من أسباب توقير الأموات عدم قدرتهم عن الدفاع أو الصد أو حتى التأنيب، أو ربما لأنهم يضربون لنا عبرة نحن الأحياء الذين سننتهي حتمًا إلى موقفهم ذات يوم

أسطرة الموتى؛ أو لماذا نبكي الأوغاد؟

مقال أسماء السكوتي


صورة من مقبرة المجهولين في فيينا، تصوير صامولي شيلكه

يحاط الموتى عادة بالكثير من التسامح والرأفة، إذ قلما يُعلن صراحة أنهم كانوا وقحين أو أشرارًا في حياتهم، ونادرًا ما يُسمع في جنائزهم عبارات من نوعية "خذ الشر وراح" أو "الله لا يرده". بل بالعكس، عادة ما تُعتصر الأذهان بحثًا عن خيرهم القليل إن وجد، أو لاختراع شيء منه إن لم يوجد. وعمومًا، فإن لحظات الاحتضار وما يسبقها من عجز وشيخوخة -ولنتذكر رقة وضعف سي السيد البطريرك في الثلاثية قبل موته- غالبًا ما تسهم في تلطيف أكثر القلوب قسوة، وعقد أكثر الألسنة سلاطة. ومن ثم يجب أن نسأل: ما الذي يضفي على نهاية بشري أيًا كان كل هذه القداسة، بينما تموت أعداد من الذباب والطيور والحيوانات كل يوم دون أن يتحرك لنا جفن؟ لماذا ندعو بالرحمة للأوغاد مهما أدركنا من سيرتهم؟ ما درجة الشر التي يجب أن تتوفر في الميت لتدفع به خارج دائرة التعاطف والحزن؟ وما أقل درجات الجرم والتسلط التي تتيح لميت كحد أدنى قبرًا ومُشيعَين يحملانه إلى مثواه الأخير؟  

تبدو كل هذه الأسئلة "غير لائقة"، وربما لو طُرحت في جنازة لانقلبت كارثة (لنتذكر في هذا السياق الضرب الذي ناله يحيى الفخراني في فيلم الكيف، حين قهقه في جنازة). لكل هذا، لنختبأ وراء ستار النصوص ولنفكر كيف تناول الأدب القديم موضوع الموتى، تحديدًا من منظور نصين: أولهما بعث أمواتًا في العالم الغيبي (رسالة الغفران)، والثاني وعد بأن يعيد ميتًا إلى الحياة فاستباح جثته (المقامة الموصلية). 

غفران؟ 

إن شعر الرثاء لا يختلف عن المدح إلا في أمر واحد: كلاهما يُدللان على محاسن الذات المُخاطبة أو المُتذَكرة، ولكن بعكس الرثاء، غالبا ما يكون المدح أكثر حرارة لأنه مقرون بالطمع والجزاء، بينما لا ينشأ الرثاء إلا من ذكرى، أو عرفان، أو لنقلها صراحة: "تخليص واجب". المادح والراثي إذن سواء، كلاهما يذكر المناقب، لكن أولهما يتلقى جزاءه نقدًا بينما يتلقى الثاني شكرًا وحسنات، طبعًا إذا ما كانت نيته صافية، وإلا.. من يدري؟  

في رسالة الغفران، المكتوبة سنة 424 هـ/1033م، يتوسط المداحون (مطبلاتية الزمن الجميل) الجنة ويتمتعون بثمارها ونسائها (الأعشى والنابغة الذبياني.. إلخ). أين الرثاؤن إذن؟ لا يذكر المعري (ت. 449هـ/1057م) إلا شاعرة رثاء وحيدة هي الخنساء التي نذرت شعرها وعمرها لرثاء أخيها صخر. يبعثها المعري في غفرانه، ليضعها في أطراف الجنة، تحديدًا ملتصقة بسور الأعراف، مشرئبة بعنقها لتتطلع على أحوال أخيها الملقى بالجحيم. هل هذا جزاء المشاعر الطيبة والوفاء للأخوة: التشوف للقاء في الدنيا والعزلة في الجنة! والأكثر من ذلك، أن تتحول المخلصة الوحيدة في النص التي قالت شعرها حبًا ووفاءً إلى مجرد مطية سردية: للانتقال من سعداء الجنة الذين نسوا كل شيء إلى معذبي النار الذين احتفظوا بذاكرتهم الشعرية (امرؤ القيس). 

عمومًا، يبدو أن المعري لم يحفل كثيرًا بالعواطف والأعمال و"الواجب" بقدر ما صب اهتمامه بالأدب والبلاغة، وإلا لماذا أدخل إلى الجنة رأس الشتامين والهجائين: الحطيئة، الذي شتم الناس جميعًا حتى أنه في النهاية لم يجد مادة باقية إلا نفسه، فقال:  

أرى لي وجهًا شوه الله خلقه فقبح من وجه وقبح حامله1 

المضحك أن المعري "غفر" للحطيئة وأدخله جنته بسبب هذا البيت الشعري تحديدًا. لا لسخريته وفكاهته، بل ببساطة "لصدقه" الذي أتاح له أن يسكن أقصى الجنة، جارًا للخنساء التي سكنت حافتها. جاء في النص: 

... فإذا هو ببيتٍ في أقصى الجنة، كأنَّه حفش أمةٍ راعيةٍ، وفيه رجلٌ ليس عليه نور سكّان الجنّة، وعنده شجرةٌ قميئةٌ ثمرها ليس بزاكٍ. فيقول: يا عبد الله، لقد رضيت بحقيرٍ شقنٍ. فيقول: والله ما وصلت إليه إلاَّ بعد هياطٍ ومياطٍ وعرقٍ من شقاءٍ، وشفاعةٍ من قريشٍ وددت أنّها لم تكن: فيقول: من أنت؟ فيقول أنا الحطيئة العبسي فيقول: بم وصلت إلى الشّفاعة؟ فيقول بالصَّدق. فيقول: في أيِّ شيءٍ؟ فيقول: في قولي:  

أبت شفتاي اليوم إلا تكلمُّماً بهجرٍ فما أدري لمن أنا قائله 
أرى لي وجهاً شوَّه الله خلقه فقبِّح من وجهٍ وقبِّح حامله  

رغم شغفه بالشاعر، لا يتورع المعري عن إسكانه أحقر بيوت الجنة، حتى يضفي على نصه شيئًا من الواقعية. ذلك أنه مهما أخذت بالبشر مشاعر الرحمة والأسطرة، إلا أنهم في النهاية، يتمنون آخرة عادلة، ينال فيها كل جزاءه، وإلا لهزُلت [في الدنيا والآخرة معًا]. بعبارة أخرى، قد ندعو بالجنة لبعض الأوغاد، ولكننا سننزعج حتما لو صادفناهم هناك بعد كل الجهد الذي بذلناه لنبقى ما استطعنا "خيرين"! لنعد إلى الحطيئة، وتحديدًا إلى لحظات احتضاره الأخيرة التي يرويها البيهقي في كتابه المحاسن والمساوئ، كالآتي: 

لما حضرت الحطيئة الوفاة، قيل له: أوص للمساكين بشيء، فقال: أوصيهم بالمسألة ما عاشوا؛ فإنها تجارة لا تبور. قيل أوص فقد حضر أمرك، فقال: مالي للذكور من ولدي دون الإناث، قيل له: إن الله عز وجل لم يأمر بهذا، قال: لكني آمر به، فقيل له: أعتق غلامك يسارا الأسود. قال هو مملوك ما دام على ظهر الأرض عبسي.2 

يبدو أن ما أسماه المعري صدقًا –ولنسمه نحن قسوةً وتبلدًا وجفاءً- قد لازما الحطيئة حتى ساعاته الأخيرة. هكذا، بعد أن فشل أو نجح (حسب المنظور) في أن يعمل ولو عملا صالحًا في حياته، يستميت المحيطون به، لجعله يوصي بوصية حسنة أخيرة تنقذه من العذاب، وتنقذهم بدورهم من ورطة ذكراه الشائكة. لكنه كان من العناد بحيث ضيع على نفسه ومخاطبيه كل أمل في ذكرى طيبة، كما ضيع على المساكين وبناته وعبده أي فرصة للربح مادية أو رمزية. هكذا، مات كما عاش كريهًا، وإن حاول المعري إقناعنا بغير ذلك. 

إصبع في الإبط، خير من إصبع في الإست 

قبل سنوات من كتابة الغفران، كتب الهمذاني (ت. 398هـ) مقاماته التي تعرض لحيل الإسكندري النصاب الذي لا قيم له ولا أخلاق، لدرجة أنه في المقامة الموصلية يعبث بجثة ميت واعدًا بإعادته للحياة، يصف الراوي المشهد قائلًا: 

...ودخل الدار فنظر إلى الميت وقد شدت عصابته وسخن الماء ليغسل وهيئ تابوته ليحمل وحيطت أثوابه ليكفن وحفرت حفيرته ليدفن. فلما رآه الاسكندري أخذ حلقه وجس عرقه فقال يا قوم اتقوا الله لا تدفنوه فإنه حي وإنما عرته بهتة وعلته سكتة وأنا أسلمه مفتوح العينين بعد يومين. فقالوا من أين لك ذلك، فقال إن الرجل إذا مات برد إسته وهذا الرجل قد لمسته فعلمت أنه حي، فأدخل كلهم إصبعه في دبره.3 

في سبيل لقيمات أو دريهمات، يُعرّض الاسكندري الجثة لتمثيل جماعي: إذ لا يكتفي بإدخال إصبعه في مؤخرة الميت، بل يدعي عائلته وكل الحاضرين ليحذو حذوه! يبدو هذا الفعل كريهًا إذا ما مورس على حي، فبالأحرى بميت لا حول له ولا قوة (ربما كان هذا سببا من أسباب توقير الأموات لعدم قدرتهم عن الدفاع أو الصد أو حتى التأنيب، أو ربما لأنهم يضربون لنا عبرة نحن الأحياء الذين سننتهي حتمًا إلى موقفهم ذات يوم). لكن، لنعد إلى سياق كتابة هذا النص، القرن الرابع الهجري، العصر الذهبي للأدب الذي ضم الصاحب والمعري والتوحيدي، وفي الآن ذاته زمن الفقر المدقع والجوع والموت. جاء في تجارب الأمم

وفى هذه السنة (أي 334) أفرط الغلاء حتى عدم الناس الخبز البتة وأكل الناس الموتى والحشيش والميتة والجيف وكانت الدابة إذا راثت اجتمع على الروث جماعة ففتّشوه ولقطوا ما يجدون فيه من شعير وأكلوه وكان يؤخذ بزر قطونا ويضرب بالماء ويبسط على طابق حديد ويجعل على النار حتى يقبّ ويؤكل ولحق الناس من ذلك في أحشائهم أورام ومات أكثرهم ومن بقي كان فى صورة الموتى. وكان الرجل والمرأة والصبىّ يقف على ظهر الطريق وهو تالف ضرّا فيصيح الجوع الجوع إلى أن يسقط ويموت. وكان الإنسان إذا وجد اليسير من الخبز ستره تحت ثيابه وإلّا استلب منه، ولكثرة الموتى وأنّه لم يكن يلحق دفنهم كانت الكلاب تأكل لحومهم.4 

من الطبيعي إذن، في عصر انتشر فيه الموت وهان فيه البشر لهذه الدرجة أن تسقط حرمة أجسادهم، وأن تتحول جثة إلى مادة للسخرية. عمومًا، وليرتح ضمير الساخطين على هذه المهزلة اللامشروعة، فبمجيء النهضة وروادها ذوو الأخلاق الفيكتورية المتخمة بـ"الأصول" و"العيب" و"الحشمة"، تغير نص الهمذاني، وتحول إست الميت إلى "إبطه"5، بسبب محمد عبده الذي وعد في مقدمته أن يشير لكل التغيرات التي سيقوم بها في النص ليعفي نفسه مما يُخجل الأديب6، ويحمي قرائه "السذج" مما قد يفسد عقيدتهم، لكنه أخلف في هذه المقامة ولم يشر إلى التغيير الذي ألحقه بالنص، لربما ليحفظ شيئًا من حرمة الميت الباقية. 

إذا كان عبده قد اكتفى باستبدال الإبط بالإست ليخفف من وقع النص، فإن قراء آخرين رفضوا إلا أن يذيقوا الهمذاني شخصيًا شيئًا من الهوان الذي ألحقه بطله بميت الموصل (عمومًا، من يستطيع أن ينتقم من شخصية خيالية؟ كل ما نستطيعه هو الانتقام من كاتبه الحقيقي)، ومن ثم اخترعوا الرواية التالية لوصف وفاة بديع الزمان، جاء في وفيات الأعيان

وسمعت الثقات يحكون أنه مات من السكتة وعجل دفنه، فأفاق في قبره وسمع صوته بالليل، وأنه نبش عنه فوجدوه قد قبض على لحيته ومات من هول القبر.7 

ميتة صادمة، ولكن إذا ما ذُكر أن صاحبها هو كاتب المقامة الموصلية، ما تفتأ أن تتحول إلى ملحة من ملح "سخرية الأقدار"، في تلميح (قاس؟) إلى أن الهمذاني قد نال جزاءه لسخريته من هيبة الموتى. لربما كان من الأسلم الوقوف عند هذا الحد قبل أن ينالني شيء مما نال صاحب الموصلية، "كرد قدري" على سؤال لا تسمح به الثقافة: لماذا نؤسطر الموتى؟ ولماذا من "المفروض" أن نبكي الأوغاد؟ 


[1] أبو العلاء المعري، رسالة الغفران، تحقيق: محمد عزت نصر الله، المكتبة الثقافية، بيروت،1968، 137

[2]  أوردها: إبراهيم بن محمد البيهقي، في المحاسن والمساوئ، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم (القاهرة: دار المعارف، 1906)، ص250

[3]  المقامة الموصلية من مقامات الهمذاني، حققها بلال أورفليه وموريس بومرانز في كتابهما:Bilal Orfali & Maurice Pomerantz, The Maqāmāt of Badīʿ al-Zamān al-Hamadhānī: Authorship, Text, and Contexts (Wiesbaden: Reichert, 2022), 103-6

[4]  ابن مسكويه، تجارب الأمم، ج 6، 128

[5] همذاني، مقامات، تحقيق محمد عبده، ص116

[6]  محمد عبده، "مقدمة"، في: مقامات الهمذاني، ص 4

[7]  ابن خلكان، وفيات الأعيان، ج1، 129


* المقال خاص بـ Boring Books

** تحتفظ الكاتبة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقالها دون إذن منها