قصة لبيتر بيكسل
ترجمتها عن الألمانية: شيري منتصر
* بيتر بيكسل كاتب وصحفي سويسري، ولد عام 1935، حاز على عدة جوائز من بينها جائزة جماعة 47 في 1965. وجائزة ألمانيا لكتب الشباب في عام 1970، واهتم في قصصه بالمشاعر الأساسية للعصر الحديث من ملل وخوف ووحدة وفقدان للتواصل. من أشهر أعماله «في الواقع ترغب السيدة بلوم في التعرف على بائع اللبن».
الترجمة خاصة بـ Boring Books
تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا ما تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها.
أريد أن أحكي عن رجل عجوز، عن رجل لم يعد ينطق بكلمة ولديه وجه متعب، أكثر تعبًا من أن يبتسم، وأكثر تعبًا من أن يغضب، ويسكن في مدينة صغيرة، على نهاية الشارع أو بالقرب من التقاطع. بالكاد لا يهم وصفه، فلا شيء يميزه عن الآخرين. يرتدي قبعة رمادية، وبنطلونًا رماديًا، وسترة رمادية، وفي الشتاء يرتدي معطفه الطويل الرمادي. ويملك عنقًا نحيلًا ذا جلد متغضن وجاف، حيث ياقة قميصه البيضاء واسعة جدًا بالنسبه له.
غرفته في الطابق العلوي من المنزل، ربما كان متزوجًا ولديه أبناء، وربما في الماضي سكن في مدينة أخرى، وبالتأكيد كان طفلًا في يوم ما، ولكن كان ذلك في وقت حيث الأطفال يرتدون كما البالغون، هؤلاء تراهم في ألبوم صور الجدة.
في حجرته كرسيان وطاولة وسجادة وسرير ودولاب. وفوق الطاولة الصغيرة منبه، بجانبه الصحف القديمة وألبوم الصور، وهناك على الحائط مرآة وصورة.
في الصباح يذهب الرجل العجوز للتمشي، بعد الظهر يتمشى أيضًا، متحدثًا بقليل من الكلمات مع جاره، وفي الليل يجلس حول منضدته. وذلك لم يتغير أبدًا، حتى في أيام الآحاد، وحينما يجلس حول منضدته، يسمع تكتكة المنبه، دائمًا تكتكة المنبه.
ثم كان هناك يوم مميز، يوم مشمس ممتلئ بزقزقة العصافير، ليس شديد الحرارة وليس شديد البرودة، حاشد بأناس ودودة، وبأطفال يلعبون، وكان مميزًا بالخصوص أن الرجل فجأة أعجب بكل شيء.
فابتسم.
«الآن سيتغير كل شيء» فكر في نفسه، وفك الزر العلوي من قميصه، حمل قبعته في يده، وأسرع في مشيته، بل وكان متراقصًا في حركته وسعيدًا، ذهب إلى شارعه، وحيا الأطفال برأسه، وراح أمام منزله، صعد السلم وأخرج المفاتيح من جيبه وفتح باب غرفته.
ولكن في غرفته كان كل شيء كما هو، طاولة، وكرسيان، وسرير، وبينما كان يجلس، سمع من جديد تكتكة الساعة، وكل السعادة مضت؛ لأن شيئًا لم يتغير، وشعر بالغضب الشديد، ورأى وجهه في المرآة محتقنًا بالدماء، ورأى كيف يضيق عينيه، ثم ضم أصابعه إلى قبضتين ورفعهما وضرب المنضدة، أولًا كانت ضربة، ثم الأخرى، ثم توالت الضربات فوق المنضدة وهو مستمر بالصراخ: «يجب أن يتغير شيئًا»، ثم لم يعد يسمع تكتكة الساعة وبدأت تؤلمه يداه ويتهدج صوته، ومن جديد سمع المنبه، ولم يتغير شيئًا.
«دائمًا نفس الطاولة»، قال الرجل، «نفس الكرسيين، والسرير، والصورة. وللطاولة أقول طاولة، وللصورة أقول صورة، والسرير يسمى السرير، والكرسي يسمى الكرسي، لِمَ هذا؟!
الفرنسيون يسمون السرير ‹لي›، والطاولة ‹تابل›، والصورة ‹تابلو›، والكرسي ‹شيس›، ويفهمون بعضهم البعض! والصينيون يفهمون بعضهم البعض أيضًا. لِمَ لم يُسمَ السرير ‹صورة›؟!»
فكر الرجل وابتسم، ثم ضحك، وضحك حتى خبط الجيران على الحائط وصرخوا «اصمت». «الآن يبدأ التغيير» قال الرجل، ومن الآن سمى السرير «صورة».
قال «أنا الآن نعسان، سأذهب إلى الصورة»، وفي الصباح بقي لوقت طويل في الصورة، مفكرًا، بماذا يسمي الكرسي، وقرر تسميته بالمنبه، وبين الحين والآخر كان يحلم بلغته الجديدة، ثم يترجم أغاني أيام دراسته إلى لغته الخاصة، ويرددها لنفسه بهدوء.
فقام وارتدى ملابسه، وجلس على المنبه ساندًا ذراعيه على الطاولة، ولكن الطاولة لم تعد تسمى منذ الآن طاولة، بل سجادة. وفي الصباح ترك صورته وارتدى ملابسه، وجلس حول السجادة على المنبه مفكرًا، لمن وبأي شيء يسميه.
سمَّى السرير صورة.
وسمَّى الطاولة سجادة.
وسمَّى الكرسي منبهًا.
وسمَّى الجريدة سريرًا.
وسمَّى المرآة كرسيًا.
وسمَّى المنبه ألبوم صور.
وسمَّى الدولاب جريدة.
وسمَّى السجادة دولابًا.
وسمَّى الصورة طاولة.
وسمَّى ألبوم الصور مرآة.
في الصباح بقي الرجل العجوز طويلًا في صورته، وفي التاسعة دق ألبوم الصور، فنهض ووقف على الدولاب حتى لا تتجمد قدماه، ثم أخرج ملابسه من الجريدة ولبسها، ونظر إلى الكرسي المعلق على الحائط، ثم جلس على المنبه حول السجادة، وقلَّب في المرآة حتى وجد طاولة أمه.
شعر الرجل بالمرح، وظل يتدرب طوال اليوم ويحفظ الكلمات الجديدة؛ والآن كل شيء أُعيد تسميته: فلم يعد منذ الآن رجلًا، بل قدمًا، والقدم صارت صباحًا، والصباح صار رجلًا.
والآن يمكنكم الاستمرار في كتابة القصة بأنفسكم، ثم يمكنكم، كما فعل الرجل تمامًا، استبدال الكلمات الأخرى:
دق الجرس أصبحت وضع.
تجمد أصبحت رأى.
تمدد أصبحت دق الجرس.
وقف أصبحت تجمد.
وضع أصبحت قلَّب.
بعد ذلك تسير القصة هكذا: في الرجل ظل القدم العجوز يدق الصورة طويلًا، وفي التاسعة وضع ألبوم الصور، تجمد القدم وقلَّب نفسه من الدولاب، حتى لا يرى صباحه.
اشترى الرجل العجوز كراسات زرقاء وملأها بالكلمات الجديدة، وكان لديه الكثير ليفعله، فكان نادرًا ما يُرى في الشارع، وحفظ الأسماء الجديدة لكل الأشياء ونسي الكثير والكثير من الأسماء الصحيحة.
أصبح للرجل لغة جديدة تنتمي إليه وحده، لكن سرعان ما أصبحت الترجمة بين اللغتين صعبة، فقد نسي لغته القديمة بسرعة، وكان يحتاج إلى البحث عن الكلمات الصحيحة في كراساته. جعله هذا خائفًا من الحديث مع الناس، فعليه أن يفكر مليًا كيف يسمي الناس الأشياء.
الناس يقولون «سرير» بدلًا من «صورة».
و«طاولة» بدلًا من «سجادة».
و«كرسي» بدلًا من «منبه».
و«جريدة» بدلًا من «سرير».
و«مرآة» بدلًا من «كرسي».
و«منبه» بدلًا من «ألبوم صور».
و«دولاب» بدلًا من «جريدة».
و«سجادة» بدلًا من «دولاب».
و«ألبوم صور» بدلًا من «مرآة».
و«صورة» بدلًا من «طاولة».
ووصل الأمر إلى الحد الذي جعل الرجل يضحك في كل مرة يسمع فيها الناس تتحدث.
فكان يضحك مضطرًا حينما يسمع أحدهم يقول: «هل أنت ذاهب أيضًا غدًا إلى مباراة كرة القدم؟» أو حينما يقول: «إنها تمطر منذ شهرين!» أو «لديَّ عم يعيش في أمريكا».
كان يضحك لأنه لم يكن يفهم شيئًا.
ولكن هذه ليست قصة مضحكة، بل بدأت بحزن وانتهت بحزن؛ الرجل العجوز في معطفه الرمادي لم يستطع فهم الناس مجددًا، لم يكن هذا سيئًا، بل الأسوأ أنهم لم يستطيعوا أيضًا فهمه، ولهذا لم يعد يتحدث مجددًا.
اكتفى بالصمت، وحدث نفسه فقط، بلا تحية لأحد
اقرأ أيضًا لبيتر بيكسل: قواعد اللعبة (قصص قصيرة)
One Reply to “الطاولة هي الطاولة – بيتر بيكسل – قصة قصيرة”
رائعة ومؤلمة