الكتابة في مواجهة الآخر
مقال مينا ناجي
خاص بـ Boring Books
يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه.
***
يقول الجاحظ: «وينبغي لمن كتب كتابًا ألا يكتبه إلا على أن الناس كلهم له أعداء، وكلهم عالمٌ بالأمور، وكلهم متفرغ له». يقصد الجاحظ هنا العناية بالكتابة كما لو أن كل قارئ سوف يتصيّد، بسوء نيّة، الأخطاء فيها مهما كانت عابرة. وعلى الرغم من تحفيز العبارةُ الهمةَ في سلامة الكتابة والعناية بها، إلا أنها تشير إلى موقف أبعد، وهو موقع الكتابة نفسها، أي الكتابة في مواجهة الآخر؛ الكتابةُ كسلاح في مواجهة المجتمع أو غزوه أو دفعه إلى الاعتراف بذات الكاتب.
في الطرف النقيض، يوجد موقف جوديث باتلر في كتابها «الذاتُ تصف نفسها»، والذي يتلخَّص في أن حتى الكتابة عن الذات، أي الكتابة الأقرب حميمية والتصاقًا بالذات، تتبدى عن عجز للتصدي بهذه المهمة التي لا بد من إشراك الآخر فيها، بل والشعور بالمسؤولية الأخلاقيّة نحوه نتيجة لذلك. الآخر هنا عند باتلر ليس عدوًا مثاليًا، الهدف هو إخضاعه أو على الأقل إسكاته، لكنه جزء أصيل من الذات وتشكُّلها.
بالنظر في فعل الكتابة نفسه والابداع بشكل عام، يمكن رؤيته كفعل اشتباك في/مع المجال العام، وبذلك تتطلب الكتابة نوعًا من الغيريّة كي تستمر ولا تسقط في فخ التكسُّب الاجتماعي. يمكن بالطبع أن تتضمن الكتابة نوعًا من التحقق الشخصي، وهو أمر حيوي بالذات لمن يختار الكتابة كمهنة أو طريقة حياة، لكن الأمر أشبه بمن ينجب أطفالًا وفي رأسه إشباعات ومكاسب معينة، ومع الوقت يكتشف أن الموضوع بالأساس هو تضحية لشيء خارجه وأوسع منه، وحساب الأمر بلغة المكاسب الشخصية سيبدو كخسارة واضحة، مما يعني أن الكتابة الجديّة تستدعي أخلاقيات تنفي الأداتيّة النفعيّة المباشرة، لأنها ستفقد معناها بذلك.
يمكن الجدل حول أن الكتابة (الأدبية تحديدًا) هي مجرد تفريغ لمكبوت وتمديد للذات يدعو لاستهلاكه اللحظي، لكن هذا يستدعي التساؤل حول سبب قراءة هذه الكتابة أو التفاعل معها حين تُنشَر على الملأ (وهو الغرض الأساسي للنشر)، بالذات تحت وطأة الكثافة الضخمة من الكتابات العديدة، والأهم، سهولة وجاذبيّة الوسائط الأخرى، البصرية والصوتيّة مثل السينما والمسلسلات والأغاني، إلخ.. فمحاولة منافسة تلك الأشكال في المتعة والتسليّة كسبب لاستهلاكها ستبوء في الأغلب بالفشل.
صِلة الكتابة
بالنسبة لي، استمرت الكتابة في أن تكون الرابط الأساسي بيني وبين المجتمع، بصفتي أنتمي إلى جيل تعرض لاغتراب وانفصال عنه في بداية وعيه بالحياة بسبب فساده وانحطاطه وفشله (في العهد المباركي المتأخر)، وفي مرحلة تالية لفشل طموحاته الاجتماعية-السياسيّة (يمكن فقط استدعاء تصورات جيلي عما ستُحدثه ثورة يناير من نتائج واختلافات جذرية للإصابة بالحزن والإحباط الشديد)، وبعدها انغلاق المجال العام لأي فعل فردي أو جماعي يتم إثبات الوجود وإبراز الفرديّة فيه.
هذا الرابط هو ما جعلني أهتم بما هو أوسع مني، أي بالمشكلات والأزمات التي يعيشها المجتمع والتي تؤثر بشكل مباشر وغير مباشر على كيفية حياة الأفراد داخله، وهو بانعدام أي مكسب مباشر منه (مادي أو معنوي) يتطلب على المدى الطويل إدراك بُعد الغيريّة فيه؛ هذه الغيريّة لا تعني فقط الكتابة من أجل الآخر، أي من أجل محاولة فهم الحياة المشتركة الإنسانية وقول شيء خاص عنها، لكن أيضًا في وضع الذات مكان هذا الآخر ومحاولة فهمه والاشتراك معه عبر هذه الصلة في حوار يعيد صياغة الأمور الأساسية.
هذا يستدعي تواضعًا حقيقيًا، لأن فهم المشترك يتطلب طرفين، ويتطلب التعاطي حوله على قدم المساواة: نحن نتحدث سويًا من أجل نجعل حياتنا أفضل، لا من أجل أن أُمطرك من جانبي بحُكمي القاطع وغضبي وهواجسي الشخصية، حتى لو كانت تلك الأحكام والمشاعر دافعًا لإقامة الحوار بالأساس. وبهذا يتم تحدى فرضيّة مركزية عن الكتابة، والتي أسميها الفرضيَّة الشِعريّة، وهي مركزيّة في كتاباتنا الأدبيّة العربيّة بشتى أنواعها بل وحتى غير الأدبيّة منها، وهي فرضية أن العاطفة مركز الحقيقة؛ يندفع «الشاعر» بسُلطة المشاعر بإقامة حُجَج الحقيقة، يَفهم بها ما حوله ويحاكمه في نفس الوقت. يُشهِر أمام وجوه الجميع ألمه وخسارته الشخصيين ويقيم بهما أساس شرعيته وسلطته؛ وهو ما تمنعه الغيريّة بوضع الذات مكان الآخرين ومحاولة رؤية الأشياء من منظور أوسع من منظور الذات الضيق.
العدالة في الأدب
يدخل هنا مفهوم العدالة: كيف يمكن إذن مواجهة المظالم في الحياة عبر الكتابة أو استخدامها للدفاع عمّا يُرتأى أنه عادل، وكيف يمكن وضع أنفسنا مكان الشخصيات الكريهة والظالمة وإعطائها المساحة كي تعيش بأبعادها الإنسانية داخل الكتابة دون أن يكون ذلك تمييعًا أخلاقيًا وسذاجة قيميّة، أي كيف لا نفرق بين الجاني والضحية، ولا نستخدم مساحة الخيال الحرة في تصور واقع أكثر عدالة يضع «الأمور في نصابها»؟
مما يُصَعِّب الإجابة على تلك الأسئلة هو طغيان المنطق الحقوقي، الذي ابتلع الأدب في وقتنا الراهن، والذي يستلزم بشدّة هذا التصور للعدالة الأدبيّة، بل ويفرض عنصر الانتقام فيه. يجد الكاتب الأدبي الحقوقي إذن دورًا أخلاقيًا رومانسيًا لا ينتهي -مثل بطل فيلم «ميمنتو» الذي يعيد انتقامه بلا نهاية لأنه ليس ثمة معنى أو هدف آخر لحياته- بالانتقام من المجتمع ومساوئه، بأن يشير من كرسي القاضي «أنت مجتمع فاشل وظالم والدليل القاطع على ذلك في كل موطئ قدم»، وهو الذي لطالما بحث عن دور داخل هذا المجتمع، ومعنى لفعل تم النظر له دومًا باعتباره زائدًا عن الحاجة إن لم يكن عبثًا ومضيعة للوقت.
في عالمنا الثالث يُحكم على الأدب أن يكون له هذا الدور. وحين يتم الحديث عن أهمية أعمال أدبية ما، يشار بأنها تناقش قضايا معينة تتعلق بالظلم الاجتماعيّ والسياسيّ، ويكفي أن تحتوي رواية مثلًا على الرسائل والبيانات والمواقف «الصحيحة» حتى تحصد الجوائز والاهتمام النقدي والتقدير لقيمتها و«ضرورتها». أبسط تعليق على ضحالة هذا الدور أو زيفه هو قول ميلان كونديرا الساخر «إدانة الشموليّة لا تستحق رواية». لكن كيف يمكن إذن الإجابة على الأسئلة السابقة في هذا السياق؟
يجدر الإشارة أن التشوش في الإجابة ناتج عن بنيّة وطبيعة الخطابات المتداخلة نفسها. فبنيّة الخطاب الحقوقي هو أنه موجه بالأساس إلى السُلطة، في حين يتوجه الخطاب الأدبي -الحديث- حصرًا إلى الفرد. وطبيعة الخطاب الحقوقي هو التقرير والمطالبة، في حين الخطاب الأدبي هو الفهم والإشباع. ولذا، فالعدالة داخل الخطاب الأدبي تختلف عنها في الحقوقي، العدالة الأدبية تعني فهمًا أوسع وغيريّة أقوى، تساعد على إلقاء ضوء جديد على الوضع الإنساني في محاولة جديدة للتعامل معه وتحسينه. مما قد ينتج عنه، بعد ذلك، مطالب حقوقيّة واجتماعيّة وسياسيّة. فتجسيد شخصية شريرة (قاتل أو ديكتاتور أو إرهابي مثلًا) كشخصية روائيّة تستكشف أبعاده الإنسانية لا تعني التعاطف معه وتقديره، بل تعني فهمًا أفضل لطبيعته وطبيعة الظروف التي أنتجته وتفاعلت معه، فيستدعي ذلك مقاومة أعنف وأجدى لما يمثله. بمعنى ما، إذن، العدالة في الأدب هي أن تكون الآخر.