لم أنتسب يومًا إلى الحزب الشيوعيّ (ولم أقم يومًا بتحليل ذلك، فقد تهرّبت من هذا الأمر كلّه). كما لم أكن يومًا ماركسيًا قبل الستينات. وما جنّبني أن أكون شيوعيًا هو رؤية ما اقترفه الشيوعيون بحقّ مثقفّيهم.

حوار مع جيل دولوز عن ذكرياته

حوار نشرته للمرة الأولى مجلة لو نوڤيل أوبزيرڤاتور (Le Nouvel Observateur) في ١٦ نوفمبر ١٩٩٥، وكان جيل دولوز قد تحدث قبلها بعامين إلى ديديه أريبون (Didier Eribon)، أحد كتاب المجلة عن ذكرياته، واستحضر عددًا من الوجوه الثقافية البارزة، مثل سارتر وكانجلهيم (Canguilhem) ولاكان وماركس، كما تحدث كذلك عن أعماله المنشورة والقادمة.

ترجمة: وليم العوطة.


عن الكتابة: لا أكتب ضدَّ أحدٍ أو شيءٍ ما. الكتابة، بالنسبة لي، حركةٌ إيجابيةٌ بالمطلق. إنّها قولٌ في ما نحترم وليست عراكًا مع ما نكره. الكتابة من أجل التنديد هي أحطّ مستويات الكتابة.

بالمقابل، صحيحٌ أنّ الكتابة تعني أنّ شيئًا ما لا يعمل في حالةِ المسألة التي نتمنّى أن نعالجها. الحالة التي لا تُقنعنا. لذلك، سأقول: أكتب ضدّ الفكرة الجاهزة. نكتب دائمًا ضدّ الأفكار الجاهزة.

سارتر: كان يمثّل لي كلّ شيء! كان نوعًا من الظاهرة. خلال الاحتلال، كانت [هذه الظاهرة] طريقةً في الوجود في الميدان الروحيّ. هؤلاء الّذين لاموه على عرضه مسرحياته تحت الاحتلال، فلأنّهم لم يقرؤوها. كان يجب مقارنة تأدية مسرحية الذباب مع أداء ڤيردي أمام النمساويين. لقد فهم الإيطاليون كلّهم وصاحوا «براڤو!». كانوا يعلمون أنّ أداءه هو فعلَ مقاومة. بالضبط، هذه هي حالة سارتر.

الكينونة والعدم كان كالقنبلة! ليس كما في الذباب عندما رأينا مباشرةً فعلاً للمقاومة، بل لأنّه كان توهّجًا. كتابٌ كاملٌ، وضخمٌ، من الفكر الجديد. يا لها من صدمة! قرأته عند صدوره. أذكر أنّني كنتُ مع تورنييه (Tournier) وذهبنا معًا لشرائه. وقد التهمناه. استحوذ سارتر على من هم من جيلي. كان يكتب الروايات والمسرحيات، وهكذا، أراد الجميع أن يكتب الروايات والمسرحيات. كان الجميع يقلّده، أو ربّما شعروا بالغيرة، أو بالغضب.. من ناحيتي، فقد أبهرني. كنتُ مبهورًا بسارتر. وبالنسبة لي، توجد جِدّة سارترية لا تنتهي، جِدّة دائمة.

الأمر كما عند برجسون. لا يسعنا أن نقرأ مؤلفًا كبيرًا من دون أن نعثر عنده على جِدّةً خالدة. وإذا كنّا اليوم نعامل برجسون أو سارتر كمؤلفيْن راحلين، فلأنّنا لا نعرف أن نعثر على الجِدّة التي أتيا بها في عصرهما. والاثنان واحدٌ إذا لم نعرف كيف نعثر على جِدة مؤلفٍ في عصره، ويفوتنا أيضًا الجِدّة الخالدة التي يحملها. كما لم نعد نعرف العثور عمّا هو عليه دائمًا. وعليه، هي سيادة الناسخين، وهم أوّل من يرمي في الماضي هؤلاء الّذين نسخوا أعمالهم.

كانجلهيم: عندما نجحتُ في مبارة الدخول إلى دار المعلمّين العليا، كان كانجلهيم هو من أسعفني في الاختبار الشفهيّ للفلسفة. لقد منحني درجةً جيّدة، لكنّها لم تكن كافيةً لأعوّض تأخرّي في المواد الأخرى. رسبتُ، ولكنّني نلتُ ما كانت تُسمّى بمنحة التبريز. ولأنّ اللامركزية كانت قائمة، فإنّ المنحة كانت مخصّصة لجامعيّ من الريف. جان هيبوليت، وكان أستاذي في الكان (Khâgne) [الصفوف الإعدادية العليا الأدبية]، وكان يحبّني كثيرًا، قال لي: تعال إلى جامعة ستراسبورج. كان قد عُيّنَ فيها بعد أن أنهى أطروحته عن هيجل. لم أستقرّ فيها، بل كنتُ أذهب إليها مرةً في الفصل لكي أتقاضى منحتي. وهنا، كنتُ أتابع دروس كانغلهيم. كان يحدّثنا عن مؤلفّين لم نكن نعرفهم، ولم نكن قد سمعنا أحدًا يتحدّث عنهم.

عندما كنتُ أذهب إلى ستراسبورج، وبما أنّني لم أقم فيها، كنتُ أراه كثيرًا. كان لديه مجموعة تحيط به، وصرت، من ثمَّ، جزءًا منها. كان يهمنّي أمره كثيرًا، وكذلك دروسه وكتبه. في الحقيقة، تبوّأ كانجلهيم مكانةً عالية عند كلّ الأجيال التي مرّت به، من جيلي فصاعدًا. حتّى أنّنا نستطيع القول بأنّه كوّنها كلّها، أو تقريبًا كلّها.

لاكان: لقد كشف عنّي عندما كان يقدّم جلسةً في محاضرته عن كتابي عن زاخر مازوخ. قيل لي، ولكنّني لم أعرف أبدًا المزيد عن ذلك، إنّه تكلّم ساعةً تقريبًا عن كتابي. ولاحقًا، أتى ليشارك بمؤتمرٍ في ليون، حيث كنتُ أدرّس حينها. قدّم لنا عرضًا مذهلًا جدًا.. وعندها أطلق صيغته الشهيرة: «يمكن للتحليل النفسيّ فعل كلّ شيءٍ إلاّ أن يجعل أحمقًا ما ذكيًا». بعد المؤتمر، أتى للغداء عندنا، ولأنّه يخلد إلى النوم متأخرًا جدًا، بقيَ وقتًا طويلاً. أتذكّر: كانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل عندما كان بحاجة فعليًا إلى ويسكي. كانت تلك الأمسية كابوسًا حقيقيًا. لقائي الأوحد والمهمّ معه حصل بعد ظهور نقيض-أوديب. أنا واثقٌ أنّه أساء فهمه، ولا بدّ أنّنا، فليكس وأنا، قد أغضبناه. ولكن، في نهاية المطاف، وبعد بضعة أشهر، استدعاني –لا أجد كلمة أخرى– لأنه تمنّى رؤيتي، وذهبت إليه. جعلني أنتظر في غرفة الاستقبال حيث احتشد الكثيرون، ولا أعلم إن كانوا من المرضى، أو المعجبين، أو من الصحفيين. جعلني أنتظره كثيرًا، كثيرًا جدًّا حتّى، وفي النهاية استقبلني. استعرض أمامي لائحةً بكلّ مريديه [تلاميذه] قائلاً أنّهم كانوا جميعهم نكرة (فقط جان آلان ميلر لم يتحدّث عنه بالسوء). كنت أضحك لأنّني تذكّرت بنزفانجر (Binswanger) عندما روى مشهدًا شبيهًا: تكلم فرويد أمامه بالسوء عن جونز، وأبراهام.. وكان بنزفانجر خبيثًا بما يكفي ليعتقد بأنّ فرويد سيقول عنه الأمر عينه عندما لا يكون حاضرًا. إذًا، تكلّم لاكان عنهم، وجميعهم رحلوا عن الحياة، باستثناء ميلر. ومن ثمّ قال لي: ما أنا بحاجة إليه هو شخصٌ مثلك.

ألف هضبة: هذا الكتاب هو أفضل ما أنتجناه معًا، فليكس وأنا. وهو أفضل ما كتبت. نعم، يمكنني القول أنّه، بدون شكّ، أفضل ما كتبت. لم ينل نجاحًا، ولكنّه كان كتابًا جميلاً، على ما أعتقد. لماذا لم يصب نجاحًا؟ ربّما لأنّه كان ضخمًا. ومن ثمّ، وبالتحديد، لم تكن فترة ظهوره كذلك بعد.

مايو ٦٨: كانت تلك الفترة في غاية الإثراء للنظرية. إذا تحدثتُ عمّا عشته طوال حياتي، لقلت إنّه، في البداية، كانت فترةٌ فقيرةٌ جدًا، وأريد هنا أن أتكلم عن الحرب طبعًا. بعد الحرب، حدث انفجارٌ ثقافيٌّ وفكريٌ مذهلٌ. ومن ثمّ، فترة تصحّرٍ في الخمسينات. وأخيرًا، خروجٌ من الصحراء، ومن جديد، عصرٌ قويٌّ جدًا في الستينيات (الموجة الجديدة في السينما، وفي النظرية، ولنقل اختصارًا، فوكو ولاكان). في تلك اللحظة، كان عصرًا مكتظًا. ومن ثمَّ، في الوقت الحاضر، الصحراء من جديد. ولكنّه ليس بوضعٍ لا رجعة فيه. ويجب تمييز حالتين: بالنسبة إلى من  في حوزتهم بعضٌ من الأعمال، لا توجد مشكلاتٌ كثيرة، وبمقدورهم الاستمرار بالكتابة، وتجاوز الصحراء. ولكن، بخصوص الأصغر سنًّا، فالأمر كارثيّ: وصولهم صعبٌ، إذ من الصعوبة بمكانٍ أن يولد المرء في فترة من التصحّر. وبالنسبة إلى شابٍ لديه جديدٌ ليقوله، فالوضع، حقًّا، في غاية القسوة.

ما كان على قدرٍ كبيرٍ من الأهمية في تلك المرحلة التي نتحدّث عنها، أي الستينيات، ومايو 68، والأعوام القليلة التي لحقتها، وهي التي، حقيقةً، انتهت اليوم، ما كان كذلك هو ما كنت أسمّيه «الاشتغالية الجديدة» التي لم تكن سوى وحدةً واحدةً مع الفلسفة المُتصوَّرة كنشاطٍ خلاّق للمفاهيم. تعلّق الأمر بخلق مفاهيم تشتغل في حقلٍ اجتماعيّ معطى. في حالة فوكو، الأمر بديهيّ لأنّه كان أكثر من ذهب بعيدًا في خلق المفاهيم تلك، مع مقولاتٍ مثل «المجتمع الانضباطيّ»، وهو ما أراه مفهومًا أساسيًا. كانت مفاهيم تشتغلُ في حقلٍ محايَثةٍ، وهو ما كان يعارض شيئين من وجهة نظر التقليد الفلسفيّ: اللجوء إلى التعاليّ وإلى مفهومٍ تفكّريّ [تأمّليّ] للفلسفة (الفلسفة التي تفكّر في).

في الفترات الفقيرة، كما في حاضرنا، دائمًا ما نجد إحياءً للتعاليّ وعودةً إلى الفلسفة متصوَّرة كـ«تفكّرٍ في». هي، أيضًا، عودةٌ إلى الفلسفة الجامعية. إذًا، الآن، هذا ما يجب العثور عليه من جديد: الفلسفة بما هي خلق [إبداع]. لا تفكّرًا في، بل خلقًا لمفاهيم. لا سعيًا لاكتشاف تعاليات، بل العمل على تشغيل مفاهيم في حقولٍ محايَثة.

ماركس: لم أنتسب يومًا إلى الحزب الشيوعيّ (ولم أقم يومًا بتحليل ذلك، فقد تهرّبت من هذا الأمر كلّه). كما لم أكن يومًا ماركسيًا قبل الستينات. وما جنّبني أن أكون شيوعيًا هو رؤية ما اقترفه الشيوعيون بحقّ مثقفّيهم. ومن ثمَّ أيضًا، عليّ أن أذكر أنّني لم أكن ماركسيًا، لأنّني لم أكن، في قرارة نفسي، أعرف ماركس في الفترة هذه.

قرأتُ ماركس حين كنت أقرأ نيتشه. وجدتُ ذلك أمرًا رائعًا. وبالنسبة لي، هي مفاهيم صالحة دائمًا. يوجد في داخلها نقدٌ، نقدٌ جذريٌّ. يخترقُ ماركس، والماركسية؛ نقيض-أوديب وألف هضبة بالكامل. اليوم، بمقدوري القول إنني أشعر بأنّني ماركسيٌ بالتمام والكمال. المقال الذي نشرته عن «مجتمع التحكّم» ماركسيٌ بالكامل، ومع ذلك، أكتب عن أشياءٍ لم يكن ماركس يعرفها.

لا أفهم ماذا يعني الناس عندما يقولون إنّ ماركس كان مخطئًا، وكذلك حين يُقال إنّ ماركس قد انتهى. توجد اليوم تحدياتٌ طارئة: يجب علينا تحليل السوق العالمية، وما هي تحوّلاتها. ولأجل ذلك، يجب المرور بماركس.

كتاب: كتابي القادم، وسيكون الأخير، سيُسمّى عظمة ماركس.

الرسم: اليوم، لم أعد أرغب بالكتابة. بعد كتابي عن ماركس، أعتقد أنّني سأعزم على التوقّف عن الكتابة. حينها، سأنكبّ على الرسم.


الترجمة خاصة بـBoring Books.

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.