رأيت نجيب محفوظ

قصة قصيرة لعادل عصمت

نُشرت في مجموعة «قصاصات»

تم النشر بإذن من الكاتب

يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بقصته دون إذن منه.

***

عن Qantara

كل من حلق شعره عند «حافظ» في صالون «فرندز»، يعرف حكاية لقائه بنجيب محفوظ. بعضهم قرأ القصة التي اطلع عليها «الأستاذ» بنفسه ومدحها قائلًا إنها قصة رمزية، ونصح «حافظ» بكتابة شيء عن الواقع. لكن الأغلب سمعوا قصة اللقاء بوصف دقيق، لم يختلف كثيرا بمرور السنين.

كان حافظ عائدًا في إجازة من الجيش، يمشي بسرعة باتجاه ميدان التحرير، ليلحق بأتوبيس يقله إلى رمسيس، عندما لمح نجيب محفوظ جالسًا داخل مقهي في ميدان التحرير. تلك لحظة لا يمكن نسيانها، توافقت مع حدث أخر، منحها سمة الترتيب القدري. في فجر نفس اليوم كان حافظ قد كتب قصة قصيرة أثناء خدمته الليلية، خطها بقلم جاف استلفه من خدمة السلاح. كان القلم يكب حبرًا فاندمجت بعض الحروف. لكنها لحظة إلهام لا تتكرر كثيرًا في حياة المرء.

الإدراك المفاجئ لتوافق الحدثين، دفعه بدون وعي تقريبًا، أن يدخل المقهي، ويقترب من الأستاذ معتذرًا وطالبًا دقيقة، يطلعه فيها على قصته. قد يكون الرداء الميري ومنظره المبهدل، والتوتر الذي يتركه الإلهام في الملامح هو ما جعل الأستاذ يقبل الطلب. أزاح بهدوء فنجان القهوة وسمح له بالجلوس. عندها ارتبك «حافظ». ضاعت لحظة الاندفاع، وبدأ التوتر. أخرج من جيب السترة العسكرية ورقة مطوية وناولها للأستاذ. قلب نجيب محفوظ الورقة بين يديه وقال: «سأسمعها بصوتك».

حافظ يقطع الحكاية هنا، ويصف صوت نجيب محفوظ الرخيم الهادئ، ونظرته الطيبة، ويصف شعوره بالقلق، وإحساسه كأنه قد وقع في امتحان وهو بطبيعته يكره الامتحانات وإلا لما كان هذا حاله. تغلب على قلقه وقرأ القصة والرجل ينصت إليه بجد. سادت لحظة صمت وأصبح حافظ في غاية الخجل من نفسه، وفكر بأنه ما كان يجب أن يدخل المقهي ويقطع على الرجل خلوته. قضى لحظات صعبة في انتظار نتيجة الامتحان. رفع نجيب وجهه وقال بصوت ازداد رخامة وعمقًا وجدية، إنها قصة رمزية، وأخبره بأنه يمكنه أن يكتب قصصًا واقعية.

لم يشعر حافظ في حياته بحالة انفعال وبهجة جذبته خارج نفسه على هذا النحو، كأنما تخفف من كل الهموم؛ من صعوبة أيام الجيش ومن قلقه على المستقبل، كأنما يطل على الدنيا من فوق هضبة، بعيدًا وفرحًا، يقدر على فعل أي شيء. كان منفعلًا حتى أنه فوَّت على نفسه عدة أتوبيسات ذاهبة إلى مدينته قبل أن يفيق من الذهول، ثم استبدت به حالة من القوة والثقة بأنه يمكنه أن يكتب قصصًا واقعية. عاونته تلك الثقة أن يجتاز ما بقي من مدة التجنيد، واستحضرها كلما هبطت معنوياته.

حكي حافظ القصة طوال تلك السنوات بنفس التفاصيل، ابتداء من معسكر الجيش حتى عمل حلاقًا في محل فرندز. حُملت قصته إلى الصعيد مع زملاء الجيش وسافرت بلادًا بعيدة مع أبناء الحتة ورفاق المدرسة الذين رحلوا إلى الخارج وعرفها زبائنه الذين لم يكن لهم حظ مرافقته أثناء تلك الفترة المبكرة من حياته عندما كان مغرمًا بكتابة القصص، حتى وصل حافظ إلى مشارف الأربعين من العمر، واستقر في الأذهان أخيرًا أن تلك الرغبة في كتابة القصص سوف تستمر مجرد رغبة، وأنه لن ينفذها، فربما اكتفي بقصة نجيب محفوظ بديلًا عن القصص التي يجب عليه أن يكتبها.

تقابلَت قصة حافظ مع قصص أخرى لشباب آخرين تقابلوا مع الأستاذ أثناء دراستهم في القاهرة. واحد منهم كان يدرس الهندسة في جامعة الأزهر، وكان يلتقي مع رفاقه في مقهي قريب من دار الإفتاء ليتدربوا على العزف على العود. كان نجيب في ذلك الوقت يزور مكتبة دار الإفتاء، وفي الظهيرة يأتي ليجلس في نفس المقهي. ذات يوم سأل أحدهم: مش ده نجيب محفوظ؟. انتبه الأستاذ واستدار إليهم قائلًا: «مساء الخير». تشجع الشباب وجلسوا معه. طلب منهم أن يسمعوه بعضا من عزفهم. أخبره أحدهم بأنه يكتب القصص. قال نجيب: إن كنت تمتلك موهبة فهذا حظ جيد، وإن كنت لا تملكها وترغب من كل قلبك أن تكتب القصص، تمرن حتى تتقن هذا الفن، مثل العزف، حتى لو كتبت أخبار الجرائد في شكل قصص.

لم يكن لهذه القصة حماسة قصة حافظ، لم يكن لها هذا الوقع المثير المباغت كالإلهام، واحتفظت قصة حافظ بجاذبية خاصة لأنه يشحنها على الدوام بإعادة بعثها والتأمل في تفاصيلها، خاصة ذلك الفرح الذي استبد به بعد اللقاء. يخرج الورقة التي تهرأت بمرور السنين كي يريها لمن يظهر في عيونهم شك من أنه كان يكتب القصص ذات يوم.

الأمل الذي بعثه لقاء نجيب محفوظ لا زال حيًا، ولا زال حافظ يؤكد بأنه سوف يكتب القصص ذات يوم، عندما يفرغ من هموم الحياة وإن لم يتمكن من ذلك فعلى الأقل سيكتب قصة واحدة: قصة محمد غباشي. تلمع عيناه ذات الحدقات الواسعة، ويقول بتصميم إن حياته لن يكون لها معنى إن لم يتمكن من كتابة هذه القصة.

محمد غباشي كان سيصبح أعظم كاتب، أعظم من محفوظ نفسه، لولا الموت الذي اختطفه بلا مبرر، ويحكي حافظ بدهشة عن اللحظة العبثية التي أودت بحياة صديقه عندما صدمته سيارة أمام مستشفى الحميات عندما كان عائدًا ذات ليلة من القاهرة.

سيكتب حافظ القصة، لا بد أن يكتبها، سوف يحكي عن ألعاب الطفولة أيام بناء مستشفى الهلال، وينقل جو مساكن البطرويشي، ويتوقف عند الفترة التي تعلقوا فيها بقصص تشيكوف، سيعيد تجسيد حياة مضت وكيف تربص بها الموت بطريقة غريبة. سيعيد حساب تفاصيل تلك الليلة التى مات فيها محمد غباشي، لكي يُظهر عبث الحياة، فلم تكن نسبة موته تتعدي الواحد في المائة، سيكون الوصف كله من أجل الإجابة عن السؤال المفجع: كيف يمكن لشخص أن يخرج في الصباح ثم لا يعود؟

من يسمع تلك التفاصيل لا بد أن يصدق أن حافظ سوف يفعلها، وأنه قريب جدًا هذا اليوم الذي سيترك فيه محل الحلاقة وبيت العائلة ويسافر بعيدًا ليكتب قصته، بادئًا بالمشهد الشهير الذي رواه عشرات المرات، عندما كان غباشي يرقد على السياج العريض للشرفة في الطابق الأخير، ويراقب نجوم السماء ويقرأ من الذاكرة قصة الراهب الأسود لأنطون تشيكوف.


اقرأ المزيد: كلمة الروائي عادل عصمت بمناسبة تسلم جائزة نجيب محفوظ (2016)