الوجه الآخر لفرانز كافكا

مقال لمينا ناجي

خاص بـ Boring Books

يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه.

***

حين كتبت بشكل حر على حسابي الشخصي، انطلاقًا من مقترح صديق، عن أشخاص في حياتي تركوا أثرًا أو يلحوا عليَّ بوجوههم أو كلماتهم، وغابوا عنها لسبب أو لآخر، بزغ لي من بين الوجوه وجه الكاتب التشيكي فرانز كافكا.

فكرتُ بالبداية ربما لأن كافكا هو كاتبي المفضل، بما في ذلك من طفولية فكرة «الكاتب المفضل» التي أحب التمسك بها، لكن بعد قليل وجدت أنه بالفعل كان هناك لقاءً بيني وبينه عبر الكتب التي تركها وراءه، تخطت حدود الجغرافيا والزمن، لقاء بين شخصين يواجهان نفس الحياة عبر لغات وتواريخ مختلفة. ووجدت أن في ذلك فرصة كي أتكلم عما يمثله لي كافكا بشكل شخصي، أو ما أراه الوجه الآخر له، غير ما هو شائع عنه.

-1-

كثيرون يتحدثون أو يكتبون عن البداية المدهشة لقصة (التحول) التي كانت منعطفًا بارزًا في تاريخ أدب القرن العشرين، عن جريجور الذي يستيقظ من النوم فيجد نفسه قد أصبح حشرة ضخمة. لكن قليلون بالفعل من تكلموا عن النهاية الغريبة للقصة، أو فقرتها الختامية، والتي يمكن ترجمتها كالآتي:

«حينما كانا يتحادثان، خطر لكل من مستر ومسز سامسا، تقريبًا في الوقت ذاته، وقتما انتبها لحيوية ابنتهما المتزايدة، إنه بالرغم من كل أحزان الفترة الأخيرة، التي جعلت وجنتها تشحب، فأنها قد تبرعمت إلى فتاة جميلة بهيئة حلوة. سَكِنا وتبادلا بنصف وعي نظرات الوفاق التام، بوصولهما لاستنتاج أنه قريبًا سيكون حان الوقت للعثور على زوج جيد لها. وكان مثل توكيد على أحلامهما الجديدة ونواياهما الممتازة أنه في نهاية رحلتهما، وثَبت ابنتهما على قدميها ومطَّت جسدها الشاب».

غرابة الفقرة الأخيرة -والتي كان وقعها كبيرًا عليَّ أثناء قراءتها- تنبع بأنها مغايرة لأجواء القصة الطويلة كلها. فقرة مليئة بالانطلاق والصحة والمساحات المفتوحة كما أنها مليئة بالأمل والإشراق والتطلع للمستقبل. لماذا وضع كافكا تلك النهاية «الغريبة» لقصته الأكثر سوداوية وانقباضًا وكلستروفوبيّة؟ يمكن محاولة الإجابة عبر شقين:

الشق الأول يمكن العثور عليه في مفتتح النَص الأشهر لمَعلم آخر من معَالم الحداثة الأدبية، الشاعر الإنجليزي ت. س. إليوت، وهو (الأرض الخراب):

«أبريل أقسى الشهور، ينبت

 الليلك من الأرض الميتة، يمزج

 الذكرى بالرغبة، يحرك

 الجذور الكابية بمطر الربيع».

هناك تشابهات بين نهاية قصة كافكا وبداية قصيدة إليوت: في الحالتين، توجد الخلفية القاتمة الميتة المجدبة، (موت البطل/الحشرة في قصة كافكا)، والتي يظهر عبرها تبرعم زهرة فتية يانعة. وفي الحالتين، هذا الإثمار والتجدد لا يكشف (بقسوة بحسب إليوت) سوى خواء وموات الماضي القريب، نور أمل المستقبل هذا لا يشدِّد سوى على ظلمة ما جرى من «أحزان الفترة الأخيرة». باختصار نحن أمام مفارقة تراجيدية بحجم الحياة والموت.

ربما كان الأمر متعلقًا بالمفارقة التاريخية الكبرى لوضع الحداثة ككل، فحين وصلت البشرية لقدرة على تملك ذاتها، لعقلنة والسيطرة على مقدراتها في مواجهة الطبيعة وما ورائها، في ذروة تبرعم البشرية، كان الخراب والدمار وفقدان كل شيء، روحيًا ومعنويًا. حروب ومذابح وكوارث على مدى كاسح غير معقول، وهذا الوعي القارص بفوات الوقت، بسخرية التاريخ السوداء، بالإمكانية أن تكون الحياة أفضل، لكن ليس لنا.

وهذا هو الشق الثاني لدلالة الفقرة الأخيرة في (التحول): المؤلم حقًا أن يقع الخضار والسلام والشمس في الخارج، لكن نحن في الداخل بلا قطرة ضوء ولا أمل، نحن المتروكين والمنمسخين بلا سبب نُدهَس كحشرة مقززة من الوجود. فما يمكن استشفافه من الفقرة هو أن والديَّ جريجور لم يكونا شخصين شريرين، قتلة لابنهما بلا شفقة، بل والدين طيبين وبسيطين يحلمان بالأفضل لأولادهما. ما تتمناه دومًا أمام عينيك العاجزتين؛ ما يؤلم حقًا هو أن تكون الحياة جميلة.

يقول كافكا لصديقه ماكس برود: آه، الكثير من الأمل، قدر لا نهائي من الأمل.. لكن ليس لنا.

-2-

في رواية مصرية ديستوبية شهيرة ظهرت في السنوات الأخيرة، قام صاحبها بوضع ملامح كابوسية ودموية قاتمة لمستقبل قريب، واستمر في تصعيد هذا الخط بلا توقف على طول الرواية، حتى أنه وصل إلى كتابة ميتافيزيقية جوهرها أن الحياة بؤس وعذاب لا ينتهي، للجميع، وبلا فرصة للنجاة. وأنا في منتصف الرواية فَقَدَت كل السوداوية قوتها معي، وأصبح السرد كاركاتوريًا، سوادًا فوق سواد حتى فقد الأسود معناه وتأثيره. تساءلت -وهذا التساؤل يعني أن العمل به مشكلة بالنسبة لي- لماذا كتب المؤلف هذه الرواية؟ هذا الظلام التام لا يلقي ضوءًا ما على الوضع البشري ولا يخبر بأمر ذي قيمة يمكن التعامل معه، لو يريد إبلاغ البشر برسالة السواد وانعدام الأمل، ما يفيد في ذلك وهذا لن يفرق في أي شيء، فحتى الاستسلام للأمر الواقع لن يلغي الكارثية المطلقة للحياة التي يتكلم عنها؟ ما الفارق في أن يقول أو لا يقول، يكتب أو لا يكتب أي شيء بالأساس؟

لو كان هدف الكاتب هو إظهار السواد، كنوع من الغيظ الحاسد من عدم التفات الناس إليه، فيعرف أي فنان تشكيلي أيًا كان مستواه أنه لإبراز اللون الأسود يكفي أن تضع خطًا أبيض أو ملونًا (زهرة ليلك، رغبة مبهمة، إماطة بسيطة لجسد شاب، إلخ..) كي تبرز المساحة السوداء، والتي بدونها ستكون مجرد خلفية سوداء مصمتة بلا معنى، لا تقول شيئًا.

-3-

هناك جملة ملفتة للكاتب الإنجليزي تشسترتون في إحدى حوارات رواية (الرجل الذي كان الخميس) تقول: الأمر الأكثر شاعرية في العالم هو ألا تكون مريضًا.

ربما كان كافكا يعرف ذلك الأمر، بابتعاده في كتابته عن الشاعرية الغنائية، بأسلوبه الجاف والنثري، بلا صور رومانسية أو استعارات وتشبيهات جزئية منثورة. ربما كان يعرف ذلك بسعيه الدؤوب والمضني، الظاهر في مذكراته ورسائله وبين طيات نصوصه الأدبية، في محاولة تخطي ظروفه الحياتية والوجودية والصحية، أي محاولة إيجاد حل لهذا الذي لا يُحل. وهو ما دفعه مثلًا للبحث في مراحله المتأخرة داخل الحكمة الروحانية اليهودية كطريقة للحياة، بل وتبني الاستسلام نفسه كإستراتيجية مواجهة مع الذي لا يُحل «في العادة أحل مشاكلي بتركها تفترسني» (رسالة إلى ماكس برود).

يمكن رؤية هذا السعي المُعذَب والمستمر في الاتجاه النقيض لما يتردد بشكل دوري عن علاقة «الحزن والاكتئاب» بالإبداع والكتابة؛ لا يمكن أبدًا تصور كافكا يقول «أريد أن أكتئب قليلاً كي أكتب»، بل «أريد أن أكتب كثيرًا كي لا أكتئب»، تحدى كافكا كل سُلطات حياته كي يكتب، بداية من أبيه مرورًا بعمله ووحدته ونهاية بمرضه، فهو كتب بالرغم من كل الظروف، وليس نابعًا منها. دافعه للكتابة ليس هذا الملل البرجوازي في خلق أسطورة سوداوية خاصة به، ولا ثقلاً وجودياً يتميز به يشير إلى عمق ما، بل بالعكس، دافعه المحاولة المستميتة أن يكون ويعيش مثل الآخرين.

التزم وتفوق كافكا في حياته المهنية، اختلط بالأوساط الثقافية ونشر مجموعات قصصية، خطب مرتين وكاد يتزوج في مرة ثالثة وأحب متزوجة كان يريدها معه. حاول وفشل. يعرف كافكا بالتأكيد أن الأكثر شاعرية ألا تكون مريضًا، أن تستطيع العيش ببساطة وتلقائيّة، ويعرف كم هو مؤلم ألا يكون مرئيًا العذاب المضني الذي يقيِّد روحه وجسده، ففي حياته الشخصية لم تكن هناك كوارث مفجعة، لم ير كافكا المحارق النازية واضطهاد اليهود في ألمانيا هتلر مثلًا، لم يحارب في الحرب العالمية الكبرى ولا عاش وسط وباء كاسح أو فقر مدقع أو فقد والديه صغيرًا، ومع ذلك يبدو الوجود اليومي له ككارثة لا تُحل، وما يفجع فيها هو أنها أكثر رأفة وسماحة مع الآخرين، وحتى معه في أوقاتٍ أخرى. ليس دافع الكتابة أيضًا الشكوى، بل المرور عبر اليأس للفهم والتعايش مثل الآخرين. حاول وفشل. ووجد في فشله اللانهائي حكمًا قضائيًا باتساع الوجود كأنما يطارده هو تحديدًا: كلما حاول الوصول لقلعة الحياة المفهومة فلتت وبعدت.

-4-

ليست الكافكاوية انتشاء جماليًا بالشقاء، بل بمحاولة حصر أبعاد وفهم الذي لا يُحل ولا يعوض. ربما هذا ما يميز «الكافكاوية» عن «السوداوية»؛ بالنسبة لي، الكافكاوية هي المساحة بين التطرف الأسود والحياة النمطية، هي المزج بينهما في ذل وعبث. أن يكون هناك مساحة للسعي والمحاولة والأمل لكن بخسارة أكيدة (لفساد الذات؟ لذنبها الوجودي الخاص؟)، أو بحسب أحد كتّاب سيرة كافكا فريدريك كارل «أنت لا تستسلم، أنت لا تتمدد أرضًا وتموت. ما تفعله هو المقاومة بكل عُدتك، بكل ما تملكه. لكن بالطبع ليس لك أية فرصة. هذا هو الكافكاوي».

الأمر الثاني فيما هو كافكاوي بالنسبة لي هو ألا يكون هناك ضرورة ما واضحة لما يحدث من جنون مُذِل؛ في دائرة مغلقة، الاتهام غير معروف لجوزف ك. لكن الإدانة تأتي بأثر رجعي كونه متهمًا، لا يوجد سبب لبؤس الإله بوسايدن سوى ما حدده لنفسه من مهام، يموت فنان الجوع في قصة كافكا جوعًا بمحض إرادته. طابع البؤس الكافكاوي يختلف عن البؤس العادي، في أنه مُحمَّل بتورط الذات في معاناتها، رغم أن تلك المعاناة تبدو أقدم من الذات، وباقية بعدها (نهاية رواية المحاكمة).

-5-

في قرب نهاية القصة الأخيرة التي كتبها كافكا قبيل موته من جراء مرض السل، (فنان الجوع)، يسأل المشرف الفنان «لكن لماذا لا ينبغي لنا أن نعجب [بصومك]؟» يرد الفنان «لأنه كان لا بد أن أصوم. لا أستطيع فعل شيء آخر» (التشديد من عندي). يسأله المشرف في عدم فهم: «فقط انظر إلى نفسك، لماذا لا تستطيع فعل شيء آخر؟» يجيب الفنان وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة «لأنني لم أستطع العثور على طعام يرضيني مذاقه، لو كنت وجدته، صدقني، لما كنت جعلت من نفسي عرضًا وكنتُ أكلت حتى سَر قلبي، مثلك ومثل كل شخص آخر» (التشديد من عندي).

بعدها، يفعل كافكا مرّة أخرى ما فعله في نهاية قصة (التحول)؛ يجيء سريعًا مكان فنان الجوع المريض والميت جراء صومه الطويل، فهدٌ يافع، «حتى للشخص الأكثر تبلدًا كان منعشًا جدًا رؤيته يقذف نفسه في أنحاء القفص، الذي كان كئيبًا لفترة طويلة». في تبديل معكوس، يستبدل الإنسان هذه المرة بحيوان (بعد استبدال الحيوان [الحشرة] بإنسان [أخته]). حيوان «يستمتع بالطعام ولا يبدو عليه أنه يفتقد حريته» بجسد «محمَّل بكل ما هو ضروري، إلى درجة الطفح، وبدا أيضًا أنه يحمل الحرية في الأرجاء معه».

-6-

كان وجه كافكا ولقاءه معي، وجه ولقاء شخص يعيش في ظروف مُعذِبة لا تُحل، تلتصق به التصاق الجلد باللحم، ظروف وجد نفسه في قلبها يتركها تفترسه لأنه لا يجد حلًا آخر، يدرِّب نفسه كحشرة خلالها بالقيام والجلوس والاتصال بالهاتف والكتابة والحب والعمل. وجه أضناه الألم والعذاب لأنه يريد أن يعيش، وأن يعيش وفق لما يراه ويريده، متحديًا نفسه قبل أن يتحدى ظروفه تلك. الوجه الآخر الذي قابلته لفرانز كافكا هو وجه إرادة الحياة المستحيلة.


الاقتباسات من ترجمة الكاتب

اقرأ المزيد لمينا ناجي على Boring Books: الكتابة في مواجهة الآخر