صورة النجيلة اللي مالهاش جذر واحد أو نمط خطي في نموها بتساعدنا في إعادة التفكير في المعرفة، ومفهوم الريزوم بيخلينا نتخلى عن البدايات والنهايات والشكل المريح للشجرة من أعلاها ﻷدناها، ﻷنه طول الوقت بيتحرك بين البينين
الريزوم
مقال لشهاب الخشاب وحسين الحاج
إزاي بنقرا موسوعة؟ هل بنقراها صفحة بعد صفحة، ومقالة ورا مقالة؟ ولا بنفِر الورق لحد ما عينينا تقع على كلمة تعجبنا فنقرا عنها؟ ولا بنسرح بين لينك والتاني وإحنا على ويكيبديا؟ ولا لما نبقى عايزين نعرف حاجة معينة في بالنا فندوَّر عليها؟ من المؤكد إن الموسوعات ما اتكتبتش عشان تتقري من الجلدة للجلدة زي الكتب العادية: كام واحد قرا الموسوعة البريطانية أو "نهاية اﻷرب في فنون اﻷدب" كلها أصلاً؟ الموسوعات بتتكلم عن حاجات كتيرة قوي متجمَّعة في إطار معرفي واحد.
كُتاب دائرة المعارف اﻹسلامية مثلًا ركزوا على كل ما يتعلق باﻹسلام حصرًا. مع وجود اﻹطار دا، الموسوعة مافيهاش مقدمة أو حتى خاتمة بتقولنا إزاي نقراها، وترتيبها اﻷبجدي ما فيهوش أي تراتبية هرمية بتخلينا نقرا المقالات اللي تحت حرف اﻷلف قبل المقالات اللي تحت حرف الياء، وحتى المقالات اللي تحت أي حرف ما فيهاش تراتبية حسب اﻷهمية. بالتالي لما بنفتح موسوعة مجلداتها كتيرة وكبيرة، ربما نقراها صفحة صفحة ومقالة مقالة، وربما نفتح أي مقالة ونبدأ نقرا. كون موضوعات الموسوعة مترتبة أبجديًا أو متجزأة على أجزاء مش معناه إن مالهاش نسق فكري في كتابتها وفي قرايتها. النسق الفكري دا أشبه باللي الفلاسفة جيل دولوز (Gilles Deleuze) وفيليكس جواتاري (Félix Guattari) بيسموه "الريزوم" (rhizome).
في علم النبات، الريزوم معروف بإنه الساق الأفقية للنبات اللي في العادة بتبقى تحت الأرض، وفي أوقات تانية بتخرج الجذور والبراعم من عقدها. الزنجبيل والكركم من النباتات اللي فيها ريزوم تحت الأرض، والنجيل من الأعشاب اللي بتتشعَّب كذلك، وفيه نباتات بيطلع لها ريزوم فوق الأرض أو بيستقر فوق التربة، منها السوسن اللي سيقانها نفسها عبارة عن ريزومات. في الفلسفة، الريزوم ظهر في مقدمة كتاب لدولوز وجواتاري عنوانه "الألف هضبة" (Mille Plateaux)، اللي يُعتبر الجزء التاني في ثنائية مؤسسة في الفلسفة المعاصرة عنوانها "الرأسمالية والشيزوفرنيا" (Capitalisme et schizophrénie).
دولوز وجواتاري بيفرّقوا بين "الريزوم" و"الشجرة" كنماذج معرفية متباينة. إذا قارنا شكل الشجرة بشكل النجيلة مثلًا، نقدر نشوف إن الشجرة لها جذور وجذوع وفروع، في حين إن النجيلة بتنمو بشكل عشوائي تمامًا - مالهاش فوق أو تحت، وممكن تمشي في أي اتجاه. معظم الفلاسفة في التراث الغربي والإسلامي تخيلوا إن التفكير بيحصل بشكل الشجرة. يعني الفكر له جذور أو أسس أو أصول، والجذع هو المنطق أو المتن، والفروع هي العلوم أو الهوامش.
التفكير هنا مبني على تصنيفات وتراتبيات هرمية، وممكن نشوف دا مثلاً في شجرة اللغات اﻷوروبية اللي بتنقسم لفروع لاتينية وجرمانية وسلافية، كل فرع جاي من جذع اللغات اﻹندو-أوروبية، والفروع دي بتطلَّع أوراق أو لغات مختلفة: فمثًلا اللاتينية أنبتت الفرنساوي والإيطالي والإسباني، والسلافية أنبتت الروسي والتشيكي والصربي وإلخ. كل اللغات في التصور دا بتبدأ من أساس واحد وبعدين بتتنوع في فروعها. كذلك التراث المعرفي الإسلامي مبني على نصوص جذرية زي القرآن والأحاديث، والتعليقات عليهم بتوصل لنا في شكل متون الفقه والفلسفة والبلاغة اللي بتشكّل جذوع الشجرة المعرفية، والهوامش التفسيرية هي الفروع والأوراق اللي بتطلع من المتن.
في تصور دولوز وجواتاري، التراتبية الشجرية دي بتحجِّم التفكير في مساحات معرفية محدودة، وكأن المفكر لازم يتحول لموظف بينفذ لوائح وقوانين جاية من فوق (وإنما فين فوق أساسًا؟ العمدة؟ الدولة؟ ربنا؟). الفكر بيتحول هنا إلى قالب أحادي بينتج فكر أحادي عن المعرفة النموذجية والدولة النموذجية والأخلاق النموذجية، والقالب دا يبدو وكأنه قادر يبلع العالم بحاله. إنما العالم أوسع بكثير حسب دولوز وجواتاري، ومافيهوش أشياء أحادية إلا وهي مخصومة من الأشياء المتعددة جواه -الناس والنباتات والحيوانات والجماد والبحار والحقول والذرة والكواكب والمشاعر والرغبات والعيش والسجاير.
دولوز وجواتاري كانوا شايفين إن الواحد بيتعرّف على العالم الواسع دا، على الحاجات اللي بره دي كلها، باعتبار الواحد دا نفسه جزء من العالم دا، في اشتباك دائم معاه، وهو أشبه بانتشار النجيلة في كل اتجاه، مش بتجذُّر الشجرة في أصول ومتون وهوامش. بالتالي نموذج الشجرة بيصوَّر فعل الكتابة والقراءة بشكل مشوش، وكأن الواحد بيقتني المعرفة عبر قراءة كل الكتب في العالم، بالترتيب الأبجدي ومن الجلدة للجلدة، أو كأن المعرفة كلها موجودة جوة قوالب أحادية اسمها "كتب" أو "مقالات"، بينما الكتب والمقالات نفسها عبارة عن جزء من نجيلة أوسع بكثير ومتعددة الاشتباكات.
نقدر نوضح الفكرة دي إذا فكرنا في الفرق بين رسم الخريطة ونسخها على ورق كاربون. الخريطة دايمًا مفتوحة بمعنى إنها مشتبكة مع حاجات كثيرة برة وجودها المادي كورقة، وفي نفس الوقت وجودها كخريطة مرهون بفعل الاشتباك اللي بيخش فيه كاتب الخريطة مع العالم اللي بيخرّطه. كذلك الخريطة ممكن تتقري من أي نقطة ومن أي اتجاه، وتتشقلب فوق وتحت، بما إن قراءتها مش مسألة خطية شجرية، وإنما مرهونة باشتباك القارئ مع العالم اللي بيحاول يلاقي فيه طريقه. أما نسخة الخريطة الكاربون، فهي عبارة عن صورة ذهنية متجمدة في الزمن لشكل العلاقة بين الخريطة واللي بتخرّطه، وإذا بصينا لها كنسخة في حد ذاتها، هنفتقد التشابكات المتعددة اللي بتدّي لرسم وقراءة الخريطة حيويتها الخاصة.
كذلك كتابة وقراءة الموسوعة عبارة عن "ريزوم" حسب تعبير دولوز وجواتاري، الريزوم بيشتغل ببعض المبادئ الأساسية كلها ملائمة مع طبيعة النجيلة: الاتصال، وعدم التجانس، والتعددية، والاشتقاق، والخرائطية، والاستنساخ. الصفات دي بتساعدنا إننا نتصور المعرفة مش كشيء متجمد وموجود في وحدات معرفية منقسمة زي علب التونة، وإنما كعملية متواصلة وبتخلينا نسائل البنى الهرمية في الفلسفة والأدب والدين والمجتمع والعالم الواسع اللي بره. الريزوم مش بيركز على ماهية المعرفة أو اللي كانت عليه، ولكن إيه اللي ممكن يطلع منها.
فيه أمثلة كتير بتطبق مفهوم الريزوم زي اﻹنترنت، وخصوصًا موقع ويكيبيديا (الموسوعة الحرة). الموسوعة التقليدية فيها من طبيعة الريزوم حيث إنك ممكن تضيف لها كلمة جديدة تحت أي حرف، وتكتب عنها مقالة، وتعدل بعض المعلومات، وتحدث شوية بيانات في المقالات الموجودة، وبكدا بقى عندك "طبعة مزيدة ومنقحة" من الموسوعة القديمة. في ويكيبيديا، المسألة فيها تطور أكبر بكتير: من أول الصفحة الرئيسية بتلاقي مقالات كتيرة مختلفة قدامك، ولما بتدخل تقرا أي مقالة بتلاقي بعد كل كام كلمة هايبر لينك (hyperlink) بيفتح لك مقالة تانية غير اللي أنت فيها، وفجأة تلاقي نفسك فتحت عشرة ولا عشرين مقالة قدامك! أنت فعليًا تقدر تروح من أي مقالة في ويكيبيديا ﻷي مقالة تانية بس باتباع الروابط المتضمنة في قلب المقالة اللي أنت فاتحها. كل الصفحات متوصلة ببعض في شبكة كبيرة من الكلمات والمفاهيم، وفي نفس الوقت كل مقالة مستقلة بنفسها وتقدر تقراها لوحدها تمامًا.
قبل ما الإنترنت يبقى ظاهرة عالمية، دولوز وجواتاري نفسهم كتبوا كتاب "الألف هضبة" بنفس الشكل المتشبك المتعشَّق بتاع الريزوم. صورة النجيلة اللي مالهاش جذر واحد أو نمط خطي في نموها بتساعدنا في إعادة التفكير في المعرفة، ومفهوم الريزوم بيخلينا نتخلى عن البدايات والنهايات والشكل المريح للشجرة من أعلاها ﻷدناها، ﻷنه طول الوقت بيتحرك بين البينين، ونقدر نشوف فايدة المفهوم ﻷنه بيسائل التراتبية الهرمية والثنائيات الحادة، وبيدينا طريقة نشوف بيها كل شيء متعدد ومرتبط ببعضه، بما إن مافيش عالم خارج التعدد والترابط دا.
قراءة الموسوعات ربما تبدأ لما الواحد يبقى بيدور على كلمة، وبعدين يكتشف كلمة جديدة في المقالة اللي بيقراها، ويروح يفتح مقالة تانية عن الكلمة الجديدة، ومن مقالة للتانية يمكن يكون قرا الموسوعة كلها! نفس اﻷمر حاصل في كتابة الموسوعات: كتّابها ببيكتبوا مقالة، وبعدين يدركوا إنهم عايزين يوضحوا مفهوم أو اسم أو مكان أو تاريخ مذكور في مقالتهم، وتلاقيهم فتحوا صفحة جديدة وكتبوا مقالة جديدة عن الشيء دا، وبعدها مقالة عن شيء تاني. ودا اللي إحنا بنعمله في موسوعة الملل بالظبط!
المقال خاص بـBoring Books
يحتفظ الكاتبان بحقهما في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقالهما دون إذن منهما.
One Reply to “موسوعة الملل | الريزوم”