الإبهار والإثارة: البقايا الفلسفية لـﭼيل دولوز

مقال لأندرو مارزوني

ترجمة: أحمد حسان

عرض لكتاب رسائل ﭼيل دولوز ونصوص أخرى نشر في صحيفة ذا نيشان The Nation بتاريخ 3 أغسطس 2020

أندرو مارزوني: يكتب النقد ويدرّس في مرحلة المدرسة الثانوية في نيويورك.

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.


"حياة الأكاديميين نادرًا ما تكون مثيرة للاهتمام"، هكذا أخبر دولوز المجلة الأدبية Magazine Littéraire عام 1988. حياة العقل لا تخلو من بعض التسلية: الأساتذة "يسافرون، بالطبع"، واصل الفيلسوف الفرنسي، "لكنهم يسافرون بالهواء الساخن، بالمشاركة في أشياء من قبيل المؤتمرات والمناقشات، بالكلام، بالكلام بلا نهاية". كان دولوز أشد انعزالًا عن كثيرين في العصبة التي يُشارُ إليها، في الدوائر الأنجلوـ أمريكية أساسًا، باعتبارها "النظرية الفرنسية"، وكان يمتنع عن تسمية نفسه مثقفًا، عن إخلاصٍ أم لا، رغم الدلائل الوفيرة علي عكس ذلك ــ 25 كتابًا منشورة خلال حياته، يجري الاستشهاد بها إلى يومنا هذا من جانب مجموعاتٍ دراسيةٍ متنوعة. فالمثقفين، في اعتقاده، "لديهم أراء في كل شيء"، لكنه ليس لديه "مخزون من الآراء يستمد منه." وأضاف أن، "ما أعرفه، أعرفه فحسب من شيءٍ أعمل عليه فعلًا، وإذا عدتُ إلى شيءٍ بعد بضع سنوات، فعليّ أن أتعلم كلَّ شيءٍ من جديد."

ألقى دولوز بنفسه من النافذة بعدها بسبع سنوات، في سن السبعين، حين جعلت المشكلاتُ التنفسية التي ابتُلي بها منذ شبابه هذا العمل أكثر مما يحتمِل. ونُشر ما الفلسفة؟، تعاونه الأخير مع الأخصائي النفسي فيليكس جواتاري، بالإنجليزية عام 1994، العام السابق على وفاته، وطَرح إجابةً على سؤال العنوان: "الفلسفة هي فن تشكيل، وابتكار، وصنع المفاهيم". ومثل التصوير، أو العمارة، أو الموسيقى، أو السينما، كما كتب في دراسته في مجلدين لهذا الشكل الفني الأخير، فإن الفلسفة "تُطالِب بالمواد والوسائل الجديدة التي يُتيحها المستقبل". هكذا لخّص دولوز عملاً قضاه في التكهّن بالإمكانات الكامنة في الموضوعات التي درسها: تاريخ الفلسفة من سبينوزا وليبنيتز حتى هيوم، وكانط، ونيتشه، وبرجسون، وصديقه ميشيل فوكوه؛ وما أسماه هو وجواتاري الآداب "الأقلياتية" لـكافكا، وﭘروست، وزاخر ـ ماسوخ، ولويس كارول، وويليام بوروز، وغيرهم؛ مسرح بيكيت وآرتو، ورسوم فرنسيس بيكون، وموسيقى جون كيچ، وأوليفييه ميسياين، وﭘيير بوليه. ويصف هذه المنهجية بأنها "لواطةٌ" أو "مفهومٍ بتول": رأيتُني آخذُ مؤلِّفاً من مؤخرته وأُعطيه طفلًا يمكن أن يكون من نسله هو، لكنه وحشي".

لم يكن يمزح. فكما تشهد ميمةُ اشرح دولوز بصورةٍ ساخرة، تُعرف كتابة المؤلف بأنها صعبةٌ بصورةٍ مؤلمة، وحتى مُستعصيةٌ على النفاذ؛ وهذا هو السبب الأول في أن التعليقات على عمله تشكّل الآن "دراسات دولوز"، وهي مجال متميّزٌ وإن كان عابرًا للتخصصات. وربما بالنسبة لهذه الجماعة النوعية وحدها، ربما كان نشر رسائل ونصوص أخرى إصدارًا منتظرًا على أحر من الجمر: فهو المجلد الثالثُ والمفترضُ أنه الأخير من المقتطفات التي يحررها داﭬيد لابوﭼاد وتنشرها سميوتكست Semiotext(e) ، بعد أكثر من عِقدٍ مننشر جُزُر صحراوية ونصوص أخرى، 1953ـ 1974 ونَسقان من الجنون، 1975ـ 1995. وبينما كان المنشوران الأسبقان بين أوائل ما أتاح ترجماتٍ انجليزية لنصوصٍ قصيرة يعتبرها الكثيرون محوريّةً لفهم فكر دولوز ــ من قبيل "المثقفون والسلطة"، وهو حوار من عام 1972 بين دولوز وفوكوه مجموعٌ في جزر صحراوية ــ فإن القطع المجموعة في رسائل أقل معياريةً بكثير؛ ولهذا السبب، فإنها تبهرُ بقدرِ ما تُثير، تاركةً بابَ القبو خلفها مفتوحا في إيحاءٍ بأنه لم يتبق الكثيرُ للعثور عليه. بجمع هذه البقايا، يضمن رسائل عبورَ دولوز إلى مجال شخصيةٍ تاريخية ــ موضوعٍ للدراسة، مثل سابقيه ــ مرةً وإلى الأبد، بعد ربع قرنٍ من وفاته. وما يفتقرُ إليه الكتاب من المكائد البيوجرافية التي يرغبها القراء بتطفّل، يُعوِّضه في ثِقلٍ مدرسي يناسبُ موضوعه، موضّحا بصورةٍ أفضل تطورَ مجموع أعمال دولوز إن لم يكن يوضح الجوانبَ الحميمية لحياته الشخصية.

وُلد دولوز في باريس عام 1925 لأبوين محافظين، من الطبقة الوسطى ونشأ في ظلِّ أخيه الأكبر، ﭼورچ، الذي انضم إلى المقاومة خلال الاحتلال النازي، ولذا قُبض عليه ومات في طريقه إلى معسكر اعتقال.  اكتشف ﭼيل الفلسفة عام 1943، وفي العام التالي التحق بالسوربون، بعد أن رسّخ نفسَه بالفعل في صالونات ماري ـ ماجدالين داﭬـي، وهي كاثوليكيةٌ يسارية أخصائيةٌ في العصور الوسطى، ومارسيل موريه، وهو دارس لـﭼول ﭬيرن. وكان يتردّد على هذه التجمعات مُستنيرون من قبيل ﭼان ـ ﭘول سارتر، وﭼورچ باتاي، وﭘيير كلوسوفسكي، وألكسندر كوﭼيف، وﭼان هيـﭘوليت، وموريس دو جانديّياك.

كانت هذه المجموعة مسئولةً عن ألمنة [إكسابه الطابع الألماني] مسار الفلسفة الفرنسية، مُحرِّكةً البؤرةَ صوب هيجل، وماركس، ونيتشه، وفرويد، وهايدجر، ومُسهِّلةً الانتقالَ من فنومينولوجيا برجسون وميرلوـ ﭘونتي إلى بنيوية كلود ليـﭬـي ـ شتراوس، وﭼاك لاكان، ورولان بارت، ولوي ألتوسير، التي سيؤكّدها ثم يتلوها عمل دولوز، وفوكوه، وﭼاك ديريدا (وكلهم تلامذة هيـﭘوليت وجاندييّاك).

تُقلّد أولى أعمال دولوز المنشورة، المتضمنة في رسائل، أسلوبَ سارتر بكل فخر، وأحيانا بصورة تبعث على الحرج. وأولها، "وصف النساء"، المنشور في دورية شعر Poésie حين كان دولوز في سن العشرين، يتنبأ بمفهوم "الصيرورةِ ـ امرأةً" الذي سيطوِّره، مع جواتاري، في ألف مُسطّح، ليذهل بعض النسويين. وليس الأمر دون سبب هنا، أيضًا: "جسد المرأة هو الانتصارُ الساحق للّحم الحي"، هكذا يجادل دولوز الشاب بعذرية. "المرأة هي الكلِّيُ المُتعيِّن؛ إنها عالمٌ، ليس عالما متخارجا، بل تحت العالم، الباطنيةُ الدافئة للعالم، عالمٌ مضغوطٌ مُستَبطَن. ومن هنا النجاحُ الجنسي الهائل للنساء: فامتلاكُ امرأةٍ يعني امتلاكَ العالم."

كما يلاحظ لابوﭼاد في التصدير، تنكّر دولوز فيما بعد لأعمالِ صباه تلك، "رغم أن نشرها لم يعد يمكنُ تجنُّبه"، إذ أن النصوص "كان يجري تداولها دون ترخيص، وأحيانًا بشكلٍ يتضمّن أخطاء". كتبت فاني دولوز، أرملة الفيلسوف إلى مؤسِّس سيميوتكست سيلفر لوترينجر قبل ظهور جزر صحراوية أن زوجها قد ترك "إرشاداتٍ بالغة التحديد بصدد المنشورات بعد وفاته"، لكن ترخيص العائلة بنشر رسائل يبدو أنه يُسلّم بحقيقة أن الدولوزيين أشبه بمتطفّلي عالم النظرية: بارعون في التقنية، منظّمون، ومنهمكون بصورةٍ حُواذية في تطويق حتى أدنى تهريبٍ غير مشروع. وهذا، جزئيًا، لأن العديد من مفاهيم دولوز وجواتاري ــ وبينها مفهوم "الريزومة"ــ كانت أساسيةً للتنظيرات الباكرة للإنترنت والثقافة الرقمية، ناهيك عن فكر الزملاء السابقين آلان باديو وأنطونيو نيجري (الذي كان المؤلفُ المشارك له، مايكل هارت، تلميذا لدولوز) والمنظّرين ما بعد ـ الماركسيين للعلم، والـﭼندر [النوع]، والميديا، والعِرق من سلافوي ﭼـيـﭼيك وﭼاك رانسيير إلى إيزابيل ستينجرز، وإليزابث جروس، فريد موتين، وماكنزي وارك. لكن عدم اكتمال أرشيف دولوز (لم يكن يحتفظ بالرسائل الواردة، ولا يعدُّ المراسلة جزءًا من أعماله) يمكن أن يترك قاريء رسائل بحاجةٍ إلى المزيد، خصوصًا مع موقف لابوﭼاد التحريري الممتنع عن التدّخل، الذي يجعل الفضوليين بشأن السياق يفتّشون في الركام.

يبدأ دولوز مجموع كتاباته، التي يُعيد رسائل نشرَ مسوّدةٍ لها، عام 1953، بعد أن نجح في إجازة الفلسفة ونشر أول دراسةٍ له، الإمبيريقية والذاتية، عن فكّر التنوير الاسكتلندي ديفيد هيوم. (وتؤكد ملاحظاتٌ لمنهجين دراسييّن عن هيوم، منشورةٌ هنا أيضًا، على مدي تخصّص دولوز وتقدِّم للقراءِ لمحةً عن أسلوبه التربوي). كرّس دولوز الخمسينات والستينات لدراسات المؤلِّفِ الواحد، التي وجدت ذروتها في أطروحتين ناقشهما غداة مايو 1968: واحدة عن سبينوزا، أشرف عليها فردينان ألكييه (ويتضمن رسائل مراجعات مُحبِّذةٍ لاثنين من كتب ألكييه)، وأخرى ستصبح أهم كتاب يكتبه دون جواتاري، الاختلاف والتكرار، وهو "فلسفة اختلاف" تقلب "المثالية الترنسندنتالية" لدى كانط. هذه "الإمبيريقية الترنسندنتالية"، كما شرح دولوز لأحد المراسلين فيما بعد، "تؤكد أن ثمة اختلافًا في الطبيعة بين ما هو إمبيريقي وما هو ترنسندنتالي.. وتفترض سلفًا أن الترنسندنتالي هو ذاتُه خبرةٌ، تجريبٌ، وتطرح أخيرا محايثةً كاملة بين الاثنين".

هنا يشبه عملُ دولوز أكبرَ الشبهِ تفكيكَ ديريدا، الذي ظهر عملاه الكتابة والاختلاف وفي علم الأجرومية في العام الأسبق، وعادةً ما يفيدُ الفشلُ المُدرَكُ لتلامذتهما في تغيير العالم ذاك الربيع باعتباره المَعلَم التاريخي الذي شَبَّع ما بعد البنيوية بذلك الوعد. ففكرة أن الهوية هي تأثيرٌ للاختلاف، بدل أن تكون سببه، أتاحت لهذا الجيل من الفلاسفة الفرنسيين أن يتحركوا متجاوزين ماركس وفرويد وأن يساعدوا بالتالي على تمكين تطورِ سياسات الهوية في الأكاديميا الأمريكية خلال الثمانينات والتسعينات، بمقاومة التشفير والنقد من جانب النيوليبراليين من برنار ـ هنري ليفي إلى كاميّ باجليا، في تزامنٍ مع اصطفائها نحو اليمين. استنتج دولوز أن خبرتنا بالاختلاف إذا كانت تضفي الراهنية على تشكّل الأفكار، فإن "مفاهيم المعرفة، والأخلاق، والدين، إلخ.. لا يمكن سوى أن تتحلل" تحت فحص النقد. في الحقيقة، تتكشّف وحدةٌ ظاهرةٌ، على أنها محصلةُ جزيئاتٍ متنافرة؛ ومن خلال مجهر دولوز، يصبح الواحدُ كثيرًا.

ينسبُ المؤرخون الثقافيون إلى دولوز فضل اختراع نزعةٍ نيتشويّة يسارية في أطروحته الثانية، نيتشه والفلسفة. حين نُشر الكتاب عام 1962، كان الفيلسوف الألماني يُقرأ على نطاقٍ واسع على أنه رجعيٌ، لسببٍ ليس أقل من الاستحواذِ عليه من جانب النازيين، ولعب دولوز دورًا بارزاً في إعادة الاعتبار إلى سمعته في فرنسا. (وقد قام كتاب والتر كوفمان نيتشه: الفيلسوف، وعالِم النفس، والمناهِض للمسيح والترجمات الإنجليزية التالية خلال العقد الأسبق بوظيفةٍ مماثلة في الولايات المتحدة.) شخّص دولوز نيتشه باعتباره فيلسوف الاختلاف، ناسبًا انتماءَ عمله إلى سبينوزا (الذي كان يهوديًا) ومفسّرًا كتابه في ﭼينالوجيا الأخلاق كمحاولةٍ لمراجعة نقد العقل الخالص لكانط. هذه الاستراتيجية مُميِّزة لمنهج دولوز، كما أوضح في خطابٍ إلى أحد معلّقيه، أرنو فيلاني، عام 1986:

أعتقد أن كتابًا، إذا كان يستحقُ الوجود، يمكن تقديمه في ثلاثة جوانب سريعة: أنت لا تكتب كتابًا "له قيمة" إلاّ إذا: 1) كنت تعتقد أن الكتب في نفس الموضوع أو في موضوعٍ مجاور تندرج في نمط خطإٍ كلّي (الوظيفة الجدالية للكتاب)؛ 2) كنت تعتقد أن شيئًا جوهريًا قد تم نسيانه على علاقة بالموضوع (الوظيفةالابتكارية)؛ 3) كنت تعتقد أنك قادرٌ على خلق مفهوم جديد (الوظيفة الإبداعية).

إن كون كاتبٍ معروفٍ بصعوبته غيرَ مُعقّدٍ إلى هذا الحد فيما يقدمه للصحف، وفي محاضراته، وفي خطاباته إلى الأصدقاء، يؤكد أن قابلية الفهم لم تكن ما يسعى إليه في نصوصه الكبرى، التي هي "عن" شيءٍ مختلفٍ تمامًا.

أحدُ أثمنِ الإضافات في رسائل هو حوارٌ أجراه دارسُ السينما ريمون بيللور مع دولوز وجواتاري عام 1973 لمجلة العصور الحديثة Les Temps Modernes، التي يديرها سارتر وسيمون دو بوفوار، رغم أن الحوار لم يُنشر أبدًا لأن جواتاري اعترض على الميول الماويّة للمجلة. تم تسجيل الحوار بمناسبة نشر كتاب ضد أوديب، أول تعاونٍ بين الثنائي، والذي يُشكل، مع ألف مسطح، الرأسمالية والفُصام، عرضًا كبير الحجم للممارسة النظرية التي يُسمّيانها "التحليل الفصامي"، المستمدّ إلى حدٍ كبير من خبرة جواتاري في لا بورد، وهي عيادةٌ تجريبية في وادي اللوار أسسها جان أوري، تلميذ لاكان، عام 1953. وقد بدأ دولوز وجواتاري العمل علي ضد أوديب فور التقائهما في خريف 1969، قبل تعيين دولوز مباشرةً (بتوصيةٍ من فوكوه) في جامعة باريس VIII [ﭬانسين]، حيث سيقوم بالتدريس حتى تقاعده عام 1987. والمراسلات التي وُلد من خلالها تعاونهما هي أضخم المراسلات المقدمة في رسائل، ورغم أنها أحادية ولا تنقصها الثغرات التعِسة، فإن الرسائل والحوار يصنعان الكثير لتوضيح التفاصيل التي يجري الحديث عنها في العبارات الافتتاحية لكتاب ألف مسطح: "كلانا كتبنا ضد أوديب معا. ولمّا كان كلٌ واحدٍ منا عديدينَ، فقد كان ثمة زحامٌ بالفعل".

بينما يبدو جواتاري في الحوار نافدَ الصبر، متهكمًا، وقاطعًا، يرفض أسئلة بيللور باعتبارها "وضيعة" و"حمقاء"، فإن دولوز عبقريٌ ويمحو ذاته، قابلًا اللوم على "الجانب الأكاديمي" لكتاب ضد أوديب، الذي يُقرّ بأنه "إزعاجٌ حقيقي"؛ وحين يعود من مكالمةٍ هاتفية، يقول جواتاري إنه أخبر بيللور "نقيضَ ما قلته"، فيجيب دولوز، "حسنًا. جيدٌ جدًا". ونفس الشيء ينطبقُ على المراسلات، التي تكشف أنه متواضعٌ (يصرّ على ضخامة إسهامات جواتاري)، حيّ الضمير (يحاول إثناءَ ﭬيللاني عن الكتابة عن عمله من أجل صالح مهنةِ الدارسِ الشاب)، وأريحي (في ثنائه على الشاعر الروماني ﭼيراسيم لوكا)، وعطوف (تجاه كلوسوفسكي وفوكوه، رغم الشجارات العارضة)، حتى لو كان يرتكب الخطايا الفاسدة الوبائية في الحياة الأكاديمية: إذ يتهرّب إزاء جان ﭘيل، محرر كريتيك [النقد]، بصورةٍ متأخرة عن تكليفٍ بمقالة عن سيلين لصالح مقالةٍ عن المازوخية (يعاد طبعها في رسائل)؛ وفي خطابٍ تالٍ، يعترف بأنه، "بدل أن يقتصر على الصفحات الـ 15 التي اتفقنا عليها، فإنني ... أرسل لك 26 صفحة".

رغم كونه معتدلًا في مزاجه، كان دولوز ثوريًا في فكره، وفي حوارٍ مع بيللور، يظل توجّهه مُتقدِّمًا، طليعيًا، وحتى ﭘانكpunk : "فيليكس وأنا، على أية حال، مع عدد معين من الناس، لسنا وحدنا، ولا يهمنا شيء". سيكون من قِصر النظر أن نستنبط من هذا أن أفكاره لا تأثير لها على العالم المادي، الذي، في حالته الراهنة، منهارا تحت وطأة الرأسمالية المُمرِضة، يمكن أن يستخدمها أكثر من أي وقتٍ مضي. لكن دولوز أصرّ أنه، لفهم مفاهيم من قبيل "التدفّق" أو "خطوط الهروب" أو "الجسد دون أعضاء"، ليس ضروريًا التقاط ما تعنيه؛ بل بالأحرى، يجب أن يقرأ المرءُ عملًا مثل ضد أوديب "بصورةٍ تلقائية"، مثل الشِعر، ويسأل: هل يمر؟" إنه من نفس مجال المقبس الكهربائي. إذا كانت آلةٌ لا تعمل، فأنت بحاجة إلى مقبس آخر أو آلةٍ أخرى. كتابنا هكذا".

الإحساس الذي نستخلصه من قراءة تلك الأشياء العابرة ليس الإحساسَ بعملاقٍ يستند على أكاليل الغار. بدلًا من ذلك، لدينا صورةٌ شخصية لخبيرِ تواصلٍ محترِف يُحبطُه ويلهِمُه عجزُه عن التواصل. "فور أن يوجدَ تفسيرٌ، يوجد خراء"، هكذا أخبر دولوز بيللور. لم يكن دولوز عالمًا، لكنه في رسائل، يرتسمُ في صورةِ فأرِ معملٍ، كأنما ليتبنّى ترتيلًة من بيكيت لأغراضه الخاصة: "حاوِل ثانيةً. افشَل ثانيةً. إفشل أفضل". استشهد كورنل وست بهذا القدر من نوﭬيلا ورستوارد هو *Worstward Ho، على الهواء في محطة سي إن إن كرد فعلٍ على الاحتجاجات على قتل جورج فلويد، مستشهدا بالقوة الانتفاضية "لسطر البلوز من شقيقنا الأيرلندي". كل هذا يعني القول بأن الصدق لا يمكن العثور عليه في المعنى، أو الحس، أو الملخص، أو الترجمة. فالعمل الجذري يُنجز من خلال الإبداعية، والابتكار، والمحاولة، والخطأ حتمًا، وكتالوج دولوز من المفاهيم يحفظ عمرًا من الإخفاقات مُرشِدةٍ للحظتنا ــ ليس كإنجيل، بل مجرد مؤلفٍ آخر يجب أخذه من مؤخرته.

ـــ

*Worstward Ho نوفيلا صمويل بيكيت المكتوبة عام 1983 كمحاكاة ساخرة لعمل تشارلز كينجسلي بعنوان Westward Ho