الرأسماليين -اللي دايما بيدعوا إنهم مؤمنين بفلسفات مثالية- بيتصرفوا زي اللي مصدق بجد في الحتمية المادية، حيث إنهم افترضوا إن طول ما هما متحكمين في أدوات اﻹنتاج، فمفيش داعي لحبس الشعرا.

حوار ديفيد جريبر مع موقع ريدي استيدي بوك

ترجمة بالعامية المصرية: حسين الحاج

* ديفيد جريبر عالم أنثربولوجي وناشط سياسي أمريكي، ترجمت من كتبه للعربية: مشروع الديموقراطية: التاريخ والأزمة والحركة. (ترجمة أسامة الغزولي - عالم المعرفة 2014)، وشذرات من أنثروبولوجيا أناركية (ترجمة أحمد حسان - دار المحروسة 2016)، والدين: الخمسة آلاف سنة اﻷولى (ترجمة أحمد زكي - المركز القومي للترجمة 2019).


ديفيد جريبر عن موقع بلومبيرج

مقدمة المترجم:

في 2013، ترجمت نص قصير لديفيد جريبر بيقدم فيه اﻷناركية بصورة مبسطة في صورة سؤال وجواب. وياما أناركيين كتير استخدموا اﻷسلوب دا في تقديم اﻷناركية. وفي 2019، رجعت أقرا اللي كنت قريته من شغل وحوارات جريبر وجه في بالي إني أجرب ترجمة حوار له إلى للعامية المصرية في محاولة لاستشكاف مدى قابليتها في ترجمة النصوص. ما كانتش دي تجربتي اﻷولى على أي حال، وأظن إن الكلام المتفرغ في صورة نصوص، زي الخطب والحوارات الصحفية والمحاضرات وغيرهم، ممكن يقبلوا الترجمة للمصرية بسهولة أكتر. في الحوار المترجم دا، ديفيد جريبر بيتكلم مع موقع ريدي استيدي بوك عن أفكاره حول الماركسية وطرده من جامعة يال واﻷنثروبولوجيا اﻷناركية.


مارك ثوايت: هل كل اﻷنثربولوجيين أحفاد بيير كلاستر ومارسيل موس؟ وكام واحد منكم موجود؟

ديفيد جريبر: لا، خالص! كتير اعتبروا موس شخصية محافظة أكتر (وما كانوش عارفين حاجة عن التزامه السياسي)، وكلاستر كان شخص غريب هايج ضد الماركسيين اللي على أيامه. عارف! الموجة اﻷولى من اﻷنثروبولوجيا الراديكالية كانت باﻷساس ماركسية، وكان فيه حاجة زي هوس بالنماذج الماركسية الفرنسية في وسط العالم اﻹنجليزي في السبعينات وأول التمانينات، النوع دا من الفوران، بس دلوقتي أغلب اﻷنثربولوجيين تجاوزوه، لكن افتكر إن ماركس عنده أفكار مفيدة كتير للأنثربولوجيين، والعالم دي بس استعملوا نسخة وحشة من الفكر الماركسي. على أي حال، من السبعينات، أغلب اﻷنثروبولوجيين قالوا على نفسهم راديكاليين بطريقة أو بأخرى، لكن أغلبهم فضلوا فوكو أو نوع تاني من "فكر مايو 68" الفرنسي. ناس كتير بيلوموني عشان بانتقد فوكو بس اللي مكسر مقاديفي فعلاً مش هو فوكو نفسه (واللي هو كان بميت وش، دايما بيغير دماغه ويقترح أفكار جديدة)، لكن الطريقة اللي اعتبروه بيها شبه إله في أقسام معينة من اﻷكاديميا، وخصوصًا الباحثين اللي لقوا نفسهم مشبوكين في أوساط أكاديمية تراتبية قوي لكن برضه بتدفع لهم كويس، ومالهمش طريقة يدخلوا في الحركات الاجتماعية، لكن بيفتكروا نفسهم أكتر راديكالية مما همَّ عليه فعلاً، أقصد، بيجادلوا إنهم إذا راحوا واشتروا كلابشات غالية ولا حاجة كدا، فهمَّ مخربين أكتر بكتير من الناس اللي بايعة روحها في الشوارع. دا اللي بيضايقني.

أفتكر رغم إن العالم بدأ يسمي الهري اللي بنهريه باﻷكاديمية الراديكالية، بس هو شوية بشوية، لازم على الواحد يختار بين الشغل في منظمات المجتمع المدني أو الحكومة أو التسويق أو يروح ﻷقسام جامعات شغالة زي الشركات وبتحاول بفُجر تكسر نقاباتهم.. أو بدل من كدا، يتواصل بجد بطريقة ما مع الحركات الاجتماعية الحقيقية اللي مش عايزانا ببساطة نفرض نفسنا عليها باعتبارنا طليعتها. بافكر بشكل ما إن دا شيء كويس، أغلب الناس اللي بيعرضوا نفسهم كراديكاليين ما بعد حداثيين جامدين في السبعينات والتمانينات كانوا في الحقيقة ليبراليين كلاسيكيين، أقصد، مهتمين بتوسيع مساحة الحريات الشخصية وحقوق اﻷقليات من غير ما يتحدوا مؤسسات زي الدولة أو الرأسمالية، ودا تمام. مين أنا عشان أقول للناس إيه اللي مفروض يفكروا فيه؟ لكن أنا باتضايق فعلاً لما ناس زي دول يدعوا إنهم الراديكاليين الكُمّل. شوية شوية، همَّ نفسهم بدأوا يعترفوا إنهم آه، أيوه، إحنا في الحقيقة مش أكتر من ليبراليين. وبالنسبة لي، دا تجديد، حاجة زي إننا أخيرًا ممكن يبتدي يبقى عندنا حوار حقيقي.

في السياق دا بدأت اﻷناركية فجأة تظهر في أفق اﻷكاديميا. رغم إنها بتبدأ مع الشباب، اللي همَّ طالعين من خبرة ما بالنشاط السياسي اللي فيها اﻷفكار وأشكال التنظيم اﻷناركية بدأت تبقى مهمة أكتر وأكتر في كل مكان. فيه عدد قليل جدًا من اﻷساتذة اﻷناركيين، عدد قليل بجد منهم همَّ اﻷكبر سنًا، ويمكن اﻷصغر موطيين راسهم تحت أكتر، ومش بيعترفوا بدا في الغالب، وبعدين عدد كويس من طلاب الدراسات العليا وعدد كبير قوي من طلاب الجامعة. أنا عارف دا ﻷنهم بيكتبوا لي طول الوقت، بيسألوني رايح فين السنة الجاية (أنا ما عنديش فكرة)، ومفروض يقدموا فين.. فممكن تشوف التحول التاريخي بيحصل قدام عينيك.

ثوايت: هل تفتكر إن الفكر اﻷناركي مفيد خصوصًا للأنثروبولوجي ولا فيه تطبيقات أوسع ممكنة؟ هل راديكالية وطاقة اﻷناركية ممكن تحافظ على التفكير النقدي في اﻷكاديميا؟ ممكن اﻷناركية تكون بتحافظ على الماركسية؟

جريبر: ممكن قوي، لإن مفيش تعارض قوي بين الاتنين، حيث إن الماركسية في أفضل أحوالها لما بتركز على النظرية، واﻷناركية بتركز باﻷساس على أخلاقيات الممارسة، وزي ما باقول على طول، مفيش نظرية أناركية عن نظام السلعة. 

مرة كنت في سمينار في جامعة جون هوبكنز مع جوفاني آريجي، محلل نظم العالمية الماركسي البورديلي اللي باحترم شغله قوي، واقترحت إنه من الواجب علينا يبقى فيه تقسيم للعمل ما بيننا، ممكن الماركسيين يقولوا لنا ليه فيه أزمة اقتصادية حاصلة في اﻷرجنتين (مثلاً)، واﻷناركيين ممكن يقرروا إيه اللي نقدر نعمله بخصوصها، هي كانت نكتة، لكن يمكن بالروح دي، ما كانش ممانع، ليه ﻷ؟

أنا معارض بشدة لأشكال التنظيم اللي اتطورت في تيارات ماركسية كتيرة وعادات المثقفين في اﻹدانة الطائفية اللي بتيجي وراها في العادي، لكن دايما كان فيه تيارات في الماركسية ما كانتش كدا (زي ما كان فيه دايما تيارات في اﻷناركية كانت للأسف كدا).

ثوايت: وبما إننا بنتكلم على اﻷكاديميا، فأنت اتطردت منها مؤخرًا! احكي لنا على الموضوع دا يا ديفيد!

جريبر: يعني، أنا اتطردت من واحدة منهم، من مؤسسة محافظة كريهة، بس أتمنى إني ما أكونش اتطردت من اﻷكاديميا في العموم. والواحد لازم يخلي في باله برضه اللي اتسرب لي إن السبب الوحيد اللي خلى هيئة الكلية في جامعة يال يحقدوا عليَّ إني كان عندي كتب منشورة كتير (وكمان دعم كبير من طلاب الدراسات العليا)، بافكر إن المؤسسات موجودة لما المسائل دي بتبقى في صالحك.

ثوايت: بحثك اﻷنثربولوجي بيحاول يقترح إن اﻷناركيين على حق: ممكن نعيش مع بعض من غير دولة (طبعًا البشر دايما عملوا كدا). لكن لما اﻷناركيين بيعادوا الدولة، مش همَّ بكدا بيحطوا العربية قدام الحصان؟ وأبقى قاسي أكتر لما أقول، مش البنية الاقتصادية بتعمل بنية الدولة الفوقية مش العكس؟

جريبر: بصراحة، أنا مش بافكر حقيقي إن تفريقات البنية الفوقية والتحتية ليها معنى كبير. يمكن تفتكر إن دا غريب، بس أنا حقيقي بافكر إن التفريقات دي مش مادية بجد، لكنها مثالية. وخليني أشرح لك.

لما نبص لها من ناحية النشاط، اللي بيكّون الواقع -ودي روح حلوة من ماركس بالتأكيد- هي العمليات واﻷفعال. إحنا كلنا مشغولين بعمل حاجات، وإنتاج العالم اللي عايشين فيه، كل يوم. لكن لما تبص على العالم بطريقة دي، نموذج البنية الفوقية والتحتية مالوش أي معنى بجد. هي ليها معنى بس لما تبص على نتاج اﻷفعال: آدي شوية ناس وهمَّ بيعملوا فطيرة سمك، أو فخار، فآدي الشيء المادي، وآدي شوية ناس وهمَّ بيعملوا القانون أو الشعر، ودا الشيء المثالي. لكن عملية عمل القانون (أو الشعر) هي مادية بالظبط زي عملية عمل فطير السمك. لازم يبقى فيه مباني عشان تعمل فيها القانون، ولازم يبقى فيه حد بينضفها، وورق ونقل وبواريك غريبة الشكل وكل اﻷنواع من الحاجات التانية، وبرضه عملية عمل فطير السمك يلزمها ناس تفكر في كل اﻷنواع من الحاجات بوضوح. بس لو بتتخيل المنتجات منفصلة عن العمليات، راح تقدر تقول دي أكتر مادية أو أقل ذهنية من التانية. ودا سبب قولي إنه موقف مثالي، ﻷن دا اللي النخبة دايما بتقوله. همَّ دايما بيدعوا إن اللي بيعملوه هو بطريقة ما أعلى وأنقى وأكتر تجريدًا، وإنه طاير فوق تراب وطين الحياة المادية الحقيقية. واللي بيخليني أفكر إن الرد المناسب الوحيد يبقى: "كلامكم خرا، ﻷه، اللي بتعملوه مش كدا!" (وأنا باستعمل مجاز عملي مناسب)، الست العجوزة اللي بتنضف الحمام هي جزء من عملية عمل القوانين بالظبط زي أي حاجة تانية، عمليًا، التفريقات دي مالهاش معنى.

حتى لما تبص على تاريخ الماركسية، تلاحظ حاجة غريبة. أغلب الماركسيين بيحسوا إنهم لازم يبانوا بيهتموا بالبنية الفوقية والتحتية بما إنها ظهرت في كتاب ماركس "مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي". لكن إيه اللي همَّ بيعملوه؟ (لاحظ: آدي فعل تاني)، يعني الماركسيين الغربيين باﻷساس بيكتبوا عن الفن واﻷدب، قليل لما تلاقي ماركسي بيكتب تحليل اﻷسلوب الجديد في صناعة الحديد، لكن سهل تلاقي ماركسي بيحلل اﻷنظمة القضائية أو مقالات عن شعر ويليام بليك. فأنت ممكن تقول لي إن اﻷنظمة اللينينية أو الستالينية القديمة كانت جامدة أكتر في النقطة دي، لكن أفعالهم كانت متناقضة أكتر. همَّ كانوا مصرين إن البنية التحتية متحددة وبيحبسوا أي حد يقول غير كدا. بس أنا آسف: إذا أنت حقيقي مصدق إن البنية التحتية المادية بتحدد اﻹنتاج اﻷيدولوجي، فأنت مش هتروح تحبس ناس ولا تضربهم بالنار عشان كتبوا قصيدة مش عاجباك! مفيش داعي لكدا. وبالتالي، اﻷنظمة دي في أفعالها اتصرفت زي المثاليين المتطرفين، المهاويس بكتابات المثقفين، فين حين إن الرأسماليين -اللي دايما بيدعوا إنهم مؤمنين بفلسفات مثالية- بيتصرفوا زي اللي مصدق بجد في الحتمية المادية، حيث إنهم افترضوا إن طول ما هما متحكمين في أدوات اﻹنتاج، فمفيش داعي لحبس الشعرا: كل حاجة تانية هتاخد بالها من روحها بشكل عام.
لكن يمكن أنا باسرح.. افتكر إن سؤالك الحقيقي كان أبسط بكتير: هل إحنا بجد بنعيش لحظة ممكن نخلي فيها الدولة تختفي؟ هل فيه مؤسسات بديلة هتظهر ببساطة على طول وبعفوية ولا علينا إننا نبنيهم ببطء في اﻷول؟ فيه مناقشات حية حوالين دا قد ما تتخيل. ما أعرفش، لكن اﻷناركيين بالتأكيد بيحاولوا يساعدوا في عمل بدايل. شرطنا الوحيد هو إننا مش عايزين نعمل دا عن طريق الدولة، ﻹننا شايفين إن الدولة هي نوع من العنف وأنت ما تقدرش تبني الحرية بطرف المسدس.

ثوايت: إزاي اﻷناركية تحمي نفسها من إنها تبقى حركة إصلاحية عشان شوية ديموقراطية زيادة؟ أو تبقى حاجة تبان راديكالية، لكن عمليًا ببساطة بتقدم القضايا الصغيرة على القضايا الكبيرة وأكتر شوية من كدا؟ 

جريبر: لطيف إننا في الولايات المتحدة مش بييجي لنا السؤال دا، إحنا اللي بنتهم التانيين بالنزعة اﻹصلاحية عادةً. أعتقد إن اﻹجابة هي: زي ما قلت، إحنا مش بنتشغل مع مؤسسات بنعتبرها أشكال من العنف. ومش بنتوظف لحساب النظام، وبنتحدى بصورة مباشرة مؤسسات زي منظمة النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية على سبيل المثال، لكن مش هنقعد معاهم ونتفاوض في مساومات عشان إحنا عايزين نلغيهم. إحنا مش بنطالب بإصلاح قوانين اللجوء، إحنا بنطالب بإلغاء الحدود. وبنصدق في الفعل المباشر، اللي معناه إننا على قدر اﻹمكان نتصرف زي ما تكون المؤسسات دي والحدود دي وسلطة الدولة نفسها مش موجودة. في النهاية دا بيفتح على استراتيجية السلطة المزدوجة: إحنا بنحاول نأسس مناطق معزولة مستقلة بتشتغل بره الدولة والرأسمالية بالكامل في أي وقت ومكان ممكن، وبنبعت دعمنا الكامل للناس في اﻷماكن التانية اللي بتشتغل على نفس الحاجة.

ثوايت: أنت بتميز الماركسية باعتبارها تنظيرية، لكن اﻷناركية بصفتها أخلاق. هل إحنا محتاجين اﻷخلاق أكتر من النظرية؟

جريبر: يعني، المنظرين اللي ما عندهمش أخلاق ممكن يعملوا شوية حاجات مرعبة جدًا. وإحنا شفنا كتير من دا في القرن العشرين، سواء كانوا ستالينيين ولا نيو-ليبراليين (ولاحظ قد إيه سهل على الواحد إنه يتحول من ناحية للتانية). اﻷخلاق بدون نظرية، على كل حال، مش ممكن تحصل أبدًا. أقصد طبعًا ممكن ندعي كدا، لكن نظرتك في أي ناحية على العالم بتستبطن وجود نظرية ما بخصوصها، وأنت لو مش بتطبق أي نوع من النظرية النقدية على العالم، على اﻷقل ضمنيًا، فأنت راح تنتهي ﻹعادة الافتراضات المهيمنة في الوقت الحالي اللي هي نيوليبرالية في حالتنا دلوقتي في الأغلب. ورغم كدا، أنا بلاقي نفسي متفق مع جون هولواي في دا: النظرية النقدية الكويسة مش بتبدأ من سلسلة من الافتراضات عن العالم، من تأمل من واحد واقف بعيد، أو من التفكير إزاي ممكن الحاجات تبقى أحسن، لكن من الشعور الفطري إن فيه حاجة حقيقي غلط. هو سماها "الصرخة"، واللي هو تعبيره الغريب الخاص، لكنه مش تعبير وحش. أنت بتبص على العالم وبيكون أول رد فعل ليك هو الرعب. على اﻷقل لناس كتير مننا، وربما يكون لأغلبنا، العالم مكان مفزع، وبعدين بتبدأ تنظر في محاولة إنك تفهم ليه دا حاصل. في اﻷول واﻵخر هي فطرة أخلاقية، نوع من الحدس، اللي بياخدك على الطريق للتنظير قبل أي شيء، وأعتقد إنه مهم إننا ما نفقدش رؤيتنا لدا.

ثوايت: هل دا بيتقاطع مع اهتمامك في توحيد اﻷفكار عن القيمة عند مارسيل موس وكارل ماركس؟

جريبر: عارف! أنا عمري ما فكرت بجد في المسألة دي بشكل واضح كدا! يعني، آه، موس كان زي ما يكون مفكر أخلاقي، وفي دا كان أقرب كتير للأناركيين، بس ماركس كان بالتأكيد شايل من النقد اﻷخلاقي للرأسمالية (في مقابل نقده "العلمي")، حيث إنه ما اعتبروش غير أخلاق برجوازية صغيرة. ما نقدرش نفكر برّه النظام، أو زي ما قال: أفضل حاجة نقدر عليها إننا نلاحظ تناقضاته الداخلية. برؤيتنا الحالية، باين من السهل إننا نشوف قد إيه دا كان ساذج قوي: فكرة إن ممكن يكون فيه معالجة موضوعية وعلمية للمشاكل الاجتماعية هي بنفس القدر من إنتاج العادات الرأسمالية في التفكير، وفي الواقع، أكتر بكتير من لو فكرنا في ساعاتي سويسري من القرن التاسع عشر بيقرا باكونين اللي حسّ إن الشغل باﻷجرة صفقة وحشة وبالتالي فضّل إلغاء نظام اﻷجرة. إحنا عندنا الفرصة كلها عشان نلاحظ فين بتودينا النفعية الباردة في الجري على الثورة. عشان كدا موس هو اللي اقترح (زي منافس ماركس اﻷناركي) إن فيه مبادئ أخلاقية معينة ما هياش مجرد منتجات لفترة اجتماعية اقتصادية معينة، لكنها أساسية في اﻹنسانية، وراح تفضل موجودة بدرجة ما أو بأخرى في أي فترة من التاريخ، سواء كانت إقطاعية ولا رأسمالية ولا أيًا ما كانت. عشان كدا موس أكد على الهبة. الشعور بالواجب إنك تهادي حد أو ترد له الهدية مفروض إنها نتاج عادة قديمة في التفكير، حاجة تقدر تلاحظها في جزر تروبرياند ولا في الملاحم اﻵيسلاندية، بس في الواقع، لو إنك عزمت اقتصادي بيدعو للسوق الحرة على العشا، فهو برضه راح يعمل معاك كدا: ﻹنه راح يحس إنه من الواجب عليه إنه يعزمك على العشا بره، حتى لو كانت نظريته بتقول له إنه مفروض يبقى سعيد عشان آخد حاجة من غير مقابل. فحتى من وجهة نظر موسية، افترض إنك تقدر تقول إن بدل ما فيه نظام شامل واحد في فترة ما بيحدد كل شيء -الرأسمالية، أو الحداثة، أو أيًا ما كنت عايز تسميه- فيه شوية عناصر صغيرة، وأشكال أساسية من العلاقات الاجماعية جاية بأخلاقها الخاصة. فيه التبادل الندّي - اللي ممكن يكون في شكل سوق أو يكون في شكل هبة، ودول بيدوا معنى الاستقلال. وبعدين في أشكال تانية من علاقات الهبة برضه: على سبيل المثال، علاقات هرمية، واللي هي مش ندّية على اﻹطلاق. إذا أنت إديت حاجة لشحات ولا لعيّل، فانت مش مستني حاجة في المقابل، دا اللي في العادي بيعتبر من قبيل العرف والناس راح تتوقعك إنك تديهم تاني لو شفتهم تاني، ﻹن مفيش افتراض للمساواة بينكم. الهدايا من الفلاحين للأمرا اﻹقطاعيين مشيت بنفس المنطق. وبعدين فيه العلاقات الشيوعية، من كل واحد بحسب قدرته، لكل واحد بحسب حاجته. إحنا بنعامل قرايبنا وأقرب أصحابنا بالطريقة دي. والسؤال: إزاي كلهم يفضلوا مع بعض، وأنا بارد إن العلاقات الرأسمالية الحقيقية مش متعممة قوي في اللي بنسميه النظم الرأسمالية. أغلب الناس اللي شغالين في شركة رأسمالية بيتصرفوا زي الشيوعيين، على اﻷقل مع بعضهم. (يعني مثلاً لو حد قال لزميله "إديني المفك دا"، زميله مش حَ يقول له "تديني كام عشان تاخده؟") من وجهة النظر دي، الرأسمالية مش نظام شامل، دي هي طفيلية على الشيوعية وطول عمرها كدا.

ثوايت: انت جايب سيرة مقالات روبرت جريفز الراديكالية في كتابك. أنا ما كنتش عارفهم، احكي لي عنهم أكتر.

جريبر: ياه! جريفز كان شخصية عجيبة قوي، كنت باحب شغله لما كنت صغيّر. من الناحية السياسية، كان رايح في كل حتّة، بعض أفكاره كانت رجعية تمامًا، حاجات تانية كانت راديكالية بحق. لما بارجع أبص لها بافكر إن اللي حقيقي شدني ليها كانت التسلية الهدامة الخالصة لواحد حسّ إنه مش لازم يحترم الحكمة المُنزلة في أي حاجة. كانت يكتب مقالات عن شعرا مشهورين ويقول قد إيه همَّ وحشين. فمثلاً، إذا اتكلمت عن اﻹلياذة، ليه ما حدش خد باله إنها قصيدة هجاء؟ أنا قصدي، منطقي جدًا إنها مفروض تبقى كدا. 

تخيل إنك شاعر، راجل عندك مشاعر حسّاسة، وعايش في أول العصر الحديدي لليونان والطريقة الوحيدة إنك تاكل بيها عيشك إنك تتغنى بمديح شوية بلطجية سكرانين، طيّب، طبعًا أنت راح تتريق عليهم، بس راح تخليها مخفية كفاية لدرجة إنك إن اﻷغبيا مش راح ياخدوا بالهم منها ويغزوك بالسيف. فهو بيشاور: ليه ما حدش خد باله إن الناس دي بتتصرف عكس ألقابها بالظبط؟ أوديسيوس دايمًا هو الحقاني، لكنه الراجل اللي بيكدب ويقتل بدم بارد. نستور دايما المستشار الحكيم، لكن باين ما حدش خد باله إن كل مرة في اﻹلياذة لما نستور بيدي نصيحة والناس بتاخد بيها، دايما بتبقى أسوأ حاجة ممكن أي حد يعملها وبتنتهي بكارثة كاملة، وكمّل على كدا. فقام جريفز ترجمها على إنها كوميديا وفي الحقيقة طلعت مسخرة. بس الحق النقطة دي أذهلتني، عشان لو كانت صح، فهي بتدي درس مهم عن طبيعة السخرية وهو إنه السخرية مش بتعمل أي فرق، أو في العادي مش بتعمل فرق. وأنا قلت دايما إن الفرق بين إنك تقول "السكان اﻷصلين بيعملوا كدا" و"*السكان اﻷصليين* بيعملوا كدا" مش موجود. لكن دا مثال أحسن: آدي واحد كتب هجاء ساخر في العصر الحديدي لمجتمع ما، وخدنا حوالي تلات آلاف سنة عشان أي حد ياخد باله. (مرة قلت الحكاية دي لواحد من اللي بيوافقوا على كل حاجة عرضًا وكما تتوقع كان مبهور). لكن كل مقالات جريفز كانت كدا، وهو بيحاول يثبت إن رموز زي فيرجيل ولا مليتون كانوا شعرا وحشين بجد. واحدة من المقالات المفضلة ليَّ على طول كانت بتعيد التفكير في إزاي مليتون كتب قصيدة الليجرو، واللي هوَّ بيبدأها بالكتابة عن حلابة البقر، وبعدين أدرك إن أبوه مش هيوافق عليها فقام قلبها لحورية، وبعدين أدرك إنه استعمل القافية دي قبل كدا فقام مكمل في حشو ما لوش معنى، وخد من دا كتير.. وعلى نهاية المقال أثبت، ليَّ على اﻷقل، قطعيًا إن قرب نهاية القصيدة ورق مليتون دخل في بعضه ودا سبب إن القصة اللي كانت مفروض تبقى عن غول أسطوري اتنسبت لفرخة وبرضه تعدي عشروميت سنة وما حدش ياخد باله. وأفكاره السياسية كانت برضه غريبة بنفس الدرجة: زي ما لاحظت في كتاب الشذرات، باين إنه هو اللي اخترع النزعة البدائية (النوع اللي بيستنى الانهيار الصناعي باعتباره حماية للكوكب وبيؤدي لميلاد مجتمع جديد بتكونولوجيا معقولة ومحدودة) والنسوية اللي بتقدس اﻵلهة الستات، وفي نفس الوقت، ما حدش كان عايز يشوفه باعتباره أبو الأفكار دي بشكل ما عشان من المستحيل تعرف إذا كان رأيه جد. ودا مضحك عشان باين ليَّ إن كتير من السير اﻷدبية مفتقدة النقطة دي تمامًا. همَّ بيعاملوه زي ما يكون راجل خيخة مهووس بالستات اﻷقويا الشديدة وبيبرر لدا بافتكاس الميثولوجيا الغريبة دي، لكن لو أنت بس قريت مقالاته، تلاقي نفسك على طول قدام راجل من الواضح إنه جي ينسبط زي أي واحد ممكن ينسبط في مجال اﻷدب، بيقول اللي هوَّ عايزه في أي وقت مهما كان غير مقبول، مش بيحترم أي حاجة إلا حبه للستات (وهمَّ كتير عمومًا). ونتيجة دا إنه مفكر فوضوي على اﻵخر. أنا قضيت سنين مراهقتي باحاول أفهم نظامه، بما إنه أصر على إن عنده واحد، وبعدين حسيت إني واقع في نكتة ودا كان أفضل كتير.

عارف! أنا بافكر في دا دلوقتي، وما كنتش فكرت في كل دا قبل كدا بجد، لكني بافكر إن الشخصيات اللي باحبها حقيقي مش متمردة بالظبط، التمرد دايما بيساهم في استدامة الوضع الراهن، بنفس الطريقة اللي المظاهرة، مثلاً، بتوحي على مستوى ما إنك بتعترف بسلطة الناس اللي أنت بتتظاهر ضدهم. إذا مشيت في الشارع بتلّوح بيافطة بتقول "الحرية للصحفي موميا أبو جمال" أو "انقذوا الحيتان"، تبقى أنت بتكلم مين؟ هل أنت بتنادي على جورج بوش عشان يعمل كدا؟ ممكن آه، وممكن ﻷه، أنت مش عايز تفكر بجد إنها كدا، وعشان كدا بتخلي جهات المخاطبة نحويًا غامضة، لكن برضه في النهاية، أنت تقريبًا بتنادي اللي في السلطة إنهم يكفوا شرهم ولا يمشوا عدل ودا اعتراف بسلطتهم. ودا السبب اللي بيخلي اﻷناركيين بيرفضوا منطق التظاهر وبيفضلوا الفعل المباشر، واللي معناه اﻹصرار على حقك في الفعل كما لو كنت حر فعلاً. إذا حد اتصرف غلط فأنت بتوقفه، وبطريقة اللي تتمنى أي حد يتصرف بيها في مجتمع حُر وعادل، واللي هو لو مش ممكن بطريقة سلمية على اﻹطلاق، لكن برضه، إذا شوية ظباط اتدخلوا، فأنت مش بتعاملهم كأنهم سلطة، لكن بتعاملهم زي ما يكونوا شوية رجالة لابسين بدل زرقا ومعاهم سلاح، يعني عصابات بلطجية من الشوارع. على أي حال، دا اللي بيعجبني في ناس زي جريفز، إنه ساب اللعبة وطلع منها، بدل ما يتمرد أصر بالظبط على حقه الخاص في إنه يعمل العالم اللي بيفضله، وإنه يصدر أحكامه على أي حاجة، وإنه يتصرف كما لو إن بنيات السلطة مش موجودة. قلت لي ميلتون؟… هممم مش شاعر كويس هو؟ شكله سكيلتون.. هيكل عظمي يعني، كدا أحسن! اﻹلياذة؟ قصيدة هجاء بوضوح، اﻷوديسة؟ عظيمة، بس اللي كتبهم مش واحد، واضح إن اللي كتبها ست. أعتقد إنه النسخة الثقافية من اللي أحب إني أعمله بنفسي في السياسة.

ثوايت: وإزاي مدغشقر؟ أنا عارف إنك كنت عملت كتير من الشغل الميداني بتاعك هناك. إزاي لقيت "العيشة وسط البدائيين"؟

جريبر: الناس اللي عرفتهم في مدغشقر ما كانوش بأي معنى بدائيين، كانوا فقرا صحيح، بس متعلمين كويس، إذا شرحت لمزارعين رز إني جي عندهم بسبب شغلي على دكتوراة في اﻷنثروبولوجي، بالتأكيد راح يكونوا فاهمين اللي قصدي عليه بالظبط (ويمكن شوية منهم يسأل عن سني، حيث إنهم شغالين بالنظام الفرنساوي، وافترضوا إني شغال على دورتي الدراسية التالتة اللي عادة بتوصلها في عمر اﻷربعين)، لكن بتعبيرات مادية، أغلب الناس عندها أكل وبيت كويس ومفيش غير كدا. وافترض من وجهة نظر سياسية، اللي كان مثير للاهتمام إن سلطة الدولة ما كانتش موجودة في أغلب أرياف مدغشقر في الوقت دا: مفيش حد بيدفع الضرايب والبوليس مش راح يوصل لك على أي حال إلا لو كنت ساكن جنب الطريق السريع. الموضوع خد مني تقريبًا نص سنة عشان أفهم إن الناس بتدعي إن الحكومة لسه موجودة، أقصد إن هناك فيه مكاتب حكومية والناس بتروح وتملى استمارات، بل كل دا شكل من بره. ودا سبب إنه كان نظام ذكي بطريقته. ورغم كل حاجة، كان السحر هو اللي انتهيت لدراسته، وطقوس الدفن، طقوس (فاماديهانا) الشهيرة اللي الناس بياخدوا فيها جتت أجدادهم من القبور ويعيدوا لفهم في أكفان من حرير، والملبوسين، والخناقات اللي ما بتخلصش حولين التاريخ بين أحفاد ولاد الذوات وأحفاد العبيد. شيء مضحك: كل دا شكله يبان غريب لكنه مش غريب بجد لما تكون هناك. هما مجرد ناس عاديين، زي ما بتشوفهم في أي مكان، بيحبوا يقعدوا مع بعض يشربوا ويقولوا نكت حلوة، واللي في أكتر اﻷحوال مختلفين عن بعضهم أكتر ما هم على بعضهم مختلفين عن الناس في إنجلترا وأمريكا، غيرش اللي حصل إنهم عايشين في عالم كل الناس التانيين فاكرين إنهم قادرين يصعقوك بالبرق أو يغروك بسحر الحب أو يجننوك بتلبيسك جن شرير، ودول مش هتعرفهم أبدًا عشان أغلب الناس اللي بيقولوا إنهم قادرين على عمل حاجة زي كدا كدابين طبعًا.

ثوايت: إيه كتابك المفضل (سردي وغير سردي)، ومين مؤلفك المفضل (منظر وروائي)؟

جريبر: هممم، ذوقي مش ثابت في ناحية، أنا كنت معجب بتوماس بينشون في الكلية، لما رحت مدغشقر، كنت باقرا كتير لدوستويفسكي (وجوجول برضه). وكان ليهم تأثير عليّ، كنت متأخر شوية لما وأنا باقرا أطروحتي أدركت، "استنى! دي مش إثنوغرافيا! دي حاجة بين اﻹثنوغرافيا ورواية روسية طويلة". ودا واحد من أسباب إنها خدت وقت طويل عشان تتنشر ﻹن الناشرين اﻷكاديميين مش بيحبوا الكتب الكبيرة. وبعدين أنا طول عمري معجب بالخيال العلمي: أوروسلا ك. لي جوين وستانيسواف لم وفيليب ك. ديك، وأعتقد أن أكتر ديوان شعر مفضل لي ممكن يبقى ورد التوليب والمداخن ﻹي إي كامنجز، أو واحد بينهم، ﻹني باحب برضه ويليام بليك، وشعراء النثر الروسيين السخفا زي دانيال خارمس، لكني معجب كبير بشوية من القصص الشعبية: تقريبًا حفظت حوالي تلاتين قصة مختلفة عن الملا نصر الدين جحا، وكانوا أحسن من القصص الشعبية الماجالاشية الهدامة (واللي وصلتني ليها في اﻷول) عن كل العيال اللي اتحايلوا على ربنا. ذوقي في النظريات برضه ما بيثبتش في حتة، يمكن الشخص اللي شدني للأنثروبولوجيا كان إدموند ليش، هو كان برضه نموذج من غرابة جريفز، مالوش أي دعوة بأي حاجة، دايمًا بينجح في إنه يطلع بحاجة عبقرية ومذهلة عمومًا عن طريق تجاهل اللي مفروض تبدأ منه واللي مفروض تقوله. لكن في سنة التخرج كنت مجذوب لتيري ترنر، واحد من أكتر المنظرين الماركسيين عبقرية اللي عندهم نظرية كاملة عن كل حاجة بس لسبب ما ما اتنشرلوش، والمشرف بتاعي، مارشال سالنز.

ثوايت: وإيه اللي انت شغال عليه دلوقتي؟

جريبر: شوية حاجات، كتابي عن مدغشقر طالع في يونيو وعندي كتاب من مجلدين عن إثنوغرافيا الفعل المباشر اللي بادور له على ناشر. لكن في الوقت الحالي، أنا باشتغل باﻷساس على تاريخ فكرة الديون. حاسس إنه وقت مناسب إن الواحد يكتب حاجة زي كدا، في النهاية، كل الحكومات الحديثة ماشية بالدين، والاقتصادات الاستهلاكية ماشية بالدين، والعلاقات الدولية ماشية بالدين، لكن مفيش حد حتى بص في إيه الدين دا ولا حتى ايه معنى الفلوس بجد (فيه ناس في اﻵخر بتقول إن الفلوس هي ديون، وناس تانية عندها تفسيرات مختلفة وما حدش بيراجع وراهم). زي ما أكون قاصد بيه إنه يبقى تكملة لكتابي عن القيمة. لكني برضه شغال على كتاب باطور فيه نظرية أناركية عن تحليل النظم العالمية مع صاحبي أندريه جروباتشيك، المؤرخ وعالم الاجتماع اليوجوسلافي، وبدأت اشتغل على مشروع مع شوية من زمايلي من اﻷنثروبولوجيين إننا نرجع لمدغشقر ونبدأ دراسة عن الناس اللي اسمهم زانا-مالاتا اللي انحدروا من القراصنة الكاريبيين اللي استقروا هناك في أواخر القرن السبعتاشر... وشوية مشروعات تانية.

ثوايت: حابب تقول أي حاجة تانية؟

جريبر: شكرا إنكم استضافتوني.. كانت مقابلة ظريفة.