تحت اﻷسفلت يوجد الشاطئ.. تأملات في ميراث مدرسة فرانكفورت

مقال: سيلا بن حبيب*

عن موقع Boston Review

* سيلا بن حبيب، فيلسوفة أمريكية من أصل تركي-يهودي. تشغل اليوم أستاذية كرسي يوجين مائير للفلسفة السياسية والفلسفة بجامعة يال الأمريكية. لها العديد من الأعمال الهامة، منها فيما يخص النظرية النقدية ومدرسة فرانكفورت بصفة خاصة «النقد، المعيار، واليوتوبيا» (1986).

ترجمة: تامر موافي

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.

***

كان مايو 1968 هو إشارة الصحوة لجيلنا. كنت حينها طالبة مستجدة بالكلية الأمريكية للفتيات في إسطنبول، أستشعر رياح الثورة كشابة يهودية في مجتمع ذي أغلبية مسلمة، وبسبب العداء لأمريكا الذي تسببت به الحرب على فيتنام، كنا نتبادل صور القصف بالنابالم على الأطفال والبالغين الفيتناميين في استراحة الغداء، وعندما خطط الأسطول السادس الأمريكي لزيارة إسطنبول، وقبض البوليس على العديد من أصدقائنا الحميمين وأقاربنا وآخرين، تزايد شعورنا بخيبة الأمل والمعارضة للسياسات الأمريكية.

وبينما عشنا في إسطنبول، كنا نعلم أن العالم يشتعل. سحقت الدبابات السوفييتية الإصلاح وتجربة «الاشتراكية ذات الوجه الإنساني» تحت حكم ألكسندر دوبتشيك في براغ. أنشأ الطلبة في باريس الحواجز وواجهوا الشرطة، وتحدت حركة الثقافة المضادة في أمريكا بؤس الحشمة البرجوازية. وكان الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني المستمر مدمرًا بشكل شخصي: فقد خشيت على استمرار وجود إسرائيل بعد حرب 1967، بينما شعرت بالامتعاض الأخلاقي والألم للقمع والاحتلال ضد العرب الفلسطينيين.

شهد مايو 1968 ثورتنا ضد الانقياد القمعي للسلام الأمريكي بعد الحرب. وتطلعنا إلى التحرر من روح الاستهلاكية، وقيود الأبوية، والعائلة البرجوازية، والقومية، والعسكرة، وأمور أخرى كثيرة. ولم يعبِّر أي تراث نظري عن الطموحات التي تشاركتها مع كثير من المعاصرين لي بقدر النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت. وبدأت رحلتي الفكرية من إسطنبول إلى فرانكفورت بكتاب هربرت ماركيوز «الإنسان أحادي البعد» (1964)، والذي قرأته في هذا الربيع المصيري.

***

كانت النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت خليطًا من التأمل الفلسفي والبحث في علم الاجتماع، وُلدت كرد فعل للكارثة الأوروبية في القرن الماضي: فشل الطبقات العاملة الأوروبية في مقاومة صعود الفاشية (باستثناء القوى الجمهورية في أسبانيا التي قاومت ولكنها هُزمت)؛ وعمى البرجوازية وكبار الرأسماليين الذين خدعوا أنفسهم ليظنوا أن بإمكانهم استغلال النازية لتحقيق أغراضهم، والهولوكوست ضد يهود أوروبا.

كان تحويل مفهوم النقد في مركز هذا المشروع السياسي والنظري، فقد أتمت مدرسة فرانكفورت ثورة في نظريتي المعرفة والوجود بدأت بإمانويل كانط؛ فمهمة «نقد العقل الخالص» لكانط كانت وضع حد للادعاءات النظرية للعقل حتى تفسح المجال لإيمان يدعم الحرية والأخلاقية. وطَرَح كانط أنه ليس بإمكاننا مطلقًا أن نقر بيقين نظري أن لنا إرادة حرة؛ كما لا يمكن إثبات خطأ هذا الادعاء، ومن ثم يبقى متاحًا لنا أن نتصرف بإيمان عملي بأننا أحرار: أننا يمكن أن تحركنا دوافع عقلانية، ونؤكد استقلاليتنا، ونحقق مطالب الأخلاقية. فالنقد بالنسبة لكانط هو في خدمة الاستقلالية: وحدها الممارسة النقدية للعقل يمكنها إنقاذنا من عبوديتنا التي نفرضها على أنفسنا، للمعتقدات الزائفة في السلطة والدين والتراث.

يقدم ماكس هوركهايمر في مقاله «النظريات النقدية والتقليدية» عام 1937، بيانًا مقنعًا بصفة خاصة لفهم مدرسة فرانكفورت للنقد المتجاوز لكانط، مقتفيًا أثر هيجل والماركسي العبقري جورج لوكاتش. يدافع هوركهايمر عن برنامج للفكر النقدي يتجاوز مفهوم كانط للحرية، فقد طرح لوكاتش أن رؤى كانط عن الحرية كانت محدودة لأنه افتقر إلى مفهوم للممارسة -أي فاعلية إنسانية متموضعة تاريخيًا واجتماعيًا. فنحن لسنا فقط ذواتًا لها حرية أخلاقية، وإنما نحن ذوات تاريخية نعبر عن حريتنا بتحويل العالم الخارجي من خلال صور متنوعة من النشاط الإنساني الفردي والجماعي-بما في ذلك العمل، الثقافة، الدين، والمؤسسات السياسية.

إنجاز هوركهايمر البارز في «النظريات التقليدية والنقدية» هو تطوير فلسفة الممارسة هذه إلى نقد لنظرية المعرفة عند معاصريه-كل من العلوم الاجتماعية الوضعية وكذا فينومينولوجيا إدموند هوسرل. فهوركهايمر يضع البحث النقدي مجددًا في خدمة الاستقلالية والتحرر، ويطرح أن المعرفة التحررية تساعد في نزع قداسة الموضوعية المفترضة للعالم الاجتماعي، وقبل أي شيء، عما يسمى «قوانين» الرأسمالية. وبكشف أن عالم الحقائق الاجتماعية لا تحكمه قوانين الطبيعة وإنما هو الأثر التاريخي لعمل البشر أنفسهم، سيكون بالإمكان إنهاء الاغتراب عن واقع اجتماعي يهيمن على البشر، وإنهاء الإذعان له.

طموح هوركهايمر المبهر كان تحويل المثالية الألمانية إلى نظرية نقدية للمجتمع، ولكن هذا البرنامج توقف عن أن يكون مقنعًا حتى في حياة الأعضاء الأوائل لمدرسة فرانكفورت. فعلى خلاف ماركس في شبابه وكذلك على خلاف لوكاتش، لم تتمكن مدرسة فرانكفورت من رؤية ذات تاريخية ثورية تنهي اغتراب العالم وتضع حدًا للهيمنة الاجتماعية. وبحلول الوقت الذي ألف فيه تيودور أدورنو وهوركهايمر كتابهما «جدل التنوير» في المنفى بكاليفورنيا في أربعينيات القرن الماضي، انقلب برنامج فلسفة الممارسة التحررية إلى النقيض، فالسيادة البشرية على الطبيعة قد تحققت بثمن، وهو القمع الداخلي؛ والحضارة لم تكن عملية أنسنة وإنما تطور قاتم لقمع وضبط النفس يعلن عن نفسه لاحقًا في نوبات من العدوان العنيف نحو هؤلاء «الآخرين» الذين يهددون التماسك الهش بالفعل للذات المتحضرة. وفي أحد «التعليقات» الملحقة بالنص تحت عنوان «أهمية الجسد» كتب أدورنو وهوركهايمر، بشكل لا يُنسى: «إن لأوروبا تاريخين: تاريخ مكتوب وشهير وآخر خفي. ويتشكل هذا الأخير من مصائر الغرائز والعاطفة الإنسانية التي أزاحتها الحضارة وشوهتها».

«جدل التنوير» هو نص عابر إلى مفهوم أوسع للنظرية النقدية-للمعرفة المضادة والتحررية-التي ظهرت في العقود الأخيرة من القرن العشرين. وبرغم أن ميشيل فوكو قال مازحًا إنه لم يقرأ مطلقًا «جدل التنوير» (الذي نُشر في 1944)، فإن عمله فد استبدل الذات الخلاقة التي أخذها هوركهايمر عن هيجل، وماركس، ولوكاتش، بنظرية عن كيف تُخلق الذاتية. فالتاريخ، في طرحه، ليس سجلًا لمنجزات ذات جماعية أو متفردة؛ إنما تشكله سلسلة من النظم المعرفية-تشكيلات للسلطة/المعرفة-كل منها يشكل تفهمات مختلفة للمعرفة والفعل. وفي مقاله «نيتشه، الجينيالوجيا، التاريخ»، يوضح فوكو أنه بينما تحفر الأركيولوجيا في طبقات ما هو بادٍ في الحاضر، تبحث الجينيالوجيا عن الانقطاعات والإزاحات بين المصدر والظاهرة. تبحث الجينيالوجيا عن البزوغ (Herkunft)، ولكن البزوغ لا يعني تطورًا انسيابيًا من أصل معروف (Ursprung). فكما أنه ليس ثمة سردية متصلة يمكن روايتها عن ذات جمعية موحدة تتكشف في التاريخ، فإن الجينيالوجيا أيضًا لا تتقصى خطًا غير منقطع من التطور من الماضي إلى الحاضر، مقدمةً سردية للمعرفة المحسنة والتقدم الأخلاقي. بدلًا من ذلك يتشكل المجتمع بواسطة سلسلة متقطعة ومتشظية من تشكيلات السلطة/المعرفة، مليئة بالإزاحات والمحو. ليست المعرفة تحررية فقط وإنما ضبطية أيضًا؛ ويمكن للسلطة فقط أن تواجه السلطة. وكما كتب في «المراقبة والعقاب» (1975): «التنوير، الذي اكتشف الحريات، اخترع أيضًا الضبطيات».

ثمة قرابة طبيعية بين السردية-الضد عند فوكو عن التنوير، وبين ما بعد الكولونيالية ونظرية العِرق النقدية المعاصرتين، فكلاهما يحثاننا على النظر إلى التحديث الأوروبي عند أطرافه كما في مركزه. وفي أفضل حالاتها تخلط نظرية ما بعد الكولونيالية التمييز بين المركز والأطراف بالكامل. فقد أصبحت تناقضات التنوير جلية، ففي الوقت الذي كانت فيه القوى الأوروبية تبني جمهورياتها (البريطانيون، الفرنسيون، الأسبان، الهولنديون، وفي وقت متأخر نوعًا الألمان والإيطاليون)، استحوذت هذه القوى أيضًا على إمبراطورياتها وواجهت اختلافات جذرية في العرق واللون والثقافة. فالإمبريالية تكشف عن حدود كونية التنوير. وحسب ديبيش شاكرابورتي فإن أوروبا «احتاجت إلى أن تصبح محلية» حتى تدرك كونية حقيقية تشمل كل الإنسانية وليس فقط المسيحيون الذكور البيض.

تحمل نظرية ما بعد الكولونيالية أيضا ملامح قرابة لواحدة من أكثر النظريات النقدية تأثيرًا في فترة ما بعد مدرسة فرانكفورت، وهي منهج جاك ديريدا في «التفكيك». فديريدا يحوِّل «النقد الضمني» لهيجل إلى تفاعل بين النص وبين خارجه المُشكِّل له. بالنسبة لهيجل ثمة في أي صورة للحياة ما هو أكثر مما يمكن للمشاركين فيها أن يدركوه بفكرهم. ويتكشف النقد الضمني من خلال التناقضات التي يواجهونها بينما يهدفون إلى فهم عالم يمكنهم فقط إدراكه بشكل ناقص؛ ويمكن فقط لجدل الفكر هذا أن يُستخلص عندما يتفق الفكر مع الواقع، وهو ما افترض هيجل أنه سيحدث في صورة حياة عقلانية بشكل كامل. يحوِّل ديريدا فكرة أن ثمة دائمًا ما هو أكثر مما ندركه بفكرنا إلى دليل لقراءة النص، فيوضح ديريدا أن مواضع الصمت والفجوات في نص هي إحالات إلى ذاتية مقموعة ﻵخرين يتلبسون الهوامش والملحقات والحواشي. إن للتفكيك إذن محورًا أخلاقيَا: أن يصبح كشف هوامش النص مشروع نقد «العقلانية الغربية الذكورية». 1

إضافة إلى جينيالوجيا فوكو، ونظرية ما بعد الكولونيالية والتفكيكية، فإن النظرية النسوية المعاصرة هي صورة هامة للنقد، ومثل هذه المقاربات الأخرى تهدف النظرية النسوية إلى نزع القداسة عن علم الإنسان البطولي الذكوري2 الذي يقود نموذج تحويل الإنسانية للطبيعة من خلال الممارسة. فقد كان النموذج الضمني خلف الممارسة هو العمل البدني مثل البناء والإنشاء، أو الصنع بصفة عامة. أما العمل المنزلي للنساء، الذي هو أيضا صورة من العمل البدني الذي يحفظ ويصلح ويدعم العالم اليومي -وكذا العمل في حمل وتربية الأطفال وإدامة العلاقات الحميمة- فقد تم تجاهله. وتتطلب النظرية النسوية مراجعة جذرية لعلم الإنسان الفلسفي الماركسي المتعلق بالعمل.

يُقصد بملاحظاتي المختصرة عن النظريات النقدية في فترة ما بعد مدرسة فرانكفورت فقط اقتراح أن بالإمكان النظر إليها على أنها إعادة تشكيل لمشروع نقد شرع فيه كانط وأعادت مدرسة فرانكفورت استخدامه. وليست هذه إستراتيجية واسعة الانتشار لقراءة التعددية المختلف عليها للمقاربات التي تموضع نفسها في المساحة بين النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، وجينيالوجيا فوكو وتفكيكية ديريدا. ولست أطرح أن بالإمكان تجاهل هذه التعددية التنافسية والمختلف عليها. فأنا نفسي قد انخرطت في عديد من السجالات الخلافية مع زملاء لي. وإنما أطرح أن علينا قبول الاستقطابية المشروعة والكاشفة للنظريات النقدية. إن المشروع التحرري في عالم العولمة-وهو علم تواجه فيه العديد من الحضارات وصور الحياة بعضها البعض باستمرار، وفيه تعبر ذاتيات جديدة تمثلها النساء والأقليات الجندرية والجنسانية والجماعات الإثنية والعنصرية، عن نفسها من خلال سرديات متنافسة- هذا العالم لا يمكنه تجاهل دروس الجينيالوجيا، وما بعد الكولونيالية، والنظرية النسوية، أو أن يهمل المعنى الأخلاقي للتفكيكية.

ولكن أيًا من هذه المقاربات لا ينجح في تحقيق أحد الموروثات اﻷساسية للنظرية النقدية الاجتماعية والذي عرفه هوركهايمر قائلًا إن النظرية النقدية للمجتمع تُطور حكمًا وجوديًا على «فترة تقترب من نهايتها». فينبغي على النظرية النقدية أن تكون أيضًا نظرية أزمات. وقد كانت استعادة هذه الصلة بين النقد والأزمة في نظرية للمجتمع واحدة من اسهامات يورجن هابرماس العديدة الباقية.

يطرح هابرماس في كتابه «أزمة الشرعية» (1973) أنه في مجال علم الاقتصاد وفي الإدارة، عَنَت الأزمة الإخفاقات الوظيفية، والانسدادات، والانهيارات الاقتصادية المفاجئة، وعدم القدرة على توقع وإخضاع العواقب غير المتعمدة للإدارات والفاعليات العامة والخاصة. ولكن الأزمات الاجتماعية التحويلية تتطلب ما هو أكثر: اختراقًا في إحساسنا بالمعنى المشترك، في قدرتنا على التواصل والتفاعل دون تشتيت، في قابليتنا لأن نتنبأ بصور مستقبلية من الحياة السعيدة والتضامن. إن الحركات الاجتماعية التحويلية تنشأ -إذا ما نشأت من اﻷصل- كاستجابة لخيبات أمل وإحباطات عالمنا-المعيش3 الاجتماعي (Lebenswelt)، وليس فقط استجابة للإخفاقات الوظيفية الاقتصادية أو لفشل الإدارة العامة أو الخاصة. ويطرح هابرماس أن أزمة شرعية ستنشأ عندما لا يعود بالإمكان تجاهل الفشل في حل المشكلات العملية-الأزمات الاقتصادية وعدم قدرة الدولة على ضمان وظائف آمنة، وإسكان ملائم، وتأمين صحي وتعليم للجميع (ويمكن اليوم أن نضيف بيئة مستديمة والحفاظ على كوكب الأرض كموطن لنا)-وذلك بواسطة ثقافة الانسحاب إلى حميمية العائلة، وعدم الاكتراث وغياب التضامن مع الآخرين. إن أزمة الشرعية، تلك التي تؤدي إلى حركات معارضة، تطلبت كل من خيبة الأمل الجذرية في القيم الثقافية المتاحة ونزع القداسة عن الأيديولوجيات العامة لمجتمعات الرأسمالية المتأخرة.

النظرية التي طورها هابرماس للفعل التواصلي وأزمات النظام والعالم-المعيش فد تصورت تعددية للذاتيات المعارضة وودعت أسطورة الطبقة العاملة الموحدة كذات متميزة لتحويل العالم. وقد اعترف آخرون أيضا بتعددية النضالات التحررية دون تناغم مضمون. وما تختلف فيه نظرية هابرماس عن النظريات النقدية الفوكوية والدريدية هو في إصرارها على أن النضالات التحررية المعاصرة ينبغي أن تُبني على التراث المتناقض والناقص للديمقراطيات الدستورية. إن أزمات الشرعية في الديمقراطيات الرأسمالية لا ترفض ميراث الدستورية الجذرية وإنما تسعى إلى إعادة إحياء شرارة الطاقات المدنية-الجمهورية التي عملت سابقًا على خلق النظم الدستورية.

***

لقد انتُقدت نظرية هابرماس للفعل التواصلي لمركزيتها الأوروبية. ويسيء هذا النقد فهم أن مفاهيم مثل العقلنة، النظام، العالم-المعيش تصف عمليات ليست مركزية أوروبية فحسب بل هي تطورات للحداثة العالمية. فقد كان للاقتصاد الرأسمالي منذ البداية انتشار ديناميكي عالمي. وقد أصبحت الدولة الحديثة وأجهزتها القضائية والإدارية المطمح العام لكثير من المستعمرات السابقة التي حررت نفسها من تراثها الاستعماري. ولا ينبغي لنظريات الحداثة البديلة أن ترفض النفع التحليلي لهذه المقولات. فنماذج الحداثة البديلة تكون نافعة بأكبر قدر عندما تعلمنا بالتشكيلات المؤسسية والتنظيمية المختلفة للدول والأسواق والمجتمعات المدنية في السياقات الغربية وغير الغربية والعالمية. ولكن التوصيفات التاريخية للحداثات البديلة لا يمكنها أن تكون بديلًا لمقاربة نقدية تحاول إيجاد الإمكانات التحررية والمعارضة لهذه التحولات. إن تهمة المركزية الأوروبية تسيء فهم هذا التجريد المنهجي الذي يطوِّر هابرماس من خلاله نظريته لأزمات النظم والعالم-المعيش.

مستلهمة هابرماس وكذلك هانا آرندت حاولت في عملي طوال العقدين الأخيرين أن أتجاوز القومية في علم الاجتماع بمساءلة المواطنة، والهجرة، وحقوق اﻵخرين في السياق العالمي اليوم. إن حدود الفرد السياسي -حدود الذات في حكومة ذاتية ديمقراطية- لم تتشكل ديمقراطيًا من خلال تمكين أصوات كل المعنيِّين. فقد كانت الأمة هي الهوية الجمعية المميزة التي زرعت نفسها في الفجوة بين الديمقراطية المثالية بوصفها الانصياع لقوانين أتت من جميع المتأثرين بها، وبين واقع المشاركة السياسية المغلقة المؤسسة على ميزة الانتماء إلى الأمة. هذا التفاعل بين الصوت الديمقراطي والانغلاق القومي هو عملية عالمية نراها في القومية التركية كما نراها في القومية الهندوسية، وفي المركزية العرقية اليابانية كما في المركزية العرقية الألمانية المتزايدة. فالغرب لا يحتكر الحدة الوحشية للقوميات.

يرى دارسو كارل شميدت على اليسار واليمين في مثل هذه العمليات التناقض الضروري بين الديمقراطية والليبرالية. فهم يطرحون أنه بينما تفترض الديمقراطية دائمًا ذاتًا جمعية محددة، «نحن» المتميزة عن «هم»، فإن الليبرالية كونية: فهي تفترض انتماءً غير محدود لأفراد ذوي حقوق. وتبدو الديمقراطية الليبرالية كتناقض اصطلاحي. وليس هذا المقال هو المكان المناسب لإيضاح كيف يسيء هذا الجمع التراكمي في تمثيل تعقيد النضالات الديمقراطية المعاصرة حول حدود الفرد السياسي. ولكنني أرغب في تأكيد -كما أظن أني كنت سأفعل في 1968- أنه إذا ما كان علينا اعتناق الشك في حقوق الإنسان الكونية (كما يفعل ذلك الكثيرون اﻵن)، فلسوف نمتلك أدوات مفاهيمية قليلة للغاية نواجه بها شعبوية اليمين الأوروبي، والقومية التركية المتوحشة، والشوفينية الهندوسية، وانعزالية أمريكية عنصرية ورجعية تهدف إلى إبقاء الهيمنة البيضاء بغلق حدودها في وجه الملونين من أنحاء العالم.

***

إن النظام (أو اللا نظام) العالمي لما بعد الحرب العالمية الثانية مهلهل اليوم. وتعلن حرب جديدة للقوى العظمى عن نفسها، متنكرة في الوقت الحالي في صورة حروب تجارية. وقد كان اليسار دائما يتشكك-بشكل مبرر في حالات عديدة- في مؤسسات الحوكمة الدولية مثل الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية ومنظمة التجارة العالمية. ولكن النظام العالمي اليوم يجد نفسه على هامش التاريخ يراقب الصدام بين الولايات المتحدة والصين من جانب والتوسع المتزايد للشعبوية السلطوية من المجر إلى تركيا ومن الفلبين إلى بولندة، ومن روسيا إلى سنغافورة، على الجانب اﻵخر. ولسوء الحظ ليس لدينا حتى اﻵن إلا القليل جدًا لنقوله عن شكل عالم بديل يمكن فيه للحرية والعدالة أن تسكننا مؤسسات تتجاوز المواجهات الوحشية للقوى العظمى. فنقد اليسار للعولمة النيوليبرالية عليه أن يمتد إلى تصور مؤسسات عالمية للسيطرة على الرأسمالية على مستوى عالمي، ولتشجيع نمو لكوكب الأرض مستديم وملائم بيئيًا بين الشعوب، ولدعم منظومة حقوق الإنسان العالمية.

كما سبق لآرندت أن لاحظت، ليس التحرير هو نفسه الحرية. فالحرية تتطلب خلق مؤسسات وممارسات؛ وهي تتعلق بتشكيل عوالم جديدة مستديمة. وهذه مهمة على كل جيل أن يتحملها من جديد. ولست أشارك في «ميلانخوليا اليسار» الشائعة اليوم، على غرار عنوان مقال فالتر بنيامين، الذي أصبح شهيرًا اليوم مجددًا بفضل وصف إنزو ترافيرسو الدقيق والمؤثر لرحيل المشروعات الاشتراكية والشيوعية التقليدية عن عالمنا. إن مهمة النقد لا نهاية لها؛ وهي تحتاج إلى مواجهة صور متجددة دائمًا من الغبن، والقمع، والاستغلال، والإقصاء، والتهميش. ولا يعني التحرر فقط التحرر من مثل هذا الغبن والقمع والاستغلال والإقصاء والتهميش، وإنما أيضا امتلاك الشجاعة لبناء عالم جديد تسكنه الحرية.

أحد شعارات حركة الطلاب الألمانية الشهيرة، والذي استخدمه في الأصل الموقفيون4 الفرنسيون في الستينيات هو "Unter dem Pflaster liegt der Strand"- تحت الأسفلت يوجد الشاطئ. وما زلت أبحث عنه.


  1. حرفيًا "القضيبي-المركز"، وهو مفهوم يشير إلى مركزية القضيب الذكري كرمز لقانون الأب عند جاك لاكان. (المترجم)
  2. حرفيًا «البروميثي» نسبة إلى بروميثيوس نصف الإله الإغريقي الذي تنسب إليه الميثولوجيا اﻹغريقية أنه سرق النار من اﻵلهة ومنحها للبشر. (المترجم)
  3. العالم-المعيش Lifeworld هو مفهوم مركزي في فلسفة هابرماس ويحمل المجلد الثاني لكتابه الرئيسي «نظرية الفعل التواصلي» عنوان «العالم-المعيش والنظام». وبشكل مبسط يُقصد بالعالم المعيش الخبرة المشتركة لأفراد جماعة بشرية بالعالم وما هو صحيح أو خاطئ  بخصوصه. (المترجم)
  4. الموقفية Situationism حركة اجتماعية ثورية بارزة في أوروبا تشكلت في عام 1957 واستمرت حتى حل الأممية الموقفية في 1972. وضمت في معظمها عديدًا من الفنانين والمفكرين والأدباء والمثقفين واستمدت في الأساس من اتجاهات في الفن الحديث في بداية القرن العشرين منها الدادية والسوريالية.