قواعد اللعبة

قصص لبيتر بيكسل*

ترجمها عن الألمانية: أحمد الزناتي

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.

***

بيتر بيكسل عن KOSMOS

يُوصف الكاتب السويسري بيتر بيكسل (24 مارس 1935) بأنه الأسطورة الحيَّة للأدب السويسري المعاصر بحسب الصحافة السويسرية. يكتب بيكسل نصوصًا نثرية قصيرة، عارية من كل مظاهر البلاغة والزخرفة اللغوية، أقرب إلى قصص الأطفال أو الحكايات المدرسية، منها إلى الأدب الرفيع، بسيطة المعنى والمبنى، لا تتجاوز القصة الواحدة صفحتيْن على الأكثر، لكنها تحثّ قارئها على العودة إليها ليكتشف معاني إنسانية نبيلة دسَّها بيكسل في ثنايا قصّته.

على الصعيد الأسلوبي يعد بيكسل نفسه امتدادًا لسلفه وأبيه الروحي الكاتب السويسري الكبير روبرت ڤالزر، فرغم كتابته لأكثر من رواية على مدار حياته الأدبية، يُعرف بيتر بيكسل كاتبًا للقصة القصيرة والمقال الأدبي في المقام الأول؛ وهو الفن الذي برع فيه روبرت ڤالزر.

كما عُرفتْ عنه صداقته الوطيدة بالكاتب والمسرحي السويسري الأشهر ماكس فريش، والتي امتدت من الستينيات وحتى وفاة فريش سنة 1991.

يقول بيكسل عن ماكس فريش: «أضمر احترامًا عظيمًا إلى ماكس فريش بوصفه مثلًا أعلى وصديقًا داعمًا، فريش هو مَن ساعد الأدب السويسري في الوقوف على قدميْن ثابتتيْن. لكن فريش كان شخصية مخيفة، كانت كل لحظة لا يستثمرها في الأدب هي لحظة ضائعة مهدورة. أتصوّر أن فريش كان يسارع إلى تدوين ملاحظات في دفتره بعد مقابلة صديقة جديدة، بينما لا أحمل أنا دفتر ملاحظات ولا أدون يومياتي.. اليوميات تقف بيني وبين الحياة».

(المترجم)

*

قواعد اللعبة

لم يكن السيد كورت ينطق بكلمة واحدة. كان يجلس مراقبًا اللعبة. يرمي اللاعبون الأربعة بالورق فوق المائدة: ورق الآس وورق الملك، ورق الثمانية وورق العشرة، الورق الأحمر فوق الورق الأحمر، والأسود فوق الأسود.

يترك السيد كورت زجاجة البيرة لتكتسب درجة حرارة معقولة. الزجاجة مغمورة في إناء مصنوع من الكروم المملوء بالماء الساخن. بين لحظة وأخرى يرفعُ السيد كورت زجاجة البيرة من الإناء بحرصٍ، تاركًا قطرات الماء الساخن تتساقط، لكنه لا يلبث أن يعيدها إلى الإناء مرَّة ثانية دون أن يـجرع رشفة واحدة، لأنه مشغول بمراقبة اللعب.

للسيد كورت مكانٍ بعينه، لا أحد يعرف لِمَ اختار هذا المكان تحديدًا ولا متى اختاره. يصل يوميًا في تمام الخامسة. يتخذ مقعده عند رأس الطاولة. يلقي التحية فقط متى بادر الآخرون إلى تحيَّته. يطلب البيرة وإناء الماء الساخن.

في تمام الخامسة يأتي اللاعبون الأربعة ليلعبوا الورق. وهم ليسوا بالضرورة الأربعة أنفسهم في كل مرَّة؛ ففي يوم الاثنين يأتي أربعة لاعبون شبَّان، وفي يوم الثلاثاء يأتي أربعة رجال أعمال، وفي يوم الجمعة يأتي أربعة رفاق من أيام المدرسة، دفعة سنة 1911، وفي غير ذلك من أيام الأسبوع يأتي أربعة رجال آخرون.

يجلس السيد كورت دائمًا عند رأس الطاولة. يشرب البيرة، ويبقى جالسًا حتى السابعة مساءً، وإذا كان اللعب مُسليًا ينتظر ربع ساعة إضافية، لكنه لا يتأخر عن ذلك الوقت إطلاقًا. ثمة آخرون يجلسون في المطعم. لكن لا أحد ينتظم في الحضور بصفة يومية، حتى صاحب المطعم لم يكن يظهر كل ليلة، وإجازة النادلة يوم الأربعاء من كل أسبوع.

لا تثير هيئة السيد كورت فضول أحد، لكن ذلك لم يمنع أن الناس قد تعرَّفوا إليه على مدار السنوات.

في دفتر يوميات صاحب المطعم مكتوب: «السيد كورت - 14 يوليو»؛ وهو يوم عيد ميلاده، في هذا اليوم يُهدَى السيد كورت زجاجة بيرة مجانية. رغم ذلك لا يتذكّر صاحبُ الحانة من أين عرف تاريخ ميلاد السيد كورت، ولم يهتمّ أحد بالسؤال عن ذلك. بعد انتهاء اللعب يرمي اللاعبون الأربعة بأوراق اللعب فوق الطاولة، يمسكون بقطعة طباشير ويسجِّلون النتيجة، وعلى الخاسر أن يدفع فاتورة الآخرين.

يحتدم الجدال فيما بينهم حول التكتيك وحول قواعد اللعبة، يتبادلون الاتهامات، يخمنِّون ماذا سيحدث لو لُعبت ورقة «العشرة» أولًا، ثمّ ورقة الملك لاحقًا. يكتفي السيد كورت بإيماءة خفيفة من رأسه، لكنه لم يكن ينطق بكلمةٍ واحدة.

لو لم يكن السيد كورت يعرف قواعد اللعبة جيدًا، لما رأى طوال حياته سوى أوراق لعبٍ سودٍ وحُمر. الأرجح أن السيد كورت كان يعرف لعب الورق، وكان يفهم قواعد اللعبة جيدًا.

في مراسم الجنازة سنعرف كل شيء عن حياة السيد كورت؛ سنعرف سبب وفاته وسنّه، ومحل ميلاده ووظيفته. وربما ستعترينا دهشة حين نعرف هذه المعلومات.

في يومٍ ما سيقول أحد لاعبي الورق في الحانة -وهذا أمر محتوم- أنّه يفتقد السيد كورت بشّدة. لكنه غير صادقٍ فيما يقول، فقواعد اللعبة صارمة لا تتغيَّر.


العـمَّة

تعجَّبَتْ أن صوتًا عذبًا يصدر من الصندوق الخشبي بمجرد الضغط على أحد مفاتيح البيانو. كانت والدتها تجيد العزف على البيانو، بل كانت قد وعدتها أن تعلِّمها العزف، لكن حصة البيانو الأولى ظلَّت تتأخر يومًا وراء يوم، وكلما تأخرَّت دروس البيانو، ازداد تعلُّقها بالبيانو الأسود. صحيحٌ أن الغبار كان يتراكم فوق سطح البيانو اللامع، لكن نفخةً واحدة كانت كفيلة بإزالة الغبار الكثيف.

يبدو البيانو الآن في حالة رثَّة، ذهبتْ لمعة البيانو لما ذهبت الأم، صار الغبار خبيثًا، يحتاج خرقة القماش لإزالته، فإما أن يغطيه المرء بخرقة قماش بيضاء، وإما أن يزيل عنه الغبار بخرقة قماش صفراء. حالت ألوان المفاتيح إلى اللون الأصفر، لكن نغماته أمستْ أعذب وأرقّ. صار مجرّد آلة عجوز، تتقدّم بها السنّ يومًا وراء يوم، ولا تجد مكانًا يسعها، كان يجعل من الأثاث المحيط به كالموائد والمقاعد والسجاجيد شيئًا مثيرًا للسخرية.

أصبح في نهاية المطاف «بيانو الأم»، وهو الاسم الذي لم تطلقه عليه في الماضي قط. لم تُفَرِّط في البيانو، ولم تَبِعه لأحد، ولا سمحت لأحدٍ بالعزف عليه.

لما أعطاها المحامي البيانو باعتباره جزءًا من نصيبها في الميراث، فرحتْ فرحة الفتاة المخطوبة، وبذلك حالت الأم دون وقوع شقاق بين الأخ وأخته، إذ لم يدر بخلد الفتاة قطّ أن شقيقها سيطالب بحقّه في البيانو، لا سيما وأنه متزوج وربّ أسرة.

أما الآن فقد أصبحتْ تملك البيانو، وذكرياتها عن البيانو. راحت تحارب الغبار بقطع القماش، إلى جانب اعتنائها بنظافة المنزل، مُحافظةً على لمعة الباركيه، وعلى قطع الأثاث وعلى فروة السجاجيد.

صارت شديدة الشبه بأمّها، ازداد وزنها، صار وجهها أليفًا مثل وجوه مَن تراهم جالسين فوق مقاعد الكنيسة في أثناء القدّاس، وهو الوجه الذي صار كريهًا لأقاربها.

على ذلك، لم يزرها شقيقها قط.

كانت تتلقى في شهر يناير رسائل شُكر مكتوبة على مضض من أقاربها، ردًا على هدايا عيد الميلاد، التي «أعجبتهم».

كانت تشعر بنفورٍ تجاه الرجال، وكانت تتعجَّب من صبر أمّها على أبيها طَوال هذه السنوات، كما كانت تشتكي إلى جيرانها من الضوضاء التي يشيعها أطفالهم، رغم أنها كانت تحب الأطفال. قبل سنوات تطوَّعت للمساعدة في حضانة أطفال، لكن أعصابها لم تتحمَّل. وفي نادي الأمهات لم يعترض أحد على كونها ما زالت عزباء. كانت تتوق دائمًا إلى الرحلات الخلوية للنادي، وإلى جولات الأتوبيس عبر المدينة وإلى تناول الحلويات.

كانت دائمة الشكوى إلى مسؤول الصيانة في المنزل بسبب ضعف التدفئة في الشقّة، وكان إذا تكلّم أحد عنها قال: «خسارة أنك لم تتعرف إلى والدتها».

في صندوق القمامة نرى مجلات مصوَّرة مهترئة من كثرة الملامسة.

عرف الناس منها أنها تذهب إلى الفراش مبكرًا، وأنها تستيقظ مبكرًا، وأنها منتظمة في دفع الضرائب.

لم تشعر بالوحدة، شغلتْ نفسَها بنفسِها، شغلتها بالمجلات وبالنميمة، بالمواعيد المنتظمة وبحب الأشياء، بحياكة القبعات والسترات الصوفية التي لا يرتديها أحد. في الحفلات الخيرية التي كان ينظِّمها نادي الأمهات كانت تشتري عددًا كبيرًا من تذاكر اليانصيب، وهي شبة واثقة أنها ستكسب الدمية الضخمة ذات الشعر الحقيقي والعينين الناعستيْن، الدمية التي تحمل اسم «مارلين»، وقد كسبتها بالفعل. وها هي الآن الدمية مارلين جالسة فوق الأريكة في منزلها، مطلّة بوجهها المُشرق.

شاركتْ في المسابقات، اشترت عبوات طبخ الأطعمة الدسمة ماركة كذا وكذا للحصول على الكوبونات، من أجل المسابقات راحت تبحث بشغفٍ عن اسم ربَّة السلام عند الإغريق، وخمنّتْ عدد المشاركين في المسابقة، وحلُمتْ برحلة المسابقة الموعودة إلى بالما دي مايوركا.

ووجدت في هذه الأشياء الجميلة بهجةً وتسليةً لا تضاهى.

لم يزرها شقيقها قط.

وكان أبناء عمومتها يكتبون إليها على مضض.

ومع كل يوم كانت تزداد شبهًا بأمها.

كانت شديدة العناية بنظافة شقَّتها. بلغت السادسة والخمسين. كانت تلازم شقتها، لم يكن يُسمع لها أدنى صوت، ولا دبيب حركة، ولا دندنة بأغنية، ولا حركة جذب الستائر.

ولو ارتفع صوتها مرّة بالغناء، كان الناس يظنّون أن لديها صوت «سوبرانو»، صوت عجوز لكنه طفولي.

وسرعان ما صارت واحدة من أولئك اللواتي ينبغي أن نُدخِل على قلوبهنّ شيئًا من السعادة، وخاصة في فصل الشتاء وقبيل أعياد الميلاد، أن نقرأ عليهن القصص، أو نهديهن الشموع، أو نقطِّع لهن خشب التدفئة أو نساعدهم في تنظيف السجاد.

لكن أحدًا لم يسمعها قط وهي تدندن بأغنية.

كانت أي ضربة تلامس مفاتيح بيانو أمّها تقع بمحض الصدفة، وهي تمر بخرقة صفراء فوق مفاتيح البيانو لتنظيفه.


الرجال

كانت جالسة هناك. لو سألها أي مخلوق منذ متى وجلوسكِ هكذا، لقالت: دائمًا.. دائمًا أجلس هناك. على انتظار، أحيانًا في انتظار صديقة، أو زميلة عمل، وأحيانًا في انتظار القطار، أو في انتظار هبوط المساء.

ابتسم الجرسون بودٍ إليها لما أحضر لها القهوة. كانت لديها محفظة حمراء، وكانت المحفظة ملكها بقدر ما كانت المحافظ الحمراء ملك الفتيات الشابات، الفتيات الشابات وحدهن.

ثمّ حدث ذات مرةّ أن دفع لها أحدهم ثمن القهوة، لكن صديقتها ما لبثتْ أن ظهرتْ، أو وصل القطار، فقالتْ: شكرًا.

أخبرها أحدهم اليوم في المكتب أنها لطيفة، كان المدير من قال ذلك، فأخذتْ تلعب بمحفظتها.

فكّر أحدهم: لكن الجميلات لا يحتجنَ الانتظار.

وفكّر آخر: إنها ما تزال شابة.

تمنى ثالث: آه لو كانت منحرفة بعض الشيء.

لاحظ شخص أنها تشهق بقوة. بينما عرِف آخر أن زميلة بالعمل هي من علَّمتها ذلك.

يغادر القطار المحطّة في تمام السادسة والنصف. راحوا يراقبونها وهي تفكّ أزرار معطفها، ثم تخلعه وتلفُّ به جسدها.

بعد قليل. وضعت المعطف من جديد، سكَنَتْ إليه، مسّدتْ على المعطف أعلى عَطِفيْها.

كان ثغرها واسعًا.

شعرها جميل. ضئيلة، نحيفة القوام.

كان أحدهم يعرف صوتها، فيقلِّده كالتالي:

«قهوة.. من فضلك.. شكرًا.. مع السلامة».

لها عيون المها. ودَّ أحدهم لو بادرها بسؤالٍ.

كان الجرسون هو من سألها: «أي شيء تحبّين؟»

فكّر شخص آخر: إنها فتاة صغيرة، فُتات، دُمية، فراشة.

كل رجل يريد أن يطرح عليها سؤالًا. كل رجل يريد الاقتراب منها. يداها رقيقتان.

كانت تجلس منتظرةً هنا، في انتظار صديقة، أو زميلة بالعمل، وأحيانًا في انتظار القطار، أو في انتظار هبوط المساء.

كانت مجرّد فتاة.

ولكن حينما يبادرها أحدٌ بسؤال، تتحوّل إلى أنثى.


الأُسود

أراد الجدُّ أن يصبح مُروِّض أسود، لا لشيءٍ إلا ليعكِّر صفو من زعموا إنه فاشل في كل شيء، كان هدفه أن يُعكِّر صفوهم واحدًا واحدًا. كان يربي البطّ البريّ سرًا.

مات الجدّ من الإفراط في الشراب.

من المؤكد أنّه أدرك في مرحلة ما من حياته أنه لن يصير مُروِّض أسود أبدًا. ومنذ أن أدرك ذلك استولى عليه يقينٌ أن تذاكر دخول السيرك باهظة الثمن.

كان قد تزوج من فتاة جميلة، وراح يدوّن ملاحظات عن الطقس ودرجة الحرارة وسرعة الرياح على الروزنامة. بعد وفاته وُزِّعَتْ أمواله على الجميع. الآن فقط، صار كل شخص يملك حصّة من الجدّ.

كتب أحد القُرَّاء مؤخرًا إلى مُحرِّر الجريدة اليومية سائلًا إن كان في وسع رجلٍ في الثالثة والأربعين تعلُّم العزف على «الفلوت» دون أدنى معرفة مسبقة. هذا ما حدث. فجاء الردّ: إنه حدث أن رجلًا استطاع تعلُّم ذلك وهو في الرابعة والستين من عمره، ولا داعي لأن نكرر: عبر المثابرة، وتَرْك المألوف والصبر.

لما تقدّمت به السنّ صار نسيًا منسيًا. صار أقل شأنًا، فقد غروره، وخارتْ قواه، أمسى عاجزًا عن الإمساك بكوب ماء، فقد القدرة على عقد رباط حذائه.

في سنّ الشيخوخة حضر الكثير من جنازات أصدقائه، كان يجلس على مقعد الكنيسة، متعاطفًا ومنعزلًا، يلفُّ قبّعته بين يديه.

كان نومه متقطعًا، يغفو بشكل متواصل وفي أي مكان، وما يلبث أن يفيق بغتة.

اختفتْ الأسود من أحلامه، ومع اختفاء الأسود اختفت الأحلام أيضًا.

نسي كيف يبدو شكل البنات الجميلات.

كان ينسى، ويدفع «بقشيشًا» أزيد من اللازم.

وُزّعِتْ أمواله. حتى أحفاده سرقوا الأسود وخبأوها أسفل أسِرّة النوم. ولا ضير في ذلك. لم يسبق لأحد أن سأل الجدّ سؤالًا من أي نوع، فلم يصل الجدّ إلى سنّ الحكمة، لكنه وصل إلى سنّ الشيخوخة.

وهذا هو المهم؛ أن الإنسان يشيخ.

لشدّ ما آلمه أن يترك الأسود خلف ظهره.

قال إن الأسود غادرته بخفَّة لا تُحتمل، لم يلمحها وهي تغادر.

مات الجدّ لأنه أفرط في الشراب، لا لسببٍ آخر.