الإشارة إليه به، خصوصًا أنه لم يقدِّم للتاريخ أسماءَ أعلامٍ بارزين، زعماء أو أبطال. يظل مايو 68 لغزًا من نواحٍ عدة. وأودُّ أنا أن أُقنع قارئي أن هذا اللغز يرجع إلى أنه، تحت الاسم البالغ الغموض لـ «مايو 68»،  تكمن كثرةٌ متنافرة.


[1]  LGBT: Lesbian, Gay, Bisexual, Transgender.. مثليّة، مثلي، مُزدوج التوجه الجنسي، مُتحوِّل. أحيانا يضاف إليها مُتحَيِّر Questioning، [مجتمع الميم]، وبينيّ الجنس Intersex.

[2]  les Trente Glorieuses: الأعوام الثلاثين التي تلت الحرب العالمية الثانية، وشهدت ازدهارًا ونموًا استثنائيين.

(3) الإشارة إلى فيلم جودار باسم ”الصينية” عن فتاة ماوية ورفاقها

[4]   أعتقد أن الشرطة الجمهورية تشير هنا إلى فرق مكافحة الشغب الشهيرة CRS:  Compagnons républicains de securité:

[5]  الأيام الثلاثة المجيدة: اسم آخر لثورة يوليو، أو ثورة 1830. وهي أيام 27، و28، و29 يوليو، التي تحولت فيها الاحتجاجات إلى عصيانِ نصب فيه الثوار المتاريس في باريس وسيطروا عليها، مما أسفر عن عزل شارل العاشر عن العرش وتنصيب لوي ـ فيليب، الذي سيُعزل بدوره. أي استبدال سلالة بوربون بسلالة أورليان.