قصتان لآنطون تشيخوف

ترجمة: سامح سمير

عن ترجمة بيتر سكيرين للإنجليزية

الترجمة خاصة ب Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.


آنطون تشيخوف
آنطون تشيخوف، عن RTE

حوار بين إنسان ثمل وشيطان مُفيق

جلس موظف مُتقاعد، يُدعى السيد سكروفي، إلى مائدة العشاء، يشرب كأسه السادسة عشرة من الفودكا، متفكرًا في المساواة والحرية. وفجأة، أطل عليه شيطان من وراء مصباح المائدة. لكن، لا تخف يا عزيزي القارىء. فهل تعرف ما هو الشيطان؟

هذا الشيطان كان شابًا، أنيق المظهر، ذا وجه قبيح، أسود اللون كمدخنة، وعينيه حمراوين معبرتين. يحمل الشيطان زوجًا من القرون فوق رأسه، حتى لو لم يكن متزوجًا. وجسده مغطى بشعر أخضر تفوح منه رائحة تشبه رائحة الكلاب. وتحت ظهره يتدلى ذيل، ينتهي برأس سهم مدبب. في مكان الأصابع، لديه مخالب، وبدلًا من القدمين، حوافر حصان. حين رأى السيد سكروفي الشيطان، ارتبك قليلًا، لكنه تذكر أن الشياطين الخضراء تنزع إلى الظهور لكل المخمورين، فهدأ روعه.

«هل لي أن أعرف  من الذي يشرفني بالزيارة؟» قال مخاطبًا الضيف الذي حضر بلا دعوة.

ارتبك الشيطان وخفض بصره.

تابع سكروفي قائلًا: «من فضلك، لا داعي للخجل. اقترب من فضلك. فأنا رجل لا أطلق الأحكام المسبقة. يمكنك أن تتحدث معي بصراحة، بدون تحفظ. من أنت؟»

تقدم الشيطان بحذر نحو السيد سكورفي، وطوى ذيله تحته، ثم انحنى باحترام، وقال مقدمًا نفسه: «أنا شيطان.. أعمل مبعوثًا خاصًا تحت قيادة صاحب السعادة، رئيس مجلس إدارة الجحيم، السيد إبليس».

«لقد سمعت به. سعيد بلقائك. تفضل بالجلوس. هل تريد كأس فودكا؟ ماذا تعمل؟»

  ازداد الشيطان ارتباكًا.

أجاب وهو يسعل في حرج ويمسح أنفه: «بصراحة، أنا بلا عمل حاليًا.. قبل بعض الوقت، كانت لدي وظيفة. كنا نغوي البشر، نضلهم بعيدًا عن طريق الصلاح. لكن بيني وبينك، كانت وظيفة لا قيمة لها. فما من طريق للصلاح – لم يعد له وجود بين البشر، ومن ثم لا شيء لنُضل الناس عنه. أضف إلى ذلك، أن الناس أصبحوا الآن أكثر ذكاءً منا. كيف لك أن تغوي إنسانًا تخرَّج في الجامعة ورأى الكثير والكثير في هذه الحياة؟ أنى لي أن أُعلِّم شخصًا كيف يسرق روبلًا واحدًا، في حين أنه، بلا مساعدة مني، سرق بالفعل آلاف، بل وملايين الروبلات؟»

«نعم، أتفق معك في هذا. لكن، ألا تقوم بأي عمل مميز على الإطلاق؟»

«بلى. رغم إن منصبي القديم شرفي بالأساس، إلا إننا نقوم ببعض الأعمال. فنحن نغوي المعلمين في مدارس الفتيات، ونجتذب الشباب لكتابة الشعر، ونستدرج رجال الأعمال الشبان لتحطيم المرايا والنوافذ على الملأ بعد حفلاتهم. ويجب أن أصارحك بأننا لم نتدخل في السياسة، أو الأدب، أو العلوم منذ فترة طويلة. فنحن لم نعد نفقه شيئًا في هذه المجالات. ورغم ذلك، يعمل العديد منا في الصحافة، وبعضنا ترك العمل بدوام كامل في الجحيم ويعمل في السر كبشر. أولئك هم الشياطين المتقاعدون الذين يعملون بمهن مختلفة- بعضهم محامون، والبعض الآخر محررون وناشرون- وجميعهم أناس في منتهى الاحترام، والذكاء والجدية».

«لا تؤاخذني على هذا السؤال الشخصي جدًا، ما نوع المرتب الذي تتقاضاه حاليًا؟»

«نحن نتلقى مرتباتنا السابقة نفسها، لم  يتغير شيء في نظام أجورنا. حيث تتكفل الشركة بكل نفقاتنا، من مسكن، وطعام، وخدمات. لكنهم لا يدفعون لنا نقدًا، لأنهم يعتبروننا متطوعين. أترى، الشيطان مجرد منصب شرفي. وإن أردت الحقيقة، نحن نعيش حياتنا شاقة، وأشعر أحيانًا وكأنني صعلوك أتسول قروشًا قليلة. لقد تعلمنا من البشر أن نأخذ رشاوى، ولولا هذا لكنا قُضينا منذ وقت طويل. وهكذا، نعيش على دخولنا البسيطة –نعطي الخطاة بعض الطعام والإمدادات ونحصل على التمويل عن طريق الرشاوى. أترى، لقد تقدم إبليس في العمر، وكثيرًا ما يتردد على النوادي الليلية ليتفرج على الراقصات الفاتنات وليس لديه وقت لإجراء الحسابات بشكل سليم».

صب السيد سكروفي كأسًا أخرى من الفودكا للشيطان. فشربها بسرعة وانطلق لسانه أكثر، فراح يفشي كل أسرار الجحيم، ويفضي  بهمومه، وانخرط في البكاء لفترة طويلة. ولقد أحبه السيد سكروفي جدًا، حتى أنه دعاه لقضاء الليل في منزله.

قبل الشيطان الدعوة، ونام بجوار المدفأة، وظل يتحدث في نومه طوال الوقت وكأنه يرى كوابيس. وبحلول الفجر، كان قد اختفى.


في ظلام الليل

لم يكن ثمة قمر ولا نجوم في السماء، لا ظل واحد، ولا بقعة مضيئة واحدة. ظلام لا قرار له يغمر كل شيء، ومهما أمعنت النظر إليه، لن ترى شيئًا، كما لو أنك أعمى. كان المطر يهطل بغزارة، والطرق مغطاة بالوحل.

 في الطريق المؤدي إلى القرية، كان زوج من الجياد يمشيان ببطء، ويجر عربة يجلس بداخلها ثلاثة أشخاص: رجل يرتدي زي مهندس سكك حديدية، ومعه زوجته، وكلاهما مبتل تمامًا، وحوذي متعتع من السُكر. كان الحصان الأول يرتجف ويمشي ببطء شديد، بينما كان الآخر يتعثر ويحاول طوال الوقت أن يقفز إلى جانب الطريق. كان الطريق فظيعًا، في كل خطوة ثمة حفرة، أو أكمة أو جسر صغير جرفته المياه. على اليسار، ذئب يعوي، وعلى اليمين وهدة.

«الطريق فظيع، أنا على يقين تام أننا ضللنا الطريق»، قالت زوجة المهندس بتنهيدة عميقة. «نعم، من السهل جدًا أن يخرج المرء عن الطريق ويتوه. لا تذهب صوب الخندق».

«وما الذي يجعلني أذهب صوب الخندق؟! هيا أيها الحصان العفن، تحرك تحرك، تحرك يا حُبي!»

«يبدو أنه ضل الطريق تمامًا»، قال المهندس. «إلى أين تأخذنا أيها الوغد؟ ألا تستطيع أن ترى؟ أهذا هو الطريق؟»

«نعم، هذا معناه أن هذا هو الطريق».

«لا يُمكن أن يكون هذا هو الطريق! نبدو وكأننا نسير في حقل! انعطف يمينًا أيها السكران. والآن، إلى اليسار. أين سوطك؟»

«لقد فقدته، يا صاحب السمو».

«سأقتلك لو كنت أخذتنا في الطريق الخطأ. هيا، إلى أين أنت ذاهب بنا؟ أليس الطريق من هذا الاتجاه؟»

فجأة توقف الحصانان عن السير، وتعلق المهندس بظهر الحوذي وكتفيه وجذب اللجام الأيمن. فطرطش الحصان الأول الطين بحوافره، وانعطف بحدة، وارتج بدنه بطريقة غريبة.

سقط الحوذي من العربة وتلاشى في الظلام، بينما تعثر الحصان الثاني على حافة الجرف، وشعر المهندس أن العربة تسقط في مكان ما في الهاوية.

لم تكن الوهدة عميقة جدًا، فنهض المهندس على قدميه وأنهض زوجته وصعد التل. ومن مكانه على قمة الوهدة، رأى الحوذي جالسًا على حافة الصخرة، يتأوه. فاندفع نحوه، وهو يهز قبضته في الهواء، ويتأهب لتحطيم وجهه.

وصاح قائلًا: «سأقتلك أيها البائس، أيها الشقي!»

كانت القبضة قد تحركت بالفعل إلى الخلف، ثم إلى الأمام، وصارت في منتصف المسافة إلى وجه الحوذي. ثانية واحدة فقط، وتقع الواقعة.

قالت زوجة المهندس: «ميشيل، فكر في سيبيريا، والسجون!»

فارتجف ميشيل، وتوقفت قبضته الرهيبة في منتصف الطريق إلى وجه الحوذي.

لقد نجا الحوذي.


اقرأ المزيد: عادل عصمت: رسالة إلى آنطون تشيخوف