اختار الصحفي والناقد الإنجليزي روبرت مَكروم قائمتين لأفضل مائة عمل سردي وأفضل مائة عمل غير سردي باللغة الإنجليزية، وكتب مقالًا يخص كل عمل منهم. نترجم في هذه السلسلة بعض هذه المقالات.

ترجمات هذه السلسلة جرت ضمن أعمال الدورة الرابعة من مختبر الترجمة بمعهد القاهرة للعلوم والآداب الحرة بالإسكندرية (سيلاس الإسكندرية) – ربيع 2019.

قائمة مكروم | موبي ديك لهرمان ملفل (1851)

نُشر بموقع الجارديان 13 يناير 2014

ترجمة: ياسمين أكرم ومحمد الشيخ وعمر محمد

الترجمة خاصة بـ Boring Books وسيلاس الإسكندرية

يحتفظ المترجمون بحقهم في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتهم دون إذن منهم

***

عن atlasobscura

في 5 أغسطس 1850، تسلقت مجموعة من الكتاب والناشرين جبل مونيومينت في ماساتشوستس، وهو البديل الأمريكي للتنزه على البحيرات. كان من بين أدباء الرحلة القصيرة، ناثانيل هاوثورن، 46 عامًا، وهو مؤلف رواية الحرف القرمزي - The Scarlet Letter (الرواية رقم 16 في هذه السلسلة)، حينها كانت منشورة حديثًا ومن أكثر الكتب مبيعًا (رغم عدم شيوع المصطلح وقتها). وكذلك كان من بين الأدباء الروائي الشاب هيرمان ملفيل، الذي بعد النجاح الساحق لأولى رواياته «تايبي»، كان يكافح من أجل إنهاء رواية ضخمة عن سفينة لصيد الحيتان في البحار الجنوبية. 

لم يكن ملفيل، الذي كان عمره 31 عامًا فقط، قد قابل هاوثورن قط. ولكن بعد قضاء يوم في الهواء الطلق، ومقدار من الشمبانيا، ومطر غزير مفاجئ، ابتهج الشاب بصديقه الجديد الذي «غرس بذور إبداعه بداخل روحي». ونادرًا ما حدثت لقاءات بالغة الأهمية كهذا في تاريخ الأدب الأنجلو-أمريكي.

كان الأمر بمثابة تجاذب للأضداد، فهاوثورن الذي انحدر من عائلٍة عريقٍة من نيو إنجلاند، كان حريصًا ومثقفًا ومتأملًا و«ملاكًا أسود» كما سماه أحدهم. ثم كان هناك ملفيل الرومانسي الفصيح ذو الملابس الرثة، من نيويورك. وكان كلاهما على حافة الإفلاس، وكلاهما غريب بشكل ما. وبعد قراءة مبكرة لمسودة الرواية، امتدحها هاوثورن في خطاب لا يزال مفقودًا، ولا نملك إلا رد ملفيل المنتشي («أشعر أن قلبك ينبض بين ضلوعي وأن قلبي ينبض بين ضلوعك، وكلاهما ينبض بين ضلوع الرب..»). وبعدها، خصص ملفيل مقدمة «موبي ديك» لتسجيل إعجابه بعبقرية هاوثورن (في الطبعة الأولى التي وضعت شرطة بين الكلمتين المكونتين لاسم الحوت «موبي-ديك»).

فإلى أي مدى كانت تلك الصداقة مثلية؟ لن يعلم أحد؛ وتظل المسألة أحد ألغاز المراسلات الأمريكية. كل ما يمكن أن نقوله بالتأكيد هو أنه بعد تسلق جبل مونيومينت، تبنى ملفيل رؤية هاوثورن حول «الرواية» باعتبارها عملًا قصصيًا رمزيًا متعدد الأنواع، وتجلت عبقريته المبدعة في كتابته لروايته الجديدة.

وبالنسبة لي، فإن رواية موبي ديك، تلك الرواية الأمريكية الرائعة، هي مصدر وإلهام لكل الأعمال التي تلتها في إرث الأدب الأمريكي. قرأتها لأول مرة بوحي من مدرسي للغة الإنجليزية في الصف السادس، ليونيل بروس، وكنت بعمر الخامسة عشر، ولم أنسها منذ ذلك الحين. «موبي ديك» رواية تعود إليها مرارًا وتكرارًا، لتجد فيها كنوزًا ومسرات جديدة، ومستودعًا لغويًا، وحكمة غريبة.

موبي ديك رواية أمريكية لم يُعترف بعبقريتها إلا بعد وقت طويل من وفاة مؤلفها، مثلها كمثل بعض الروايات التي تنافسها بشراسة والتي ستظهر لاحقًا في هذه القائمة. بداية من افتتاحيتها الشهيرة «نادني إسماعيل» تزج الرواية بالقارئ في رحلة الراوي لإيجاد المعنى في «روحه التي تمتلئ برطوبة ومطر نوفمبر».

إسماعيل شخص غريب وجودي، وما يرد فيما يلي على مدار 153 فصلًا من فصول الرواية، يُعد معاصرًا بشدة وفيكتوريًا بالضرورة. إنها عمل أدبي مبهج واستثنائي ومستفز في بعض الأحيان، وفاتن قرب نهايته المروعة.

مع صعود «إسماعيل» على متن السفينة «بيكود» يرتبط مسعاه اليومي بصورة حتمية بالمسعى الأكثر إظلامًا، الذي يقوده «المهووس أهاب»، قبطان السفينة الملعونة، الذي ينطلق في رحلة لينتقم لنفسه من الحوت الأبيض العملاق الذي ظفر بساقه، هذا «الرجل المهيب، اللامعقول، المتأله» واحد من أعظم الشخصيات الروائية – «أهاب المجنون، الماكر، صائد الحوت الأبيض الذي لا تفتر عزيمته ولا يرضيه شيء» – لا يلاحق خصمه ذلك «الشبح المُقنع» عبر نفايات المحيط فحسب، بل يُصارع الإله الذي يقبع خلف ذلك «القناع اللامعقول» للحوت الرمزي.

في النهاية، تتحول رحلة استكشافية خرجت من «نانتكت» لصيد الحيتان –تجربة اختبرها ملفيل نفسه في شبابه- إلى قصة عن الهوس والبحث عن معنى الحياة.

بخلاف شخصيتي «إسماعيل» و«أهاب»، تعتبر هذه الرواية الضخمة غنية بالعديد من الشخصيات الثانوية، بداية من الحرَّاب الموشوم «كويكيج» ومساعد القبطان «ستارباك» وداجو وفِضالة الفارسي، وجميعهم كما تروي القصة طاقم أمريكي معتاد. استُلهمت هذه القصة الشاعرية –وفقًا لمصطلح هاوثورن- من القصة الحقيقية لسفينة «إسكس»، إذ غرقت سفينة صيد الحيتان حين هاجمها حوت العنبر في المحيط الهادئ في نوفمبر عام 1820، لتخلد في الأذهان كرحلة بحرية مرعبة وفي أحيانٍ أخرى غير محتملة، تبلغ القصة ذروتها بعد ثلاثة أيام من المطاردة المشوقة عندما يدمر موبي ديك السفينة «بيكود». وينجو «إسماعيل» الذي تشبث بكفن «كويكيج» المنقوش ليحكي لنا هذه الحكاية.

عادة ما توصف «موبي ديك» – كما وصفتها أنا للتو - كرواية نموذجية، يصارع فيها الغريب إسماعيل لانهائية البحر ويواجه أسئلة الكون الكبرى. لا خطأ في هذا، لكن توجد أيضًا «موبي ديك» أخرى، مليئة بالدعابات القاسية واللحظات الكوميدية الذكية والأحاديث الجانبية الظريفة.

عندما يضطر إسماعيل لمشاركة سريره مع الحرَّاب الموشوم كويكيج يقول: «أن تنام مع آكل لحوم بشر واع لهو أفضل من أن تنام مع مسيحي ثمِل». لهؤلاء القراء الذين ترهبهم قتامة هذه الرواية العظيمة، أعتقد أن الفكاهة تتيح لكم مدخلًا إليها.

ملاحظة عن النص

يعد التاريخ الذي يسبق نشر رواية موبي ديك موضوعًا مستمرًا للدراسة، ويمنحنا دراسة حالة للنشر الأنجلو-أمريكي المشترك (بين الكاتب والناشر) في منتصف القرن التاسع عشر.

وَقَّع ملفيل، الذي كان يعاني من ضائقة مادية، أول عقد له لروايته الجديدة، المعروفة حينها باسم «الحوت»، مع الناشر البريطاني ريتشارد بينتلي، ولكنه حرص على طباعتها في نيويورك حتى يتمكن من الإشراف على المسودات، وكتب إلى هاوثورن من نيويورك، يقول له يجب أن «أعمل وأكدح لإنهاء روايتي (الحوت) بينما تعرف طريقها إلى النشر». وفي الحقيقة، كان يعمل باستمرار على التعديلات على مسودته ويصحح المطبوع منها.

في تلك الأثناء، لم يكن ملفل قد وقَّع على عقد مع ناشر أمريكي حتى الآن، ولذلك قد تختلف الطبعة البريطانية عن الأمريكية في مئات التفاصيل الصغيرة. ويعد اختلاف عنوان الرواية هو الأكثر أهمية. وكتب لاحقاً إلى بنتلي: «عنوان (موبي ديك) منطقي للرواية، كونه الاسم الممنوح لحوت بعينه، الذي يعتبر في وجهة نظري، بطل الرواية».

يبدو أن بنتلي كان بطيئًا في الاستجابة، إذ نُشر الإصدار الإنجليزي للرواية في 18 أكتوبر باسم »الحوت»، وطُبع منها 500 نسخة. وظهر أخيرًا الإصدار الأمريكي للرواية في 14 نوفمبر، بعنوان موبي ديك (المصحوب بعنوان »الحوت«). واحتوت الطبعة الأمريكية على خاتمة تشرح نجاة إسماعيل الإعجازية، وكيف رُويت حكاية الحوت الأبيض العملاق.

ولسببٍ غير معلوم لا تتضمن النسخة الإنجليزية هذه الخاتمة، ما جعل المراجعين الإنجليز في حيرة عند قراءة كتاب تُروى أحداثه من منظور راو من الواضح أنه لم ينج ليروي الحكاية. ومن ثم أبدت مجلة ذا سبيكتاتور «The spectator» اعتراضها الذي كان نصه: «لا ينبغي أن يُضمن في الرواية أي شيء من المستحيل على الكاتب معرفته عمليًا، وعليه، لا ينبغي عليه أن يصف حوارًا يدور بين عمال منجم في هوة هلكوا فيها». وتساءلت صحيفتان أخريان: «كيف صار ممكنًا أن يكون المؤلف على قيد الحياة ليروي القصة؟» كانت النتيجة تشوش ومراجعات إنجليزية ضعيفة.

كل ما سبق ألقى بظلاله على التلقي الأمريكي للرواية. أما عن مسيرة ملفيل المهنية، فلم تتعاف حقًا. قال لهاوثورن عام 1856: «لقد عقدت العزم على أن أُهلك». عندما وافت ملفيل المنية عام 1891، كان قد نُسي فعليًا، ومخطوطة روايته «بيلي بود» لم تُنشر بعد. واليوم تعد «موبي ديك» كما ذكر كتاب «رفيق أوكسفورد للأدب الإنجليزي»: «أقرب ما وصلت إليه الولايات المتحدة الأمريكية للملاحم النثرية».

عناوين ضرورية أخرى لملفيل

تايبي (1846) وبارتلبي النساخ (1853) وبيلي بود (نشرت بعد وفاته في 1924)