حواران مع بول أوستر عن الكتب والكتابة
هذه ترجمة لحوارين مع بول أوستر؛ الأول أجرته النيويورك تايمز ونشر في يناير 2017، والثاني أجرته «ذي جلوب آند ميل» ونشر في فبراير 2017.
ترجمة: أحمد الشربيني
خاص بـ Boring
Books
يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.
***
ما الكتب الموجودة بجانب سريرك الآن؟
كتابان لجيمس بالدوين من نشر المكتبة الأمريكية، الأول هو «المقالات المجمعة» والثاني «الروايات والقصص الأولى». لم أقرأ بالدوين منذ المرحلة الثانوية وحتى وقت قريب (هذه فترة طويلة لأني أنهيت المدرسة عام 1965)، لكن لأن أحداث الرواية التي كنت أعمل عليها مؤخرًا [أي 4 3 2 1] دارت في الخمسينيات والستينيات، قررت أن ألقي نظرة، وسريعًا ما تحولت القراءة التي بَدَأَت بدافع الواجب إلى قراءة بدوافع المتعة والإجلال والإعجاب. بالدوين كاتب رائع للأدب ولغير الأدب، وسأجرؤ على تصنيفه واحدًا من أعظم كتاب أمريكا في القرن العشرين، لا بسبب جرأة أسلوبه أو عمق عاطفته فقط (كتابة تموج بالغضب أحيانًا وتُظهر رقة رفيعة أحيانًا أُخر)، لكن بسبب جودة الكتابة نفسها، بسبب النحت البديع لكل جملة. يمكن أن أسمي نثر بالدوين «أدبًا أمريكيًا كلاسيكيًا» بنفس المعنى الذي يقصده النقاد من القول إن ثورو كاتب كلاسيكي، وعمومًا أظن أن أفضل ما لدى بالدوين يناطح أفضل ما لدى ثورو. الطريف أنني أنهيت قراءة كتابي بالدوين فعلًا منذ أكثر من سنة، لكنهما ما زالا بجانب سريري، لا أعرف لماذا، فقط أحب وجودهما، يجعلانني مرتاحًا.
ما أعظم كتاب قرأته مؤخرًا؟
«امرأة تتأمل الرجال بينما يتأملون النساء»، مجموعة كبيرة من المقالات الساحرة لسيري هوستفيت، لكن إذ يتصادف أن سيري زوجتي فربما يجب عليَّ اقتراح عنوان آخر: رواية «أوريو» لفران روس. نُشرت هذه الرواية أولًا في دار صغيرة عام 1974 فلم يلتفت إليها أحد، ثم نسيت تمامًا حتى أعادت دار «نيو ديركشنز» نشرها عام 2015. من المؤسف أن روس لم تكتب إلا هذه الرواية، ومن مزيد الأسف أنها ماتت عام 1985 وعمرها 50 سنة فقط. رواية بديعة في ظرفها وخفتها، وربما واحدة من أكثر ما قرأت إمتاعًا ومرحًا وذكاءً في السنوات الأخيرة. تصنع روس مزجًا أصيلًا بين اللغة الأكاديمية المثقفة وعامية السود ولغة الإيديش، والنتيجة بارعة. أظن أني ضحكت بصوت عال قرابة مئة مرة، وهذا كتاب قصير (أكثر بقليل من 200 صفحة)، ما يعني أني كنت أضحك عاليًا ومن القلب مرة كل صفحتين تقريبًا.
ما أفضل عمل كلاسيكي لم تقرؤه إلا مؤخرًا؟
رواية فيرجينيا وولف «إلى المنارة». قرأت لوولف «الأمواج» و«أورلاندو» عندما كان عمري 18 عامًا، ولم أحب أيًا منهما، حتى أني لم أعد لقراءة وولف ثانية لمدة 51 عامًا. كانت هذه غلطة غبية، لأن «إلى المنارة» واحدة من أجمل الروايات التي قرأتها في حياتي؛ امتلكتني تمامًا، ارتعشت، وكنت دائمًا على وشك البكاء. الموسيقى الداخلية للجمل الملفلفة الطويلة والعمق الرهيف للعاطفة والإيقاع الخافت للبناء، كل شيء كان مؤثرًا إلى حد أن أصبحت أقرأها بأبطأ ما يمكن، وأعيد قراءة الفقرة الواحدة ثلاث أو أربع مرات قبل الانتقال إلى ما يليها.
ما كتابك المفضل الذي لم يسمع به أحد؟
كتاب من 628 صفحة مليء بالصور، اسمه «حشائش الغرب»، من تأليف 40 مختصًا ونَشْر الجمعية الغربية لعلم الحشائش. الصور مبهرة للعين، لكن أكثر ما أحبه في الكتاب هو أسماء الحشائش والزهور البرية: البقدونس الخشن، القنب المفلطح، الدمسيسة اللبدية، الحسيكة المنكسة، السراغة الشائكة، تفاح الورد، السلبين المريمي، حشيشة المستنقع، الفربيون الملطخ، البازلاء الرمادية، الصفصاف العنقودي، الشويعرة الصلبة. يوجد المئات والمئات من هذه الأسماء، وهناك متعة خالصة في قراءتها بصوت عال، دائمًا ما تجعلني أبتهج: إنه شعر التربة الأمريكية.[1]
أخبرنا عن حكاياتك المفضلة من نيويورك.
هناك الكثير من الحكايات، عشرات القصص التي راكمتها لسنين، لكن بمناسبة الكره الذي يلقاه المهاجرون الآن من قبل أحد مرشحي الرئاسة [دونالد ترامب] سأحكي قصة كان بطلها مهاجرًا. أبتاع أدواتي المكتبية من محل في بروكلن يملكه رجل من أصل صيني وله مساعد من أصل مكسيكي، وتقف امرأة من جامايكا خلف منضدة الكاشير. في يوم بارد، انتقيت بعض الأشياء ثم وقفت لدفع الحساب، فلاحظت المرأة أن أنفي يسيل بسبب البرودة، وبدلًا من تجاهل الأمر، وبدلًا من تنبيهي، شدت منديلًا ومالت للأمام قليلًا بيد ممدودة لتمسحه بنفسها، في لطف شديد ودون قول شيء. هل كانت مخطئة في لمسي دون إذن؟ ربما، في رأي بعض الناس، لكن بالنسبة لي كان هذا فعلًا شديد اللطف، فشكرتها فقط على مساعدتي. لقطة من الحياة اليومية في جمهورية بروكلن الشعبية.
ما الذي تقرؤه وما الذي تتجنب قراءته بينما تعمل على كتاب جديد؟
لا أقرأ الأدب أبدًا إذا كنت أكتب رواية، فقط بعد الانتهاء من الكتابة وقبل البدء بعمل آخر، لكني أقرأ الشعر والتاريخ والسيرة الذاتية، بالإضافة إلى الكتب التي أحتاجها من أجل معلومات تتعلق بما أكتب. أقرأ الآن عمومًا أقل بكثير مما كنت أفعل في شبابي، ولأن فعل الكتابة نفسه مرهق للعقل والجسد، فعادة ما أكتفي بالاستلقاء على الكنبة بعد العشاء لمشاهدة التليفزيون: مباريات نيويورك ميتس في موسم البيسبول، أو أفلام قديمة على قناة TCM مع سيري، التي يستهلكها عملها أيضًا. إذا طلبت رأيي المتواضع، فأهم إنجازين دخلا على الحياة الأمريكية في العشرين سنة الأخيرة، هما قناة TCM (مكتبة سينمائية رفيعة المستوى داخل كل بيت) وطوابع البريد سهلة اللصق.
ما الكتاب الذي قد يندهش الناس من اقتنائك له؟
كتاب لبدرو كارولينو بعنوان «الإنجليزية كما تتحدثها: دليل جديد للكلام في البرتغالية والإنجليزية»، والذي نُشر للمرة الأولى في أمريكا عام 1883، وقدم له مارك توين قائلًا: «لا يمكن أن يتفوق أي شيء على عبثية هذا الكتاب»، وهو محق بالطبع. الكتاب سخيف لأنه دليل للغة الإنجليزية من تأليف شخص لا يعرف إلا أقل القليل عن اللغة، مائة صفحة من العبث، مملوء بجمل على شاكلة «لديك هناك مكتبة جدًا كبير، هذا دليل حبك لتتعلم»، أو «لا شيء أسهل من السباحة: فقط لا تقم بما لا تخاف». مائة صفحة من الدادا، وكما يكتب توين في مقدمته، فإن «خلود هذا الكتاب مسألة مضمونة».
ما أفضل كتاب تلقيته كهدية؟
«القصص المجمعة لإسحاق بابل»، والذي تلقيته في عيد ميلادي السابع عشر. فتح هذا الكتاب في عقلي بابًا للغرفة التي أردت أن أعيش فيها ما بقي من حياتي.
من بطلك أو بطلتك المفضل/ة، ومن الشخصية الشريرة أو نقيض البطل (anti-hero) الذي تفضله في تاريخ الأدب؟
دون كيخوته وراسكولنيكوف.
أي نوع من القراء كنت في طفولتك، وأي الكتب والمؤلفين ظلوا عالقين بذاكرتك منذ الطفولة؟
ما زلت أذكر بوضوح قصة «بيتر رابيت»، وهو كتاب لا بد أن أمي قرأته عليَّ مرارًا، بالإضافة إلى ثلاثة مجلدات من قصص هانس كريستيان أندرسن. عندما كان عمري 9 أو 10 سنوات، أعطتني جدتي مجموعة من 6 كتب لقصص روبرت لويس ستيفنسون. ألهمتني هذه المجموعة الأخيرة لكتابة قصص تبدأ بجمل فخمة كهذه: «في العام 1751 لميلاد سيدنا المسيح، وجدت نفسي أدور مترنحًا، لا أبصر شيئًا، في عاصفة هوجاء، باحثًا عن سبيل العودة إلى وطن أجدادي». كانت «القصص والقصائد الكاملة لإدجار ألن بو» أول ما اشتريته من مالي الخاص في العاشرة أو الحادية عشرة، وكان شيرلوك هولمز أول ما شُغفت به من الأدب. أما أكثر أخطاء طفولتي الأدبية رعونة فكان ثاني كتاب أشتريه: «الدكتور جيفاجو». حصل بوريس باسترناك على جائزة نوبل عندما كان عمري 11 عامًا ونصف العام تقريبًا، وبدا هذا وقتها كأنه أهم حدث في العالم، فاشتريت الكتاب لأفهم سر الضجة، ثم أغلقته بعد أول صفحة لأني لم أفهم شيئًا. كانت الرواية أصعب كثيرًا من قدرتي على الاستيعاب، حتى أني تركتها ولم أعد لقراءتها حتى اليوم، ومع أني قرأت الكثير من قصائد باسترناك في ما بعد، لم أحاول قراءة الدكتور جيفاجو مجددًا قط.
ستنظم حفلة عشاء لمجموعة من الأدباء، من ستدعو من الكتاب الأحياء أو الأموات؟
ديكنز ودوستويفسكي وهاوثورن.
ما الكتاب الذي لم تحبه رغم تقدير الجميع له، سواء بسبب كونه مُحبِطًا أو مبالغًا في تقديره أو سيئًا عمومًا؟
لا أستطيع القول إنني لم أحب «مغامرات هكلبيري فين»، فعلى العكس، أعد الثلث الأول من الرواية من أفضل ما قرأت في حياتي لأي كاتب أمريكي، وأظن جميع القراء متفقين على عبقرية هذا الجزء. لكن بعد البداية الواعدة، ترك توين النص لسنوات قبل كتابة الأجزاء التالية، ومع ذلك، فالثلث الثاني جيد جدًا هو الآخر، بل ممتاز عادةً (مثلًا في المشاهد الشهيرة لرحلة هك وجيم بطول النهر، وكل الشخصيات المميزة التي يقابلونها)، لكن هذا الجزء يفتقر إلى العمق والأصالة المميزين للثلث الأول. بعد ذلك يأتي الثلث الأخير، وبدخول توم سوير إلى الحبكة تتفسخ الرواية تمامًا، وتصبح مراهقة في مبناها ومعناها، لدرجة أن الخدعة الشريرة التي يقع فيها جيم بفعل هك وتوم تأتي مناقضة لمغزى كل ما يسبقها تقريبًا.
هل تفضل أن تحوز القدرة على الاختفاء أم السفر عبر الزمن؟
لا أرى في القدرة على الاختفاء أكثر من محو كئيب للوجود، قوة تأخذ منك حياتك لتحيلك إلى متطفل شبحي، كعينين دون جسد، أما السفر عبر الزمن فطالما شغلني منذ الطفولة، وبعد كثير من التفكير في المسألة قررت أنني سأحب أن أسافر فقط إلى الماضي. من الميزات الأساسية للحياة أننا لا نعرف أبدًا ما يخبئه لنا المستقبل، وأكبر الأسئلة المتعلقة بهذا المستقبل، كالتوقيت الدقيق للموت مثلًا، لا تبدو كشيء سأحب أن أعرفه مقدمًا، لكن فكر بدلًا من ذلك في المتعة التي ستجدها في رؤية أبويك كطفلين، أو الاستماع إلى خطبة لينكلن أمام اتحاد كوبر في عام 1860، أو حضور أول عرض لمسرحية أنتيجون. من يستطيع مقاومة هذه الأشياء؟
ما الكتاب الذي تعتقد أنه يستحق مزيدًا من التقدير؟
قصص هينريش فون كلايست، وهو قاص معروف في ألمانيا، لكن شهرته أقل بكثير مما يستحق في الدول الناطقة بالإنجليزية، وهذا مؤسف لأني أعتبره واحدًا من أعظم كتاب النثر في بواكير القرن التاسع عشر.
ما الكتاب الذي يجب أن يقرؤه كل طفل في عمر 10 سنوات؟
المشكلة الأساسية هنا أن معظم الأطفال في هذا السن لن يستطيعوا قراءة أي شيء أعقد من الكتب الموجهة للأطفال، وهكذا كان الأمر معي، ومع أني لم أكن طفلًا نابغة فلم أكن أبلهًا كذلك. لم أستطع قراءة الأدب الموجه للكبار حتى بلغت 13 أو 14 عامًا، وأظن أن هذا طبيعي بالنسبة لمعظم الناس، لذا سأغير السؤال إلى ما الذي يجب أن يقرأه كل طفل عند عمر 14 سنة، وإجابتي قطعًا هي «الأوديسة». لماذا الأوديسة؟ لأنها الكتاب الذي ولدت من رحمه كل ما جاء بعدها من كتب.
ما أكثر الكتب التي أعدت قراءتها مرات عديدة؟
«دون كيخوته» و«مقالات مونتين» و«الملك لير» و«موبي ديك» و«والدن».
ما الأهم في الكتاب، بدايته أم نهايته؟
إذا كنت تقصد بالبداية الجملة أو الفقرة الافتتاحيتين، لا الفصل أو الأجزاء الأولى، وتقصد بالنهاية الجملة أو الفقرة الختاميتين، فعندها سأقول بكل تأكيد إن البداية هي الأهم. يستطيع القراء أن يصوتوا ضد كتابك باستخدام أيديهم، وإذا لم يكن المؤلف قادرًا على جذب انتباه القارئ وفضوله بالكلمات الأولى، سيغلق القارئ الكتاب دون أن يطلع أبدًا على كلماته الأخيرة. وتأتي الكلمات الأخيرة في المرتبة التالية مباشرة للجملة الافتتاحية، وبالنسبة إلى نصف رواياتي تقريبًا كنت أعرف الجملتين الختامية والافتتاحية قبل بداية الكتابة. الجملة الختامية هي الهدف الذي تسعى لبلوغه بينما تكتب، وإذا كنت محظوظًا بمعرفتها قبل أن تبدأ، ستساعدك كثيرًا في توضيح أفكارك طوال عملية الكتابة. لكن الكتب تمر بتحولات كثيرة في أثناء كتابتها، وبالنسبة إلى النصف الآخر من رواياتي، ضاعت الجملة الختامية الأصلية بينما تطور النص، لأني كنت أكتشف أنني لا أبحث عما اعتقدت أنني أبحث عنه. معاناة هائلة، لكن هنا تكمن المغامرة في كتابة الروايات، ومن الطريف أن هدف كل هذه المعاناة في النهاية هو إخفاء المعاناة، أي جعل الرواية تبدو كما لو أنها كتبت ببساطة وتلقائية من أولها إلى آخرها.
[1] ما يجده أوستر مسليًا هنا هو اللعب اللفظية والاستعارات التي تنمو حول هذه الأسماء كالحشائش، وتحيط بها دون قصد، إذا حاول المرء فهمها بردها إلى مقاطعها المكونة، وهو ما سيعطيها صورًا خيالية طريفة: Bur chervil, spreading dogbane, skeletonleaf bursage, nodding beggarticks, bristly hawksbeard, tansy ragwort, blessed milkthistle, poverty sumpweed, prostrate spurge, everlasting peavine, panicle willowweed, ripgut brome، وترادف ألعاب المخيلة هذه، تباعًا، ما يشبه الدلالات العربية التالية: بقدونس ذو رأس خشنة، سم الكلب المستشرى، حكيم خشن الرأس له أوراق كهيكل عظمي، تكتكات الشحاذ المؤيدة، لحية الصقر الخشنة، نبتة الخرقة الحشائشية، شوكة اللبن المباركة، حشيشة-مستنقع الفقر، القربيون المنبطح، كرمة البازلاء الأبدية، حشائش الصفصاف العنقودية، شويعرة شق الأمعاء.
One Reply to “«كرمة البازلاء الأبدية»: حواران مع بول أوستر عن الكتب والكتابة”
مقال جممممميل 😍