أخذت أشكر جدتي على كل ما قدمته لي وأنا أتحسس جسدها الذي أصبح دافئًا وما زال الدم يتدفق فيه، ولكني لم أكن أعرف ما يتعين علي القيام به حين أفكر في أنه في غضون بضعة أيام، سيحترق جسد جدتي الموجودة أمام عيني الآن، ثم يتحول إلى رماد ويختفي تمامًا.

من أجل تلك اللحظة

قصة لمييكو كاواكامي

ترجمة: سلمى وسيم

مييكو كاواكامي كاتبة وروائية يابانية معاصرة، وُلدت عام 1976، عملت مغنية وأصدرت ثلاثة ألبومات قبل تركها المجال الغنائي للتفرغ للكتابة في عام 2006. اشتهرت عالميًا بروايتي "أثداء وبيض" و"الجنة". تتميز بلغتها الشاعرية و تسليطها الضوء على المسائل الأخلاقية والقضايا الاجتماعية الشائكة والجسد الأنثوي، كما تشتهر باستخدامها للهجة مدينتها المحلية "أوساكا" في كتاباتها. حصلت على عدة جوائز أدبية، منها جائزة أكًتاجاوا.


مييكو كاواكامي، عن wheelercentre

كان أحد أقاربي البعيدين مصابًا بالعمى. كبرت ولم نتقابل سوى بضع مرات، ولكننا قضينا سويًا نصف يوم في حفل تأبين منذ ما يتجاوز الثلاثين عامًا. 

كان شخصًا لطيفًا دمث الخلق، يلاعب الأطفال الضجرين، قائلًا لهم: "صحيح أني لا أرى، ولكن احملوا إلي أي شيء تحبونه، وسأحاول تخمين ماهيته".

وكأنها مسابقة، كان الأطفال يحملون كل ما تقع عليه أياديهم، من أكواب الشاي والأقلام وقصاصات الورق واللعب، وحتى الأغراض المتنوعة في حقائب أمهاتهم، ثم يهللون للعم الذي كان يجيب الإجابة الصحيحة بلا لحظة تردد. كان هذا وقتًا ممتعًا، لكنه لم يغادر بالي بعدها لمدة. لم يكن الأمر يتعلق بالعم بقدر ما كان متعلقًا بما كان يراه.

أخبرتني أمي أنه مرض ففقد بصره. عندما سألتها إن كان العمى يعني الوجود في عالم بلا نور، صدَّقت على كلامي. صحيح أن العم لا يرى الآن، لكنه كان يرى في فترة ما، أي أنه يعلم ماهية النور، ويمتلك ذاكرة عن النور. لو كان لي أن أقابله ثانية، لكان هناك ما أود أن أسأله عنه. إلى أي مدى يختلف النور الذي في ذهنك والنور الذي نراه؟ أو كم يتشابهان؟

في النهاية، لم يتسن لي سؤاله عن الأمر، ولكني من وقتها، قبل أن أنام بالليل وبعد أن أغلق جفوني في قلب العتمة الممتدة، صرت أستدعي نور الصباح مرارًا وتكرارًا. 

كنت أود أن أعرف -بأي وسيلة- كيف وإلى أي مدى كان النور الذي في ذاكرتي يضيء الظلام من حولي.

مر الوقت، وصرت روائية، وكتبت رواية "حكايات صيفية". تتناول الرواية بشكل أساسي أخلاقيات الإنجاب، كما تتحدث عن النسوية والفقر واللاإنجابية، وقضية الطبقية، وتتمحور حول علاقة نساء من ثلاثة أجيال وأحاديثهن.

رغم وجود قواسم مشتركة بيني وبين ناتسوكو البطلة (كنشأة كلتينا في منزل فقير في أوساكا، وكتابتنا للروايات)، إلا أن ما هو خلاف ذلك من العناصر خيال بالطبع. إلا أن هناك جزءًا واحدًا من القصة كتبته من تجاربي ومشاعري الخاصة كما هي، وهو كل ما يتعلق بمشاعر ناتسوكو تجاه جدتها التي ربتها. 

توفيت جدتي في مطلع صيف عام 2019. ربتني جدتي كما لو كانت أمي، وحمتني من شتى الأشياء. كنت وأنا طفلة أخشى موت جدتي، وأبكي ما إن تستحوذ علي خاطرة موتها المحتم. كانت جدتي طيبة، كما أن وجودها كان تقريبًا السبب الوحيد الذي جعلني قادرة على عيش طفولتي. 

مضى عام ونصف على وفاة جدتي، وهو ما كنت أخشاه منذ تفتح وعيي على هذا الدنيا، إلا أني ما زلت مضطربة من الأمر. عندما أنظر إلى الصور، أبكي. ماتت جدتي بالشيخوخة. عاشت حياة مليئة بالصعوبات، إلا أنها تقدمت في العمر حتى وصلت إلى السابعة والتسعين دون أن تصاب بمرض خطير. في نهاية المطاف، لم يكن لها أن تحظى بنهاية أفضل من تلك.

يحيا في هذا العالم من داهمهم الموت وفرق بينهم وبين عزيز لهم، ومع ذلك تمكنوا من المضي قدمًا. إلا أنني عندما أفكر في أني قضيت معها وقتًا طويلًا حتى شهدت وفاتها بنفسي، أشعر بأنه لا يحق لي أن أحزن أو أبكي. في الواقع، لا أعرف لماذا ما زلت حزينة. ربما تكون هذه طريقة غريبة لوصف الأمر، ولكني أشعر أن أنا الصغيرة لا البالغة، تلك التي تخاف أن تموت جدتها، ما زالت موجودة في مكان ما بداخلي، وأنها هي التي وراء هذا الشعور.

منذ طفولتي، كان وجهي وتكويني الجسماني يشبهان جدتي كثيرًا، إلى الحد الذي يجعلني أتذكر جسد جدتي عندما أغير ملابسي وأنظر إلى النصف السفلي من جسدي. أُزيلت الحقنة الوريدية المستخدمة لحفظ الحياة بناء على قرار مني، وقضينا ليلتها الأخيرة سويًا بمفردنا في غرفة المستشفى. 

بينما أتأمل شعلة الحياة وهي تنضب في جسد جدتي شيئًا فشيئًا، أخذت أدلك لعدة ساعات جبينها وذراعيها وفخذيها الذين تغير لونهم نتيجة وضعها للمحلول. أخذت أشكر جدتي على كل ما قدمته لي وأنا أتحسس جسدها الذي أصبح دافئًا وما زال الدم يتدفق فيه، ولكني لم أكن أعرف ما يتعين علي القيام به حين أفكر في أنه في غضون بضعة أيام، سيحترق جسد جدتي الموجودة أمام عيني الآن، ثم يتحول إلى رماد ويختفي تمامًا.

كانت آخر مرة تحدثت فيها مع جدتي وهي واعية قبل أسبوعين من هذا الوقت. ضحكنا سويًا، والتقطنا الصور، ولوحت لها قائلة إني سأعود ثانية، ثم أغلقت باب الغرفة، وكانت تلك هي المرة الأخيرة. لا تزورنا النهاية دائمًا متسربلة بهيئة النهاية.  

ندرك فقط بعد مضي الأمر برمته، أن تلك كانت المرة الأخيرة. بالطبع أفهم هذا، ولكني أحيانًا أتساءل لو كان بوسعي أن أخلق "مرة أخيرة" مختلفة عن تلك. لو كنت جئت لزيارتها في اليوم التالي.. لو كنت جئت لتفقد حالها. 

يا ترى كم مرة ستتكرر تلك "المرات الأخيرة" التي لن أعرف بها حتى أنظر للوراء؟

كنت أستحم دومًا مع جدتي، وكان ينتشر على جسدها بثور دموية كثيرة. كنت أخشى وأنا طفلة أن تنفجر البثور ويخرج منها الكثير من الدم فتموت جدتي، لذا كنت أرجوها أن تلصق عليها كلها ضمادات، فما كان منها إلا أن تضحك وتخبرني ألا أقلق. ما الذي يعنيه حقَا أن نتذكر الذين رحلوا؟ وأن نتذكر الأحاسيس التي تخفت؟ 

أجد نفسي أفكر في تلك الساعات التي كنت أدلك فيها ذراعي جدتي وساقيها طوال الليل والنهار والظهيرة. وقتها، كان جلد جدتي دافئًا، وكانت لا تزال على قيد الحياة، وكنت بالطبع ألمسها. لكنها الآن رحلت ولا يمكنني لمس جلدها مرة أخرى.

أفكر في هذا الأمر، كما أفكر في النور الذي كنت أتخيله في قلب العتمة وأنا طفلة. أفكر في النور الذي ربما كان قريبي الذي فقد بصره يتذكره. هل يختلف هذا عن رؤية النور؟ هل تذكُّر ملمس جلد جدتي الذي لم يعد بإمكاني لمسه يختلف عن لمسها؟

أن تكون قادرًا على لمس أحدهم، وأن تصبح غير قادر على لمسه. أن يكون أحدهم على قيد الحياة، وأن يموت ويصبح غير موجود. أن تلتقي بأحدهم في الحقيقة، وأن تلتقي به في الحلم أو الذكريات. النور الماثل أمام العينين، والنور القابع في الذاكرة. ما هو الفرق الحقيقي بين هذه الأشياء؟ هل لا نستطيع لمس من ماتوا حقًا؟ هل لا يعود النور الذي فقدناه ثانية؟ 

ماذا لو كان هناك عالم هم فيه كما هم، ونحن فقط الذين لا نستطيع الوصول إليه؟ لا أدري. لكن حتى لو لم يكن هذا العالم موجودًا، وحتى لو لم نستطع الوصول إليه، أعتقد أن هذا هو السبب وراء كتابتي للقصص؛ لأخلق لحظة.. ولو حتى واحدة فقط، نستطيع خلالها أن نصدق من أعماقنا أن كل هذه الأشياء ما زالت كما هي.