رسالة إلى آنطون تشيخوف

نص لعادل عصمت

خاص بـ Boring Books

يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه.

***

تشيخوف عن Anthon Checkov Foundation

عزيزي أنطون

لا أخفي عليك أنني أشعر بقليل من الخشية عندما أفكر أنك سوف تنظر بسخرية إلى هذا الموقف المصطنع الذي وضعت نفسي فيه عندما وافقت على كتابة رسالة لك، سوف تضحك ضحكة قصيرة تتبعها سعلة خفيفة ثم تنظر نظرتك الماكرة الملونة ببريق العينين الذين احتار صديقك «كوبرين» في تحديد لونهما، لكنني في نفس اللحظة أسمع صوت من داخلي يقول: «لا بأس». لا بأس من اختلاق موقف من أجل التواصل مع خبرتي بصوتك المطوي في أعمالك وحسك بالعالم الذي تركته لنا في كلمات. لا بأس من اختلاق موقف من أجل الاقتراب من هذه الخبرة التي كان يمكن أن تموت معي دون أن أنتبه إليها. ولكي نتجنب سخريتك دعنا نقول إنها محاولة خيالية –من نوع القصص- من أجل التواصل مع مشاعري تجاه شخص تعلقت به منذ صباي، عاصرت صوته وأخيلته وعايشت البشر الذين تركهم منحوتين بالكلمات في طيات الكتب، وبالأصح أتواصل مع ما تركته فيَّ تلك القصص وما تركه صوتك من أثر في الروح.

في عام 1977 كنت تقريبًا في السابعة عشرة من عمري في مدرسة طنطا الثانوية للبنين، وهي مدرسة ثانوية في مدينة مصرية صغيرة تقع في وسط دلتا وادي النيل، كنت صغيرًا عندما قرأت هذه الكلمات في قصة «السيدة صاحبة الكلب» وخططت تحت سطورها:

«... والبحر يبعث إليهما بصوت خريره الرتيب ليحدثهما عن السلام والنوم الأبدي الذي ينتظرنا جميعًا، فقد كان البحر يزمجر على هذا النحو قبل أن توجد أية يالتا وأية أورياندا، وهو يزمجر الآن وسيواصل زمجرته الرتيبة غير العابئة هذه نفسها بعد أن نفنى جميعًا. ولعل هذا الاستمرار وهذه اللامبالاة بالحياة والموت هما اللذان يكمن فيهما سر خلاصنا الأخير وسر تيار الحياة على ظهر كوكبنا وسر حركته الدائبة أبدًا نحو الكمال»[1].

لم أكن قد تعلمت سر صنعة الفن بعد، كنت مسترسلًا في قراءة قصصك لأول مرة وكصبي في مدينة إقليمية في مصر، مغرم بالأفلام العربية كنت أرى القصة عجيبة على نحو ما، ماذا يعني هذا؟ القصة ليست محبوكة وليست على غرار قصص الحب التي تعودت على معايشتها في مسلسلات الراديو أو أفلام السينما أو قصص إحسان عبد القدوس، الحبيبان لا يتبادلان قبلة الحب في نهاية القصة بعد أن تخطيا كل العقبات في طريق حبهما، بل تنتهي عندما يتنبهان إلى العقبات التي تحول دون عيشهما معًا. كانت القصة عجيبة وغير جيدة من وجهة نظر ذاك الصبي، وكنت أحيانًا أفكر أن أقرأها مرة أخرى لكي أتأكد من رأيي، وكلما شرعت في قراءتها مرة أخرى تعترضني تلك الفقرة التي خططت تحت سطورها بقلم الحبر الجاف وتقف حائلًا بيني وبين الرجوع إليها، وأستعيد انطباعي غير الجيد وأنصرف عن القراءة.

لسنوات طويلة غَدَت تلك الفقرة هي القصة نفسها، أفكر فيها أشعر بصدقها: الكون الواسع غير العابئ بنا وتوقنا إلى الخلاص ورغبتنا في الكمال وربما شكلت مادة للتأمل الخفي. لم أكن أستعيدها بعمد بل كانت تفعل فعلها السري على مر السنين في عزلة عن انتباهي.

بعد ذلك بسنوات، عندما بدأت كتابة القصص، كان لا بد أن أعود إلى أعمالك لكي أتعلم سر صنعة الكتابة وعدت مرة أخرى إلى قصة «السيدة صاحبة الكلب»، وتعرفت ببطء على طريقة كتابتك للقصص ولمست كيف نسجت هذه القصة بمنتهى البراعة والدقة؛ كيف نسجت المشاهد والمشاعر، وتابعت نمو الشخصيات، واقتربت بلطف من مشاعر تلك الشابة التي وقعت في الخطيئة -من وجهة نظرها- ومعاناتها وانقسامها بين رغبتها وبين متطلبات الأخلاق العامة، بلطف إنساني كأنك تحمل في صدرك المقدار المضبوط وتعرف عن ظهر قلب الإيقاع الذي تحدث به هذه الحوادث في واقع الحياة، لا توغل في وصف الذنب بل تتحدث عنه برهافة كأنه تفصيلة من تفاصيل علاقة حب تتكون. اكتشفت وتمتعت بمتابعة وفهم طريقتك في صنع القصص في هذه القصة وفي غيرها، وفي النهاية عرفت أنك كتبت أصدق قصة حب، ولهذا السبب لم تعجب ذاك الصبي الذي تربى على قصص الحب الخيالية والمتداولة في الأعمال الفنية.

الآن وأنا أقترب من الستين من عمري وعلى كثرة ما قرأت من قصص الحب، تظل هذه القصة أصدق قصة حب صادفتني وأكثرهن توافقًا مع ما أعرف. هذا الرجل الذي يلتقي بامرأة –صدفة- على شاطئ يالتا في أحد الأصياف، كيف يكتشف ببطء أنه التقى بامرأة حياته. وجوده يكتمل في حضورها، وتتمحور حياته حولها، وهي أيضا تدرك ذلك، ويشعران بأن القدر قد خلق كل منهما من أجل الآخر، وفي ذروة الاكتشاف تأتي الاستحالة، فقد أصبحا في نظر نفسيهما كطائرين مهاجرين وقعا في شباك صياد، الذكر في قفص والأنثى في قفص، وحاولا التفكير فيما يمكن أن يساعدهما أن يعيشا، لكنهما تحققا من أن النهاية ما زالت بعيدة، بعيدة جدًا، وكما يحدث حقيقة في الحياة وليس في القصص المعلبة نجد الاستحالة قائمة في لحظة الكشف ولا يملكان في مواجهة ذلك غير إرادتهما وأملهما في العيش معًا، ويعرفان أن ذلك يعتمد على جهدها ورغبتها الصادقة في خلق حياتهما معًا.

«الإرادة» هي أداة الإنسان في خلق ما يريد من حياة، في رسائلك لأخيك الموهوب الذي مات في ريعان الشباب كنت تؤكد هذا، في كثير من المواقف في قصصك تشير إلى أن الإرادة أداة فعالة وأن الحياة على ظهر الأرض يمكن أن تكون أقل شقاء لو انتبهنا وأردنا صادقين، كأنك كنت تحاول أن تبث فينا الأمل وأنت تبتسم ابتسامتك الماكرة لأنك بعد زيارة سخالين كنت متعبًا ومصدورًا ومدركًا أن الأمل باهت، وإن كان لا بد منه، إنه ضرورة –مجرد ضرورة- لكي يحيا الإنسان، إنه تجسيد لتوقه الشديد إلى الخير. الظمأ إلى الخير والعدل كامنان في أعماق الحياة البشرية، سيظل قائمًا هناك، ينزاح أمام الإنسان كلما تقدم خطوة إلى الأمام وكل ما يتحول إلى واقع من طموحات البشر يفقد بريقه ويثير من العثرات والصعوبات ما يستدعي شقاء جديدًا ورغبة جديدة في نفيه.

سيظل ما يتحقق من طموحك لأبناء وطنك وللإنسان في الأرض كلها مثل الرعاية الصحية والتخلص من التفاهة واللامبالاة والكسل والأنانية والحياة الخالية من المعنى، سيظل كلما تحول إلى واقع من تلك الطموحات خافتًا أمام الطموح الكبير إلى الخير المطلق والعدل المطلق، والحياة الإنسانية الكريمة. سيظل المطلق ينزاح أمام البشر كأنه السراب وسيظل البشر المشتاقون يظنون أنه عين الماء.

كنت تدرك هذا يا عزيزي بفطنتك وذكاء روحك ولهذا آثرت الرحيل مبكرًا بعدما قلت لزوجتك بلهجتك الخافتة: إنني أموت، بنفس النبرة البسيطة المباشرة التي يقول بها المرء إنني مصاب بالزكام، لأن عظائم الأمور مثل الموت والميلاد هي في النهاية تفاصيل على خلفية المشهد الكبير لحركة الكون، مثلما وصفت في قصتك «السيدة صاحبة الكلب».

بعد معايشة طويلة لأعمالك تنبهت إلى أن كل ما يحدث لنا يحدث على خلفية هذه الحركة الرتيبة للكون وهذه إحدى مواهبك التي ساعدتني كثيرًا، وصفك للمناظر والتماعات الأفكار ليست مجانية، إنها الأفق الذي يمكن فهم القصة من خلاله، وظهرت لي تلك الفقرة من قصة «السيدة صاحبة الكلب» على أنها تمثيل لروح القصة وجماع معناها: الحركة الرتيبة لموج البحر وهذه اللامبالاة بالحياة والموت يكمن فيهما سر خلاصنا الأخير وسر تيار الحياة على ظهر كوكبنا وسر حركته الدائبة أبدًا نحو الكمال. تنبهت بعد ذلك كيف تسللت هذه الفقرة وأصبحت أفقًا لتفكير يحاول أن يتبصر في العلاقات والأزمان وحالات البشر لا وفق وضعهم الاجتماعي فحسب بل وفق علاقة أشمل بوضعهم على ظهر الأرض وبزمنهم ولحظتهم التاريخية التي هي مجرد نقطة صغيرة في مسار الكون.

لقد فتنتني هذه القصة وغيرها من قصصك عندما تابعت كيفية صنعها، وأدركت أنك استنفدت نفسك في تقطير الحياة في قصص، وهذا هو السبب الذي عجل برحيلك، وطالما تعجب يا عزيزي من أنك قد تركت لنا هذه الثروة من الحياة المقطرة وغادرتنا في سن الرابعة والأربعين، لقد أخلصت لفنك بطريقة كان لا بد أن تستنفد عمرك.

في النهاية أريد أن اقول لك إن أعمالك لا يسري عليها القدم، لا تبلى أو تفقد بريقها، مهما مر عليها من زمن، مثل أساطير أزمان الإنسان الأولى، نتعب منها ونظن أننا عرفنا تفاصيلها وتشبعنا بها، ونبتعد عنها فترة من الزمن ويدفعنا شوق يثيره مشهد في الحياة أو فكرة نود التيقن منها، فنعود إلى أعمالك مرة أخرى، لنجدها تلمع من جديد بريقًا أخاذًا، حتى نظن أن فترة إهمالنا كانت من أجل أن يطليها النسيان بالبريق الذي محاه تحديقنا فيها، كأن الزمن وحوادث الأيام التي نعيشها تضخ فيها معاني لم نرها من قبل، فنعود بشوق ونقرأ بنفس الفتنة الأولى. ولم يكن هذا حالي وحدي بل حال كثيرين من من قابلت. سوف أخبرك بأن أحد أصحابي –كان مهندسًا شابًا صدمته سيارة في شوارع طنطا ذات ليلة وهو عائد إلى بيته- كان يحفظ قصة «الراهب الأسود» عن ظهر قلب وهو لم يعرف من الروسية حرفًا ويرددها بالعربية وهو مستلق على سياج الشرفة العريض في الطابق الأخير لإحدى عمارات المساكن الشعبية. ينظر إلى السماء ويتلو لنا القصة لكي يثبت أنه يحفظها عندما شككنا في صدقه.

ألا يفرح هذا صدرك المتعب وأنت تتجول هانئًا في ردهات الأبدية؟

أريد أخبرك أخيرًا بأنك تركت لنا ما يجعل حياتنا على ظهر الكوكب محتملة، ولولا ما تركته أنت وزملاؤك من المصورين والموسيقين والكتاب والشعراء لما تحمل المرء هذه الحياة.

اسمح لي أن أبعث إليك بورود المحبة، وكل ما أتمناه أن لا أكون قد غاليت في مشاعري أو تعبيري حتى أتجنب نظرتك الماكرة وبسمتك الساخرة.

سلام لروحك الرفيقة.

اقرأ المزيد: كلمة الروائي عادل عصمت بمناسبة تسلم جائزة نجيب محفوظ (2016)


[1]  ترجمة د. محمد القصاص.