ما الذي نريده؟ كل شيء! ومن نحن؟ كل الناس!

ثلاث كلمات بسيطة.. كل شيء مشاع

مقال ديفيد هارفي David Harvie

ترجمة حسين الحاج

نشر المقال وتعقيبه بموقع المؤلف


كل شيء لكل الناس

"ما الذي تريده؟".. ذلك نوع السخرية الذي يقذف في وجه كل من يناضل من أجل عالم أفضل. يغرينا الرد بكلمات أغنية "مخمورين" لفريق برايمال سكريم Primal Scream، "نريد أن نكون أحرارًا، نريد أن نكون أحرارًا فيما نريد فعله، نريد أن نكون مخمورين، ونريد أن نحظى بوقت جيد.."، لكن اﻷمر ليس بهذه البساطة. كيف -تحديدًا- سنكون أحرارًا؟

يمكننا الإجابة على هذا السؤال عن طريق قلبه على رأسه والتفكير فيما يقيد حريتنا. ثمة كتاب رائع للكاتبة الألمانية بيني آدمتشاك عنوانه "الشيوعية للأطفال" يضم هذه الفقرة حول اللعب بلوح الويجا: 

"يتحلَّق مجموعة من الناس حول لوح تتوسطه عدسة نُقِشَت عليه الحروف اﻷبجدية. يضع الجميع يده أو إصبعه على العدسة، وإذْ ترتعش الأيدي لا شعوريًا، فإنَّ العدسة تتأرجح بين حرفٍ وآخر، كما لو أنَّ يدًا خفية تحركها. لا يدرك الناس أنهم هم من يحركون العدسة بأنفسهم، ﻷن ارتعاشهم الفردي لم يكن ليحركها. بدلًا من هذا، يعتقدون أن ثمة شبحًا يمرر عبرهم رسالة من نوع ما.

يفسر لوح الويجا بصورة جيدة كيفية سير الحياة في ظل الرأسمالية، وفي واقع اﻷمر، ما من أحد غير اللاعبين يدفع العدسة المتحركة بقوة السحر، برغم من أن لا أحد منهم قادر على تحريكها وحده. تتحرك العدسة لا لسبب إلا لأن الناس يتصرفون معًا بدلاً من التصرف كلٌ على حدى، غير أنَّهم لا يلاحظون أنهم يتعاونون، فهذا التعاون يجري سرًا، من خلف ظهورهم، إذا جاز التعبير. إذا اجتمع الناس معًا بوعي للتفكير جماعيًا فيما يريدون كتابته بالفعل، فلربما قد يكون الناتج مختلفًا جدًا".

تستطرد بيني آدمتشاك موضحةً أنَّ المجتمع يشبه تمامًا لوح الويجا:

"ما من سحر دون العدسة، لكن من دوننا ثمة سحر أقل، فالعدسة لم تتحرك بفعل يدٍ خفية بل باﻷحرى بفعل تعاوننا معًا […] نحن صنعنا كل شيء بأنفسنا […] كل تلك اﻷشياء هي جزء منا بقدر ما نحن جزء منها. وهذا يعني أننا نستطيع تغييرها متى أردنا".

نعم، الحقيقة ماثلة أمامنا، نحن صنعنا كل شيء بأنفسنا.

ثمة أمران ينبثقان عن ذلك، اﻷول، إذا كنا نحن من صنعنا كل شيء بأنفسنا، إذن نستطيع أن نعيد صنعه بطريقة مختلفة. اللامساواة ليست طبيعية، ولا الظلم، ولا السوق. كلها أشياء يمكننا صنعها والتخلص منها. واﻷمر الثاني، إذا كنا نحن من صنعنا كل شيء بأنفسنا، إذن فكل شيء لنا. كل شيء لكل الناس! أو كما صاغها أحد بإيجاز على تويتر: انظروا من النوافذ يا أمة الله. كل ما ترونه ملكٌ لنا. نحن لن نبني شيئًا بديلاً. كل هذا الخراء لنا.

"كل شيء لكل الناس"، تحمل هذه الكلمات الثلاث البسيطة كم هائل من القوة، فهي تقدم مخططًا لعالم من نوع مختلف. وبذلك، تعرض علينا منظورًا لتشكيل الطريقة التي نستكمل بها نضالاتنا اليومية. ليست حياتنا (أو حبنا) شيئًا مجردًا أبدًا، إنه يحدث في الواقع اليومي الصارم ومنه تبدأ نضالاتنا. نحن نناضل ضد تلك التخفيضات في الرواتب واﻹنفاقات، وهؤلاء المديرين والرؤساء، وتلك الحكومة. نحن ننظم أنفسنا ضد ذلك الحدث، وتلك الديناميات، وذلك النموذج… ومن السهل بمرور الوقت أن تغيب رؤيتنا عن هدفنا النهائي، لذا من الضروري أن يكون لدينا أفق، وطريقة لنرفع أعيننا من هنا واﻵن ونرى الصورة الكاملة بعيون مصوبة على الجائزة، يعمل شعار "كل شيء لكل الناس" بصفته رسالة مذكرة لما نريد أن نفعله.

ليست شعارات "الحد اﻷقصى" شيئًا جديدًا. انتشر استعمال الصرخة القتالية كل شيء مشاع Omnia sunt communia في الحرب الفلاحية اﻷلمانية بين عامي 1524 و1525. في عام 1917، ساهم شعار "كل السلطة للسوفيتات" في تنظيم العمال ضد الحكومة المؤقتة في روسيا. أنتجت الانتفاضة الفرنسية في مايو 1968 روائع مثل "لن تهنأ اﻹنسانية إلا عندما تشنق آخر رأسمالي بأمعاء آخر بيروقراطي". يعمل هذا النوع من الشعارات -الصدامية بشكل مثير- من خلال عملية من التمايز، حيث يقيم ثنائية، إما معنا أو علينا، تعمل من خلال الفصل والتعارض.

لكن شعار "كل شيء لكل الناس" مختلف قليلاً، فهو حرفيًا شعار متطرف قدر ما يمكنك من التطرف، لكنه بلا نهاية وقابل للتمدد وما له من حد. ما الذي نريده؟ كل شيء! ومن نحن؟ كل الناس! ما من أحد -وما من شيء- مستثنى. يوضح الشعار اﻷشياء، لا عبر رسم حدود أرض المعركة، بل عبر إعادة صياغة السؤال المتضمن في تلك المعارك: ما نوع العالم الذي نريد العيش فيه؟ وبهذا الصدد، فهو شعار ينشد تحقيق وعد اﻷممية و"وحدة الجنس البشري".

وهو يمضي أبعد من ذلك، فعن طريق المطالبة بكل شيء لكل الناس، نحن نؤكد أن "هذا الخراء لنا". لقد صنعنا العالم كما هو، لذا علينا أن نتحمل مسؤولية صنعنا. فعلى سبيل المثال، ليس التغير المناخي إلا خراءنا، فهو مشكلة بالنسبة لنا جميعًا، لا بالنسبة إلى أولئك الذين يشعرون بآثاره القاتلة فحسب.

عندما استعملت حركة الزاباتيستا في المكسيك تلك العبارة "كل شيء لكل الناس" para todos todo ألحقوا بها ملاحظة دلالة: "نحن نطالب بما هو حق للجميع: الحرية والعدالة والديمقراطية، كل شيء لكل الناس ولا شيء لنا"، لا شيء لنا؟ تلك مشكلة! فعلى ظاهرها، إنها مضادة للهرمية تمامًا، فهي تقول إن ما من امتيازات حصرية مخصصة "لنا". لكن عن طريق التمييز "بيننا" و"الجميع"، يمكن رؤيتها كما لو أننا نعيد خلق عالم تنفصل فيه السياسة عن الحياة اليومية، أو عالم يصبح النضال فيه مجال متخصص يفضل تركه للخبراء والمتخصصين. في الواقع، يمثل شعار "كل شيء لكل الناس" شعارًا جيدًا -بوصفه مركزًا للجذب- ﻷنه يعد تحديدًا بطمس تلك التفرقة وتمكيننا جميعًا من إعادة خلق العالم.

*

تعقيب حول "خطيئة الملكية التي نزدريها.."*:

"كانت هذه الروح العظيمة، الخيط الإلهى الذي يربط كل المساعي البشرية -إذا تمكنت من إبقائه، فهو ملكك، ضمن ممتلكاتك، العبيد أو القارة. هذه هي الحتمية الأمريكية".

~ كولسون وايتهيد، رواية السكك الحديدية السرية**

بالطبع ما من شيء أمريكي بالتحديد في الدافع نحو الاستيلاء على الناس والأشياء والمساحات وإعلانها ملكية خاصة. يعترف وايتهيد بهذا عندما يقول في موضع آخر أن "المرء قد يعتقد أن مصائبه مغايرة، لكن الرعب الحقيقي يكمن في جوهرها المشترك". وما الحتمية الرأسمالية إلا ذلك "الرعب الحقيقي": الدافع نحو الحبس والاكتناز والتطويق والامتلاك. لقد كتبت من قبل أن شعار "كل شيء لكل الناس" بلا نهاية وقابل للتمدد وما له من حد. وهذا حقيقي، لكن كما أشار أحد الرفاق، فإن هذا لا يعني أن الشعار ينفي التعارض. ففي الواقع، فالعكس هو الصحيح، فهو شعار تعارضي في ظل نظام الملكية الخاصة، إن المطالبة بكل شيء لكل الناس يقطع هذا "الخيط الإلهي".

من السهل أن ننسى أن الملكية الخاصة التي تشكل حياتنا ما هي إلا اختراعًا حديثًا نسبيًا، فلقد طرد الناس من أراضيهم في بريطانيا وأحرقت منازلهم وانقلبوا إلى شحاذين وفقراء وصعاليك على مدار قرنين من الزمان. كانت التطويقات منصة إطلاق الرأسمالية، مما جعل الأهالي "مسلوبين" من أي وسائل لإعادة إنتاج أنفسهم وبالتالي "أحرارًا" لأن يصبحوا عمالاً مأجورين.   

"أجساد مسروقة تعمل على أراضٍ مسروقة. كان محركًا لا يتوقف، مرجلاً جائعًا يتغذى على الدم".

~ كولسون وايتهيد، رواية السكك الحديدية السرية

كانت التطويقات سطوًا طبقيًا لا لبس فيه، لكنها لم تكن سطوًا لمرة واحدة في التاريخ كله، بل إن التطويقات عملية مستمرة حتى يومنا هذا، ومحرك لا يتوقف أبدًا. في بعض الأحيان تأخذ أشكالاً واضحة بشكل وحشي، مثل تأسيس حصن أوروبا ضد المهاجرين أو المحو المتواصل للمساحات العامة في مدننا. وفي أحيان أخرى، تبدو بمظهر أكثر خبثًا، فتتمظهر في الطرق التي يحاول بها البعض فرض الملكية الفكرية أو الانخراط في الدفاع المتعصب عن منظماتهم بأي ثمن. يواجه شعار "كل شيء لكل الناس" كل هذه التطويقات. هذه الأرض ليست "لنا"، هذه الأفكار ليست "لك"، هذه الشوارع ليست "لهم"، بل بالأحرى، إنه يطالب أن نأخذ دعوة الحفارين في جعل الأرض "ثروة مشتركة لنا جميعًا" بجدية.


* نشر التعقيب بتاريخ 17 سبتمبر 2017، والعنوان بيت من أغنية "العالم مقلوبًا على رأسه" لبيلي براج.

** ترجمة سماح جعفر، صدرت عن دار روايات 2018.