كان ثمة مايو رابع

الفصل الثالث من كتاب «لغز مايو» لآلان باديو

ترجمة: أحمد حسان

اضغط على الرابطين لقراءة الفصلين اﻷول والثاني

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.


التصميم من نيجاتيف (مأخوذ عن فيلم La Chinoise) وخاص بـ Boring Books

كان ثمة، جوهريًا، مايو 68 رابع

يجب تذكّر أن هذه المكوّنات الثلاثة لمايو 68 تظلُّ مختلفةً، رغم تقاطعاتٍ هامة. إذ يمكن أن توجد فيما بينها تنازعاتٌ ذات دلالة. فبين «اليسارية» العامة للحركة وبين اليسار الكلاسيكي، وبالذات الحزب الشيوعي الفرنسي، ستجري مواجهاتٌ حقيقية، وكذلك بين اليسارية السياسية (وتُمثَّلُ عادةً بالتروتسكية) وبين اليسارية الثقافية، الأناركية بالأحرى. كل هذا يعطي صورةً لمايو 68 بوصفه فورانًا متناقضًا وليس عيدًا موحَّدًا على الإطلاق. حياة مايو 68 كثيفةٌ وتظهر في كثرةٍ من التناقضات.

وتتمثَّل المكوِّنات الثلاثة بمواضع رمزيةٍ كبرى. بالنسبة للطلبة، فإنها السوربونُ المحتلة؛ وبالنسبة للعمال، هي مصانعُ السيارات الكبرى (وفي قلبها رينو ـ بيّانكور Renault-Billancourt)؛ وبالنسبة لمايو الليبرتاري، الاحتلالُ، المُدمِّر رغم ذلك، لمسرح الأوديون.

ثلاثةُ مكوناتٍ، وثلاثةُ مواضع، وثلاثةُ أنماطٍ من الرمزية ومن ثم من الخطاب؛ ومن هنا، بعد خمسين عامًا، ثلاثةُ حساباتٍ ختامية مختلفة. على جانب الطلبة، محاولاتُ إصلاح الدراسات، وطرحُ الدروس الأستاذية والامتحانات للتساؤل، وتطويرُ مجموعات عملٍ تطوّعي، وخلْقُ إدجار فور Edgar Faure حين أصبح وزيرَ التربية القومية، لجامعةٍ تجريبية، هي باريس VIII، الواقعة في غابة فانسين، والتي ستصبح بالفعل، خلال بضع سنوات، نوعاً من المختَبر، يعجُّ بكل الميول السياسية. وعلى جانب العمال، بعد إضرابٍ عام عنيف وذي امتدادٍ غير معهود، زيادةٌ قوية في الأجور (يجب القول بأن الازدهار الاقتصادي يضمن التشغيل الكامل، ومن ثم وضعًا من الضعف النسبي لأصحاب العمل)، ونويّاتٌ من الشبان المتمردين في المصانع، والشعور المبهم، أيضًا، بأن النقابة العامة للشغل والحزب الشوعي الفرنسي بمعنى من المعاني قد تبِعا الحركة عن بعدٍ أكثر مما أراداها أو دعماها. أنهما قد خشيا «اليساريين» أكثر مما حاربا الحكومة. وعلى الجانب الليبرتاري، سنجدُ، بخلاف الانتشارِ الفلسفي، والأدبي، والفني، بصدد الإحالة إلى «حيواتنا» (التي وجدناها من جديد حتى حركات عامي 2016 و2017)، الحركاتِ التي تتمركز حول «النوع» الجنسي، وتحريرِ موانع الحمل والإجهاض، ومخططًا لتحويل الرابطة العاطفية، وباختصار، زلزلةَ هذه الركيزة للرجعية التي تمثّلت دومًا في العائلة.

لكن بشكلٍ محدد، حين يتحدث المرء اليوم عن مايو 68، عن ماذا يتحدث؟ عن المجموعِ المعقَّد للثلاثة مايو 68، أم عن واحدٍ فقط من المكوّنات الثلاثة التي يعزلها المرءُ طبقا للمصالح الإيديولوجية أو السياسية المرتبطة بالوقت الحاضر؟

فيما يخصّني، أودّ التمسُّكَ بأن أيًا من هذه المكونات الثلاثة ليس الأكثر أهميةً، إذ وُجد مايو 68 رابع، هو الجوهري، والذي يحدد المستقبل أيضا.

هذا المايو 68 أقلُّ قابليةً للقراءة، لأنه يمتد في الزمن أكثر مما في اللحظة. إنه ما يتلو شهر مايو البديع، مُوَلِّدا سنواتٍ سياسيةٍ كثيفة. لا يمكن إدراكُه إلا بصعوبةٍ إذا تم الالتزام بشكلٍ لصيقٍ بالشروط الأولية، ويُسيطِرُ على التتابعِ الممتد من عام 1968 إلى عام 1978، ثم يجري كبتُه وامتصاصه رويدًا رويدًا، أولًا بظهور التيار ـ المعاكس الإيديولوجي والمرتدّ المسمى «الفلسفة الجديدة» ــ رغم عدم كونِ هذا التيارِ لا جديدًا ولا فلسفيًا ــ ، ثم بانتصارِ اتحادِ اليسار و«أعوام ميتران» الحزينة، وأخيرا بالبناءِ المسيطِر لرأسماليةٍ ارتدَّت إلى وحشيتها الليبرالية البدائية. وحتى إذا كان مايو 68 الرابع يحيا، بأشكالٍ ذات مغزى، إلى مشارف القرن الجديد، أي إلى يومنا هذا، فلنكن طموحين، بصورةٍ بارزة، وسوف أتمسَّكُ، في شخصي وفي بعض الآخرين، بالحل المعقولِ للحديث بصدده عن «عقدين، 1968- 1988» بدل مايو 68.

تملك سيرورة مايو 68 جانبين. أولًا اليقين بأننا، بدءًا من أعوام الستينات، نشهد نهايةَ مفهومٍ قديم للسياسة. يتلو ذلك البحثُ الأعمى بعضَ الشيء، خلال كل عقد 1970-1980، عن مفهومٍ آخر للسياسة. والفرقُ بين هذا العنصرِ الرابع وبين العناصر الثلاثة الأولى هو أنه برمّته مُشبَّعٌ بسؤال: «ما السياسة؟» باعتباره، في آنٍ واحد، سؤالًا نظريًا، بالغ الصعوبة، ورافدًا مع ذلك لحشدٍ من التجارب المباشرة التي ينخرطُ فيها المرءُ بحماس.

المفهوم القديم الذي يجري السعيُ إذن إلى القطيعةِ معه يقومُ على الفكرة، السائدة عند نقطة الانطلاق، عند بداية أعوام الستينات، عند كل أنواع المناضلين، والمقبولة بهذا المعنى بشكلٍ متجانس في المعسكر «الثوري»، بوجود فاعلٍ تاريخي يحمل إمكانية الانعتاق. يُسمّى «الطبقة العاملة»، «البروليتاريا»، وأحيانًا «الشعب»، ويجري النقاش حول تشكيله، واتساعه، لكن يجري التسليمُ بوجوده. وبذلك كان يُفترضُ، في تلك الفترة، أن سياسةَ الانعتاقِ، المسمّاة «الشيوعية» دون تحفّظات، ليست فكرةً خالصةً، إرادةً، وصفةً طبيةً، بل إنها، كما تدعمها ماركسيةٌ معينة يمكن وصفها بأنها تاريخانية، منقوشةٌ، ومُبرمجةٌ تقريبًا، في الواقع التاريخي والاجتماعي.

والنتيجة المترتبة على هذا الاعتقاد هي أن هذا الفاعل agent الموضوعي يجب أن يتحول إلى قوةٍ ذاتية، أن هذا الكيان الاجتماعي يجب أن يصبح مؤديًا acteur ذاتيًا. ومن أجل ذلك، يجب أن يُمَثَّل بمنظمةٍ نوعية، هي ما نسميه على وجه الدقة حزبًا، حزب الطبقة العاملة، أو الحزب الشعبي. هذا الحزب يجب أن يوجد في كل مكان توجد فيه مواضعُ سلطةٍ أو تدخُّل.

هناك بالتأكيد مناقشاتٌ واسعة حول ما هو الحزب: هل يوجدُ بالفعل، هل يجب خلقُه، أو إعادةُ خلقِه، وماذا يمكن أن يكون شكله، إلخ؟ لكن ثمة اتفاقٌ في العمق حول وجود فاعلٍ تاريخي وحول ضرورة تنظيمه. هذا التنظيم السياسي يجب بداهةً أن تكون له بدائلُ اجتماعية، هي المنظمات الجماهيرية، التي تغرسُ جذورَها في الواقع الاجتماعي المباشر. وهذا برمته هو سؤالُ مكانِ النقابية، وعلاقتها بالحزب، وما تعنيه نقابيةُ الصراعِ الطبقي.

يعطينا هذا شيئًا ما زال مستمرًا اليوم، هو أن العملَ السياسي التحرّري له وجهان. فهناك أولاً حركاتٌ اجتماعية، مرتبطةٌ بمطالب خاصة، ومنظماتها الطبيعية هي النقابات، ثم هناك بعد ذلك المُكوِّنُ من نمطِ الحزب، الذي يتمثل في شن معاركٍ ليكون حاضرًا في كل المواقع الممكنة للسلطة، وينقل إليها، إذا أمكننا القول، قوةَ ومحتوى الحركات الاجتماعية.

إنه المفهوم الذي يمكن القولُ إنه كلاسيكيٌ. هذا المفهوم، في مُستهّل التتابعِ المسمّى مايو 68، كان مشتركًا إلى درجةٍ كبيرة بين كل المؤدِّين، وكان بالأخص كليَّ الوجود بلغته. سواءٌ كان المؤدّون مؤسساتٍ مسيطرةٍ أو من يقومون بالرد، شيوعيين أرثوذوكسٍ أو يساريين، ماويين أو تروتسكيين، فإنهم جميعًا يستخدمون قاموسَ الطبقات، وصراع الطبقات، والإدارة البروليتارية للصراعات، والمنظمات الجماهيرية والحزب. وبعد ذلك، توجد خلافاتٌ عنيفة حول مشروعية هؤلاء أو أولئك وحول دلالة الحركات. لكن اللغة هي ذاتها والشعار المشترك هو الرايةُ الحمراء.

سأتمسّكُ عن طيب خاطرٍ بأن الوحدة السياسية الكامنة في مايو 68، فيما وراء تناقضاته العنيفة، هي الرايةُ الحمراء. ففي مايو 68، للمرة الأخيرةِ، حتى اليوم على كل حالٍ، وللأسف حتى كل «غدٍ» قريب دون شك، كست الرايةُ الحمراء البلادَ، والمصانعَ، والأحياءَ. وعند أواخر شهر مايو، عام 1968، كانت تُرى حتى على نوافذ شققِ قسمٍ من البورجوازية، في أحياءٍ بالغة الاختلاف عن «الضواحي» الشهيرة وعن «المدن» المشكوك فيها.

لكن الحقيقة الخفية، التي تتضح شيئًا فشيئًا، هي أن هذه اللغة المشتركة، التي ترمز إليها الراية الحمراء، في طريقها للموت في الحقيقة. يمثل مايو 68 التباسًا أساسيًا بين لغةٍ مشتركةٍ بالإجماع وبين بدايةِ نهايةِ الاستخدام، اللا ـ نقديِّ على أية حالٍ، لتلك اللغة. وبين ما يبدأُ وما ينغلق، ثمة نوعٌ من اللاتمايز المؤقت، الذي يصنع الكثافة السحرية لمايو 68.

هذه اللغةُ المشتركة، هذه الماركسيةُ المعتادة لأحزابِ ونقابات «الصراع الطبقي»، في طريقها للموت في الأحداث، لأن مايو، على استحياءٍ، لكن السنواتِ التي تلته، بقوةٍ، قد طرحا للتساؤل على نطاقٍ واسعٍ مشروعيةَ المنظمات التاريخية لليسار، وللنقابات، وللأحزاب، وللقادة المعروفين. وحتى داخل المصانع، يوجد ردٌ على الانضباط، وعلى الشكل المعتاد للإضرابات، وعلى مراتبية العمل، وعلى السلطة النقابية على الحركات. تم سحبُ الفعل العمالي والشعبي خارج إطارهِ المعتاد عن طريق مبادراتٍ تُعتَبَر أناركيةً أو وحشيةً. وهناك أخيرًا، وربما قبل كل شيء، نقدٌ جذري للديموقراطية التمثيلية، للإطار البرلماني والانتخابي، للـ«ديموقراطية» بمعناها الدولتي، المؤسسي، الدستوري، الذي تَعهَدُ إليه كلُّ التنظيمات «الثورية» بمصيرها، في الواقع، ولو بمجردِ التصاقِها الذي لا يتغيّر بما سمَّاه متمرِّدو القرن التاسع عشر، عن حقٍ تماما، باسم «القماءة البرلمانية».

ويجب قبل كل شيءٍ ألاّ ننسي، أكـرِّر، أن الشعار النهائي لمايو 68 هو «الانتخابات، فخُّ الحمقى». وليس هذا مجرّد تحمّسٍ إيديولوجي؛ فثمة أسبابٌ محدَّدة تُبرِّر هذا العداء للديموقراطية التمثيلية. إذ في أعقاب شهرٍ هائل من الاستنفارِ الطلابي، ثم العمالي والشعبي غير المسبوق، نجحت الحكومةُ في تنظيم انتخاباتٍ وكانت النتيجة هي أشدُّ برلمانٍ شهدته البلادُ رجعيةً! ومن ثم أصبح واضحًا للجميع أن الجهازَ الانتخابي ليس فقط، ولا حتى أساسًا، جهازَ تمثيلٍ، بل إنه كذلك جهازُ قمعٍ للحركات، والتجديدات، وأوجه القطيعة.

من خلال هذا كلِّه ــ كلِّ هذا «النقد الكبير»، إذا تكلمنا مثلما يفعل الثوريون الصينيون ــ، السلبيّ من الناحية الجوهرية، تشقُّ طريقها رؤيةٌ جديدة، رؤيةٌ للسياسة تحاول اقتلاعَ نفسها من الرؤية الكلاسيكية. هذه المحاولة هي ما أسمّيها مايو 68 الرابع. وهو يُفتّش عما يمكن أن يوجدَ فيما هو أبعدُ من انسدادِ النزعة الثورية الكلاسيكية. يُفتِّش بطريقةٍ عمياء، لأنه يُفتِّشُ مُستخدمًا نفسَ اللغةِ التي تسودُ في المفهوم الذي يريدُ التخلُّصَ منه. ومن هنا التيمة، غير الكافية بداهةً، للـ«خيانة» أو للـ«إنكار»: التنظيماتُ التقليدية يمكن أن تخونَ اللغة التي تخصّها. يمكن أن تُشهِر ــ إنها مرةَ أخرى اللغةُ التصويرية الجميلة للصينيين ــ «الرايةَ الحمراء ضدَّ الرايةِ الحمراء».

إذا كنا، نحن الماويين، قد دعونا الحزبَ الشيوعي الفرنسي وتوابعَه «مُراجِعين»، فذلك لأننا اعتقدنا، مثلما اعتقد لينين في الاشتراكيين ـ الديموقراطيين برنشتين أو كاوتسكي، أن تلك التنظيمات قد غيَّرت اللغةَ الماركسية التي تستخدمها ظاهريا إلى نقيضها. ولم ندرك بعدُ أن عناصر معينةً من تلك اللغة ذاتها هي التي كان يتوجب، توكيديًا هذه المرة، تغييرَها، مُستخلصين دروسَ تطبيقها في الثورتين الكبريين في روسيا والصين، وكذلك بقائها في الأحزاب الشيوعية للعام بأسره. وإذا كنا ماويين، فذلك لأننا اكتشفنا شيئًا فشيئًا أن لينين في الحقيقة، منذ نهاية العشرينات، وكذلك ماو، في خضم الحركة الهائلة المسمّاة «الثورة الثقافية»، الحركة التي كان مايو 68 معاصرًا لها، كانا قد حاولا هما ذاتهما نقلَ تيمة الماركسية الثورية ونظرية الحزب الشيوعي إلى مرحلةٍ جديدة من صيرورتها.

كان مركزُ ثِقل بحثنا الأعمى هو مجموعُ أشكالِ الارتباط المباشر بين صورِ مايو 68 المختلفة. مايو الرابع هو الخط المستعرض الذي يربط بين الثلاثة الآخرين. كان كنزنا هو مجموعُ المبادرات المتَّخذةِ لإتاحة الانتقال بين الحركات الثلاث المتنافرة، وبالأخص بين الحركة الطلابية والحركة العمالية، مثلما كان الحال على نطاقٍ غير مسبوقٍ خلال الثورة الثقافية، التي سيطرت عليها عامي 1965-1966 حركةُ الشبيبة (المعروفة باسم «الحرس الأحمر»)، ثم خلال 1966-1969 الحركةُ العمالية التي كان نموذجها المعياري هو الخلقُ المدهش، بدءًا من يناير عام 1967، لـ«كوميونة شانغهاي».

كانت الماويةُ الفرنسية نوعًا من الاندماج، الإيديولوجي والعملي، بين الدروس المعاصرة للثورة الثقافية الصينية وبين الظروف العينية الأشدّ إدهاشًا للتيارات الثلاثة المؤسسة لمايو 68 الفرنسي. ولتسمحوا لي، من أجل توضيح ذلك، بأن أُدخِل هنا بعضَ عناصرِ السيرة الذاتية.

يُنشر الفصل التالي يوم الأحد 26 أبريل