كل كتابةٍ تتضمن نزعةً رياضية، لكن، بعيدا عن التوفيقِ بين الأدب وبين الرياضات، أو جعلِ الكتابة لعبةً أوليمبية، تجري ممارسةُ هذه النزعة الرياضية في الفرار والتخلّي العضويين: رياضيٌ في الفراش، كما قال ميشو.
اﻷدب والحياة
مقال ﭼـيل دولوز
ترجمة: أحمد حسان
* المقالة الأولى من كتاب Critique et Clinique الذي نشرته دار Les éditions de minuit عام 1993. وتصدرته عبارة مارسيل بروست: "الكتب الجيدة مكتوبةٌ بنوعٍ من لغةٍ أجنبية".
الكتابة لا تعني بالتأكيد فرض شكلٍ (للتعبير) على مادةٍ مُعاشة. الأدب ينحازُ بالأحرى إلى اللامُتَشَكِّل، أو اللامُكتَمِل، مثلما قال جومبروﭬيتش Gombrowicz وفعَل. الكتابة هي مسألةُ صيرورةٍ، دائمًا غيرِ مكتملة، دائمًا في طريقها للإنجاز، وتتجاوزُ كلَّ مادةٍ مُعاشةٍ أو قابلة للعيش. إنها سيرورةٌ، أعني مسارًا للحياة يخترقُ ما هو مُعاشٌ وما هو قابلٌ للعيش. الكتابة لا تنفصل عن الصيرورة: فخلال الكتابة، يصيرُ المرءُ ـ امرأةً، يصير ـ حيوانًا أو ـ نباتًا، يصير ـ جزيئًا إلى حد أن يصير ـ لا محسوسًا. هذه الصيرورات تترابط مع بعضها البعض مُتَّبِعةً خطاً خاصًا، مثلما في روايةٍ للو كليزيو Le Clézio، أو تتعايش على كل المستويات، مُتَّبِعةً البواباتِ، والعتَباتِ، والمناطق التي تُشكِّل الكونَ بأسره، مثلما في العمل القوي للوفكرافت Lovecraft. والصيرورة لا تمضي في الاتجاه المعاكس، فلا يصير المرء إنسانًا، بقدر ما يُقدِّم الإنسانُ نفسَه باعتباره شكلًا سائدًا للتعبير يحاول أن يفرضَ نفسَه على كل مادةٍ، بينما المرأة، أو الحيوان، أو الجزيء لديهم دائمًا مُكَوِّنُ هروبٍ يُفلِت دائمًا من تَشكُّلِهم الخاص. عارُ كونِ المرءِ إنسانًا، هل ثمة سببٌ أفضلُ للكتابة؟ وحتى حين تكون من تخضعُ للصيرورة امرأةً، فعليها أن تصيرـ امرأةً، وهذه الصيرورة ليس لها علاقةٌ بحالةٍ يمكن أن تزعُمها لنفسها. الصيرورة ليست بلوغَ شكلٍ ما (تماهٍ، تقليد، محاكاة)، بل العثورُ على منطقة التجاور، منطقةِ تَعذُّر التمييز، أو عدم التمايز بحيث لا يعود المرءُ يتميَّزُ عن امرأةٍ، أو عن حيوانٍ، أو عن جزيءٍ: ليست جميعُها غيرَ دقيقةٍ أو عامةٍ، بل غيرُ مُتَوَقَّعةٍ، غيرُ موجودةٍ ـ سلفا، متفرِّدةٌ عن جمعٍ أكثر من كونها مُحدَّدةً في شكل. يمكن تأسيسُ منطقةِ تجاورٍ مع أي شيءٍ، بشرط خلقِ الوسائل الأدبية لذلك، مثلما مع النجمية *l’aster وفق آندريه دوتيل André Dhôtel. إذ يمرُّ شيءٌ بين الجنسين، وبين الأنواع أو بين الممالك.1 الصيرورة دومًا "بين" أو "في الما بين": امرأةٌ بين نساءٍ، أو حيوانٌ فيما بين حيواناتٍ أخرى. لكن قوةَ أداةِ النكِرة لا تسري إلّا إذا كان الطرفُ موضع الصيرورة مُجرَّدا بذاته من الخصائص الشكلية التي تفرضُ قولَ الـ ("هذا الحيوان..."). حين يصير لو كليزيو هنديًا، فإنه هنديٌ غير مكتملٍ دومًا، لا يعرف كيف "يزرع الذرة أو ينحتُ قاربًا": إنه يدخل منطقةَ تجاورٍ بدلَ أن يكتسِب خصائصَ شكلية.2 نفس الشيء، وفق كافكا، مع بطل السباحة الذي لا يعرف السباحة. كل كتابةٍ تتضمن نزعةً رياضية، لكن، بعيدًا عن التوفيقِ بين الأدب وبين الرياضات، أو جعلِ الكتابة لعبةً أوليمبية، تجري ممارسةُ هذه النزعة الرياضية في الفرار والتخلّي العضويين: رياضيٌ في الفراش، كما قال ميشو. يصير المرءُ بالأحرى حيوانًا أكثر من الحيوان الميت؛ وعلى نقيض تحيُّزٍ روحاني، فإن الحيوان هو الذي يعرف كيف يموت ولديه حسُّ أو استشعارُ الموت. الأدب يبدأ بموت قنفذٍ، حسب لورنس، أو بموت الخُلد، حسب كافكا: "أرجلنا الحمراء الصغيرة الممدودة من أجل إيماءةِ تعاطفٍ عذبة". المرء يكتب من أجل العجول الميتة، كما قال موريتسMoritz .3 يجب أن تُكرِّس اللغةُ نفسَها لبلوغ انعطافاتٍ مؤنّثة، حيوانية، جزيئية، وكل انعطافةٍ هي صيرورةٌ قاتلة. ليس ثمة خطٌ مستقيمٌ، لا في الأشياء ولا في اللغة. والنحو [البنية اللغوية] synta هي مجموع الانعطافاتِ الضرورية المخلوقةِ في كل مرةٍ لإبراز الحياةِ في الأشياء.
الكتابة لا تعني أن يحكي المرءُ ذكرياته، ورحلاته، غرامياته وأحزانه، أحلامه وخيالاته. فأن يرتكبَ المرءُ الخطيئةَ من خلال فرط الواقع، أو فرط الخيال هو نفس الشيء: ففي كلتا الحالتين نجد البابا ـ الماما الأبدية، البنية الأوديبية التي يُسقطها المرء على الواقع أو يتقمّصها في المخيلة. ثمة أبٌ هو ما يبحث عنه المرء في نهاية الرحلة، مثلما في قلب حلمٍ، في هذا المفهوم الطفولي للأدب. المرء يكتب من أجل أبيه ـ أمه. وقد دفعت مارته روبير Marte Robert هذا الميل الطفولي، هذا الميل التحليلي النفسي للأدب إلى آخر مداه، بحيث لم تترك أمام الروائي خيارًا آخر سوى أن يكون ابن حرامٍ أو لقيطًا.4 وحتى الصيرورة ـ حيوانًا لا تسْلَمُ من اختزالٍ أوديبي، من نوع "قطتي، كلبي". مثلما يقول لورنس،"إذا كنتُ أنا زرافة، والإنجليز العاديون الذين يكتبون عني كلابًا لطيفة مهذبة، فالأمر برمته مُلخَّصٌ هنا، الحيوانات مختلفة... إنكم تحتقرون غريزيًا الحيوانَ الذي أكونه".5 كقاعدة عامة، لا تُعامِل الخيالاتُ النكرةَ إلاّ كقناعٍ لشيء شخصي أو يتعلق بالملكية: " ضُرِب طفلٌ ما" سرعان ما تتحول إلى "أبي ضربني". لكن الأدب يتبعُ المسارَ المعاكس، ولا يطرحُ نفسَه إلاّ حين يكتشفُ تحت الشخصيات البادية قوةَ شيءٍ لا شخصيٍ ليس تعميماً على الإطلاق، بل تفردٌ إلى أقصى حد: رجلٌ ما، امرأةٌ ما، حيوانٌ ما، بطنٌ ما، طفلٌ ما... وليس الشخصان الأولان هما ما يمثلان شرطاً للتلفُّظ الأدبي؛ فالأدب لا يبدأ إلّا حين يولدُ داخلنا شخصٌ ثالثٌ يجرّدنا من القدرة على قول أنا (هو "المُحَايِد" لدى بلانشو).6 مؤكدٌ أن الشخصيات الأدبية مُكتسبةٌ تمامًا للطابع الفردي، وليست لا غامضةً ولا عامّة؛ لكن كل سماتها الفردية ترفعُها إلى مرتبةِ رؤيا تنقلها إلى شيءٍ نكِرةٍ بمثابة صيرورةٍ مفرطة القوة بالنسبة لها: أهاب ورؤيا موبي ديك. البخيل ليس نمطًا على الإطلاق، بل إن سماته الفردية على العكس (أن يحب امرأة شابة، إلخ.) تجعله يبلغ مرتبة رؤيا، إنه يرى الذهب...، بحيث يشرع في الهروب على خطِ ساحرةٍ يكتسب فيه قوةَ النَكِرة ــ بخيلٌ ما...،ذهبٌ ما، مزيدٌ من الذهب... ما من أدبٍ دون تخييل fabulation، لكن، كما استطاع برجسون أن يرى، فإن الوظيفة التخييلية لا تتمثل في تخيُّلٍ أو إسقاطِ أنا. بل إنها تبلغ تلك الرؤى، ترفعُ نفسَها إلى مرتبة تلك الصيرورات أو القوى.
المرء لا يكتب بعُصاباته. فالعُصاب، والذُهان ليسا مَسلَكين للحياة، بل حالتين يسقطُ فيهما المرءُ حين يجري وقفُ السيرورة، أو إعاقتها، أو سَدُّها. المرضُ ليس سيرورةً، بل وقفًا للسيرورة، مثلما في "حالة نيتشه". كذلك ليس الكاتبُ بوصفِه كذلكَ مريضًا، بل بالأحرى طبيبًا، طبيبًا لنفسه وللعالم. العالم هو مجموعُ الأعراض التي يختلطُ فيها المرضُ بالإنسان. يبدو الأدبُ إذن كمشروعٍ للصحة: ليس بمعنى أن يتمتع الكاتبُ بالضرورةِ بصحةٍ موفورة (سيوجد هنا نفس الالتباس الموجود في النزعة الرياضية)، لكنه ينعمُ بصحةٍ واهنةٍ لا تُقَاوَمُ ناتجةٍ عما رآه وسمعه من أشياءٍ مُفرطة الضخامة بالنسبة له، مفرطة القوة بالنسبة له، أشياءٍ خانقة يُنهِكُه عبورها، بينما تمنحُهُ رغم ذلك صيروراتٍ تجعلها الصحةُ الموفورةُ السائدةُ مستحيلةً7. يعود الكاتب مما رآه وسمعه بعينين حمراوين، وطبلتي أذنٍ مثقوبتين. أيةُ صحةٍ ستكون كافيةً لتحرير الحياة أينما كانت سجينةً بواسطة الإنسان وداخله، بواسطة وداخل الكيانات العضوية والأنواع؟ إن صحة سبينوزا الواهنة، طالما بقِيَت، هي التي تشهدُ حتى النهاية على رؤيا جديدة تظلُّ منفتحةً عليها.
الصحة باعتبارها أدبًا، باعتبارها كتابةً، تتمثل في اختراعِ شعبٍ مُفتَقَد. تنتمي إلى الوظيفة التخييلية لاختراع شعبٍ. المرء لا يكتب بذكرياته، إلّا إذا جعلها الأصلَ أو الوجهة الجماعيين لشعبٍ قادمٍ ما زال مطمورًا تحت خياناته وإنكاراته. ولدى الأدب الأمريكي تلك القوة الاستثنائية لإنتاج كُتّابٍ يستطيعون حكي ذكرياتهم الخاصة، كأنها ذكريات شعبٍ كوني يتشكل من مهاجري كل البلدان. فتوماس وولف Thomas Wolfe "يسجَّل كتابةً كل أمريكا بقدر ما يمكن العثورُ عليها في خبرةِ رجلٍ واحد".8 وليس هذا، على وجه الدقة، شعبًا مدعُوًَا لأن يحكم العالم. إنه شعبٌ أقلياتي، أقلياتي أبديًا، مُستَغرِقٌ في صيرورته ـ ثوريًا. وربما لا يوجد إلّا داخل ذرّات الكاتب، شعبٌ ابن حرام، أدنى، محكومٌ، في صيرورةٍ دومًا، غيرُ مكتملٍ دومًا. وابن الحرام لم تعد تُشير إلى حالةٍ عائلية، بل إلى سيرورةِ أو انجراف الأجناس. أنا وحشٌ، زنجيٌ من جنسٍ أدنى إلى الأبد. هذه صيرورة الكاتب. كافكا بالنسبة لأوروبا الوسطى، وملفيل بالنسبة لأمريكا يقدمان الأدب باعتباره التلفّظ الجماعي لشعبٍ أقلياتي، أو لكل الشعوب الأقلياتية، التي لا تجد التعبير عنها إلاّ من خلال، وفي، الكاتب.9 رغم أن الأدب يُحيل دومًا إلى فاعلين agents منفردين، فإنه تجميعة agencement تلفّظ جماعية. الأدب هذَيان، لكن الهذيان ليس مسألة أب ـ أم: فليس ثمة هذيانٌ لا يمر عبر الشعوب، والأجناس، والقبائل، ولا يُطارِد التاريخَ الكوني. كلُّ هذيانٍ تاريخيٌ ـ عالمي، "إزاحة أجناسٍ وقارات". الأدب هذيانٌ، وبكونه كذلك يلعبُ مصيرَهُ بين قطبي الهذيان. الهذيان مرضٌ، هو المرض بامتياز، كلما أقام جنسًا يُفتَرَضُ أنه نقيٌ ومُسيطِر. لكنه معيارُ الصحة حين يستحضر هذا الجنسَ ابن الحرام المُضطَهَد الذي لا يكفُّ عن التململ تحت وطأة أشكال السيطرة، عن مقاومةِ كل ما يسحقُ ويسجِنُ، عن حفرِ نفسِه في الأدب بوصفه سيرورةً. وهنا أيضا ثمة دومًا خطرُ أن تعوقَ حالةٌ مرضية السيرورةَ أو الصيرورة؛ ونجد نفس الالتباس بشأن الصحة والنزعة الرياضية، الخطر الدائم في أن يختلط هذيانُ سيطرةٍ بهذيانٍ ابن حرام، ليقود الأدبَ صوب فاشيةٍ كامنة، هي المرضُ الذي يناضلُ ضدَّه، حتى لو كان ذلك يعني تشخيصَ الفاشيةِ داخلَ ذاته والنضال ضد ذاته. الهدفُ النهائي للأدب هو أن يُحرِّر داخل الهذيان هذا الإبداعَ لصحةٍ، أو هذا الاختراعَ لشعبٍ، أي لإمكانيةِ حياةٍ. هو الكتابةُ من أجل ذلك الشعب المُفتَقَد... ("من أجل" هنا لا تعني "بدل" بقدر ما تعني "لصالح").
يمكننا أن نري بوضوحٍ أكبر ما يصنعه الأدبُ باللغة: فهو يرسمُ في اللغة على وجه الدقة، كما يقول بروست، نوعًا من اللغة الأجنبية، ليست لغةً أخرى، ولا رطانةً مُستَعادَة، بل صيرورةُ ـ آخرٍ للغة، إضفاءٌ للطابع الأقلياتي على هذه اللغة الأغلبياتية، هذيانٌ يجتاحها، خطُ ساحرةٍ يُفلت من النسق المسيطِر. جعل كافكا بطلَ السباحة يقول: أنا أتكلم نفس لغتِك، ورغم ذلك لا أفهم كلمةً مما تقول. إبداعٌ نحوي [يتعلق ببنية اللغة] syntaxique، أسلوبٌ، هذه هي صيرورة اللغة: ما من إبداع لفظي، ما من تعبيراتٍ جديدة لها قيمةٌ خارج تأثيرات النحو [بنية اللغة] الذي تتطور داخله. ومن ثم يقدِّم الأدبُ بالفعل جانبين، بقدر ما يقوم بتفكيك أو تحطيم اللغة الأم، ولكن كذلك بابتكار لغةٍ جديدة داخل اللغة، بخلق نحوٍ [بنية لغة]. "الطريقة الوحيدةُ للدفاع عن اللغة، هي بمهاجمتها... كل كاتبٍ مُجبَرٌ على صُنع لغته..."10 يمكن القولُ بأن اللغةَ في قبضةِ هذيان، يجعلها على وجه الدقة تخرجُ عن أخاديدها الخاصة. أما بالنسبة للجانب الثالث، فإنه ينتجُ عن أن أية لغةٍ أجنبية لا يتم تجويفُها داخل اللغة ذاتها إلّا إذا ترنح النسقُ اللغوي بأسره، أو تم دفعهُ إلى حافةٍ، إلى خارجٍ أو جانبٍ عكسي يتمثل في رؤى ومسموعات لا تعودُ تنتمي إلى أية لغة. هذه الرؤى ليست خيالات، بل مُثُلًا حقيقية يراها الكاتب ويسمعها بين ثنايا النسق اللغوي، بين فرجاته. هذه ليست انقطاعاتٍ للسيرورة، بل توقُّفات تُشكِّل جزءًا منها، مثل أبديةٍ لا يمكن أن تتكشَّف إلّا داخل الصيرورة، أو منظرٍ لا يتبدى سوى في الحركة. إنها ليست خارج النسق اللغوي، بل هي الخارج بالنسبة له. الكاتبُ بوصفه رائيًا وسامعًا، غايةُ الأدب: هذا هو عبورُ الحياةِ داخل النسق اللغوي الذي يؤسس المُثُل.
هذه هي الجوانب الثلاثة الدائمة الحركة لدى آرتو Artaud: سقوط الحروف داخل تحلّل النسق اللغوي الأم (R,T…)؛ واستعادتها داخل نحوٍ[بنية لغوية] جديدٍ أو في أسماء جديدة ذات حمولةٍ نحوية، خالقةٍ للغة (“eTReTé”)؛ وأخيرا كلمات ـ النَفَس، الحد اللانحوي الذي تميل نحوه كل لغة. وحتى عند سيلين Céline، لا يمكننا أن نمنع أنفسنا من قول ذلك، فنحن نحسّه بحدَّة: الرحلة أو تحلّل اللغة الأم؛ الموت على الحساب والنحو[البنية اللغوية] الجديد كلغةٍ داخل اللغة؛ جينيولز باند وعلامات التعجب المعلّقة باعتبارها حدًا للغة، رؤىً وسمعيات متفجرة. من أجل الكتابة، ربما توجّب أن تكون اللغةُ الأم مكروهةً، لكن بحيث يمكن لإبداع نحويٍ أن يرسم فيها نوعًا من لغةٍ أجنبية، وبحيث يكشف النسق اللغوي برمته عن خارجه، فيما وراء كل نحو. يحدث أن نهنّئ كاتبًا، لكنه يعرف جيدًا أنه بعيدٌ عن بلوغ الحد الذي يضعه لنفسه ولا يكفُّ عن الإفلاتِ منه، بعيدٌ عن تحقيق صيرورته. الكتابة، تعني أيضًا الصيرورة شيئًا آخر بخلاف الكاتب. وردًا على من يسألونها فيم تتمثل الكتابة، ترد فيرجينيا وولف: منذا يحدثكم عن الكتابة؟ الكاتب لا يتحدث عنها، فهو مشغولٌ بشيء آخر.
إذا وضع المرءُ هذه المعايير في الاعتبار، سيرى أنه، بين كل من يصنعون كتبا بقصدٍ أدبيٍ، حتى بين المجانين، يمكن لقلةٍ قليلة القول بأنهم كتّاب.
الهوامش:
1. Cf.André Dhotel, Terres de mémoire, Ed. Universitaires (sur undevenir-aster dans La Chronique fabuleuse, p. 225).
2. Le Clézio, Haï, Flammarion, p. 5.
في روايته الأولى،Le procès-verbal ; Folio-Gallimar، يقدم لو كليزيو بطريقة شبه مثالية شخصيةً في قبضة صيرورةِـ امرأة، ثم صيرورةـ فأر، ثم صيرورةـ لا محسوس حيث تتلاشى.
3. Cf. J-C. Baily, La légende dispersée, anthologie du romantismeallemand,10-18, p. 38.
4. Marthe Robert, Roman des origines et origines du roman, Grasset.
5. Lawrence, Lettres choisies, Plon, p. 237.
6. Blanchot, La part du feu, Gallimard, p. 29-30, et L´entretien infini, p. 563-564
"يحدث شيء (للشخصيات)، لا تستطيع تملُّكه من جديدٍ إلاّ بالتخلي عن قدرتها على قول أنا." يبدو هنا أن الأدب ينفي المفهوم اللغوي، الذي يجد في الضمائر، وبالأخص في ضميري المتحدث والمخاطب، شرط النطق ذاته.
7. عن الأدب كمسألة صحة، لكن بالنسبة لمن لم يملكوا أو لا يملكون سوى صحةٍ هشة، راجع
Michaux; postface à « Mes propriétés » ,in La nuit remue, Gallimard . Et Le Clézio ;Hai .p. 7 :
"ذات يوم، ربما سيعرف المرء أنه لم يكن ثمة فنٌ، بل مجرد دواء."
8. André Bay, préface à Thomas Wolfe, De la mort au matin, Stock.
9. راجع تأملات كافكا حول الآداب التي يقال إنها أقلياتية
Journal, Livre de poche, p. 179- 182 ;
وتأملات ملفيل حول الأدب الأمريكي في،
D’où viens-tu, Hawthorne?
.Proust, Correspondance avec Madame Strauss, Lettre 47, Livre de poche, p. 110- 115 (("ما من يقينيات، حتى نحوية.." .10
* الترجمة خاصة بـ Boring Books
** يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه