في «طاعون كامو»: دروس عن الخوف والحجر الصحي والروح البشرية

مقال روجر لوينستاين

ترجمة إسلام رمضان

نُشر في «واشنطن بوست» بتاريخ 3 إبريل 2020

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.

ألبير كامو

لم يبسط «ألبير كامو»، في روايته «الطاعون» (1947)، سلطانَ وبائه المتخيَّل على العالم بأسره، مثلما هو الحال مع فيروس كورونا الذي يهدد الكوكب الآن. كان كامو قد نجا للتوّ من الرعب العالمي للرايخ الثالث والغزو الياباني. وفي «الطاعون»، يحصر كامو نطاق الجائحة في مدينة وهران، وهي مدينة ساحلية «بلا روح» و«بلا أشجار» و«محاطة بتلال مضيئة»، في مسقط رأسه في الجزائر.

لكن الرواية تصوِّر بعمق تلك الإجراءات التي فرضت علينا اليوم. إذْ لم ينصب تركيز كامو على سيارات الإسعاف وأعداد الضحايا في المدينة المنكوبة بقدر ما انصب على الكيفية التي أثَّر بها الطاعون على المواطنين، والذين أعادوا، مثلنا، ترتيبَ الأولويات والبرامج اليومية، بل وفي بعض الأحيان، العلاقات وأنماط العيش.

ومثلنا، لم يكن لديهم مؤشر على اقتراب الكارثة. لكن على مدار التاريخ، كان الطاعون -مثله مثل الحرب- مألوفًا، كما يلاحظ الراوي، ومع ذلك، فإن كل تفش للوباء «يفاجئ الناس دائمًا». ومع ذلك فليست صدمة الطاعون، بل مظهره البريء وغالبًا بدايته عديمة الضرر هي التي تسبغُ على الصفحات الأولى للرواية نذيرَ شؤمٍ مٌروِّع. 

بطل الرواية، برنار ريو، طبيبٌ شاب بعينين داكنتين صارمتين، يخرج في صباح يومٍ من أبريل بعد إجراء عملية جراحية روتينية، ليشعر أسفل قدميه بنعومةٍ كريهة: فأر ميت. تنتشر الفئران بكثرة؛ وسرعان ما تُكدّس في علب القمامة وتُنقل على دفعات، ليس قبل أن تلفظ «لطخة دم» مصحوبةً بــ«الصرخات الحادة الصغيرة للموت». تتبعها على الفور الحمى البشرية الغامضة.

يتردد الأطباء في تسميتها، إلا أن «ريو» يُدرك أنَّها الطاعون من ملاحظته العقد العصبية المتورمة التي تتكون في أعناق ضحاياه وأطرافهم. المحافظ ورئيس الهيئة الطبية المحلية معنيان بإطلاق إنذار تنبيهي، حتى لو كان، ما يمكن أن ندعوه، إنذارًا كاذبًا. 

لا تمتلك وهران مخزونًا من مصل الطاعون. لم تنشر الصحف إلا موجزًا وملاحظاتٍ حذِرة. وفي نفس الوقت صار مطلوبًا استخدام المطهرات، وعزل المواطنين الذين يعيشون مع الضحايا، وتهيئة المدارس لإيواء ما لا تسعه عنابر المستشفيات من المرضى المنكوبين. حتى الآن، تستمر الحياة بشكل طبيعي، باستثناء أن حصيلة القتلى ارتفعت من بضعة أشخاص في اليوم إلى أكثر من عشرة، ثم إلى أكثر من عشرين. وعندما تضاعفت الحصيلة إلى أربعين، وصلت البرقية المشؤومة: «أعلنوا حالة الطاعون، أغلقوا المدينة».

إنها النقطة التي تبدأ عندها الرواية فعليًا، هي اللحظة التي يعيش فيها حاليًا الأمريكيون وأعداد كبيرة من مواطني البلدان المنكوبة. ربط كامو هذه اللحظة بحالة «النفي»، وهو موضوع مألوف لدى الكاتب، الذي لم تكن تمثل له «فرنسا المتروبوليتان»، حيث عاش يافعًا، أكثر من منزلٍ للتبني. النفي في «الطاعون» هو جزئيًا نفي جغرافي، يصف العزل المؤلم عمن هم خارج أسوار المدينة؛ لكنه يحيل، بشكل أقوى، إلى نفي في الزمن. 

يقتطع الطاعون الناس من حياتهم السابقة. وعلى الرغم من شوقهم الحار للعودة، يصبح الماضي فجأة غريبًا؛ ذاكرةً منفصلة. وبينما تصمت الرافعات على أرصفة الميناء، وترتفع حصيلة القتلى بالتزامن مع الحر المرهق، فإن الناس يصبحون مقيدين إلى «الأرض من أقدامهم». ويلاحظ الراوي -الذي ظلت هويته سريةً طويلًا- بحصافةٍ أنه «وجب على كلٍ مِنَّا أن يعيش كل يومٍ بيوم»

كان كامو منشغلاً باللامعقول؛ في «سيزيف» المحكوم عليه -مثل البشرية- أن يدفع الصخرة إلى أعلى المنحدر. وقد أوجد في «الطاعون» عدسةً تبرز الحياة معلقةً وأكثر حيوية في آنٍ واحد. ورغم أن وهران تحولت إلى غرفة انتظار شاسعة في محطة قطار -بكل ما تنطوي عليه الاستعارة من ضجر وفتور- فعلى الأقل، كان الناس يحيون في الحاضر. حلت الضرورة الملحة للتطوع في الفرق الصحية محل التوق إلى لقاح أو إلى العالم الخارجي. وحل الحاضر محل المستقبل. يفترض المراقب الغامض المحاصَر في وهران –والذي استطاع الراوي الوصول إلى دفتر يومياته- أن الوعي الكامل للمرء بالزمن هو وحده ما يضمن ألا يضيع.

كما هو الحال مع الفيروس اليوم، يتوق المواطنون إلى العودة إلى الحياة الطبيعية ولكن نما شك بداخلهم: هل يكونون، أو يجب أن يكونوا، ذات الأشخاص ثانيةً؟ ثمَّة تلميحٌ إلى إدانة الذات.

يعظ الكاهن المحلي رعيته المحاصرة: «يا إخوتي، إنكم في المصيبة يا إخوتي، وإنكم لتستحقونها». هو لا يعني من يخرقون قواعد الطاعون، ولا من يتاجرون في البضائع المحظورة، لكنه يعني إثم وهران قبل أزمتها. اليوم، يقرأ المرء عن شرورٍ مماثلة مزعومة: العولمة والفشل السياسي والرأسمالية العالمية. بعد أن ذهب الطاعون، يبدو الراوي، وقد كشف كامو عنه أخيرًا، وكأنه يستنزل حكمًا: المعركة ضد «الرعب» –كما يصفها هو- مستمرة بلا شك. كأن بكتيريا الطاعون هي شيء من قبيل لطخةٍ لا تمحى من الشخصية الإنسانية «لا تموت ولا تختفي قط»

لكن المفاجأة المرضية لي، وأنا أعيد قراءة الطاعون بعد نصف قرنٍ من لقائي الأول بها، هي أن كامو –الذي مات عن 46 عامًا في حادث سيارة- قد صاغ من هذه الاستعارة الكئيبة رمزًا للخير البشري. إنه كتاب خلاصي من النوع الذي يريد من القارئ أن يصدقه حتى في زمن اليأس. لم يستطع ريو والكاهن المحلي أن يجيبا عن السؤال الأزليّ؛ إذا ما كان الله قد يسمح بجائحة كتلك، بالنسبة إلى ريو، الإجابة بسيطة: في غياب استجابة إلهية شاملة، يتوجب عليه أن يواصل القيام بجولاته وأن يداوي من بإمكانه أن يداويهم. كشأن كل الشرور، قال، «ربما كان فيه نفعٌ لرفع بعض الناس».

هذا صحيح بالنسبة إلى ريو، ولفئة قليلة من سكان المدينة تغلبت على رغباتها الأنانية ومدت يد العون، لتكتشف أنه إذا كانت السعادة فرديةً مخزية، فإن الخوف محتملٌ أكثر عندما نتشاركه. لهذا اختار الراوي المحتجِب أن يدلي بشهادته. إن مهمته، التي صرح بها أخيرًا، هي أن نذكر ما تعلمناه في زمن الوباء: «إن ما يستحق الإعجاب والتمجيد في البشر أكثر مما يستحق الاحتقار والزراية».

-ملاحظة المترجم: الاقتباسات بين علامتي تنصيص مأخوذة من الترجمة العربية لرواية الطاعون لسهيل إدريس (دار الآداب: بيروت، 2013).