أجد غصة في حلقي تمنعني من استكمال أي مشاريع كتابة؛ لأن هناك قهرًا أشد وطأة، فتبدو كل المواضيع تافهة، حتى لو لم تكن كذلك. لذلك، كان من الضروري أن أسمع أصواتًا أخرى حول مدى تأثير هذه الأحداث.

الأدب في زمن الإبادة.. سؤال غزة والكتابة!

تقرير أمجد الصبان

ما حدث بعد 7 أكتوبر 2023 كان شيئًا غير مسبوق على مستوى العالم؛ إبادة جماعية تُبثّ على الهواء مباشرة بأدق تفاصيلها، ويقابلها عجز تام عن وقفها، أمام هذه المآسي الإنسانية، تملكتني ردة فعل متطرفة؛ أن أهب ما تبقى من حياتي لتوثيق ما جرى، ولرواية تاريخ العائلات التي مُحيت بالكامل. وأحيانًا أرى فعل الكتابة أنانيًّا، ويناسب المجانين؛ فماذا تفعل كلماتك أمام هذا الكم الهائل من الأشلاء والحطام والجوع؟ بالتأكيد لا شيء.

ولو غضضت الطرف عن الموضوع، وبذلت كل جهدي لدسّ رأسي في التراب لأبتعد عن الأحداث وأتناساها، أجد غصة في حلقي تمنعني من استكمال أي مشاريع كتابة؛ لأن هناك قهرًا أشد وطأة، فتبدو كل المواضيع تافهة، حتى لو لم تكن كذلك. لذلك، كان من الضروري أن أسمع أصواتًا أخرى حول مدى تأثير هذه الأحداث. فتوجهتُ إلى عدد من الكتّاب لأسألهم: كيف أثرت هذه الأحداث عليهم ككتّاب؟ وهل هناك احتمال أن يمتد هذا التأثير إلى أعمالهم؟ وإن وُجد، فما هو هذا التأثير؟

أمجد الصبان


صورة معدة بـ ChatGPT

أميمة صبحي 

كاتبة ومترجمة من مصر، صدر لها المجموعة القصصية "رؤى المدينة المقدسة" التي حصلت على جائزة ساويرس الثقافية. كما صدر لها عدة كتب مترجمة في مجالات متنوعة، وهي محررة في دار العين للنشر.

سافرت إلى دولة الهند في رحلة امتدت إلى شهر فور اندلاع أحداث 7 أكتوبر، كان السفر بهدف الكتابة، وهو ما لم أستطع فعله بعد عودتي إلى مصر لمدة أشهر طويلة بسبب الأحداث. في النهاية ضغطت نفسي لأجلس وأكتب وأسجل أحداث الرحلة التي ذهبت إليها بصحبة أطفالي، ووجدت نفسي على طول الكتاب أتذكر الأحداث التي تابعناها قدر استطاعتنا من قلب قارة آسيا، فبدأت في تضفيرها وسط حكاياتنا. وسجلت ردود أفعال أطفالي على المجازر التي شاهدوها على انستجرام. عالية أنشأت صفحة لغزة هناك، بينما نوح أخذ يرسم العلم الفلسطيني على كل ورقة يجدها أمامه.

في النهاية نحن لا نملك سوى تسجيل ما حدث من وجهات نظرنا لتظل الأحداث حية في الخيال والحقيقة، ولتكون شاهدة على إبادة شعب وقف العالم أمامها صامتا، بينما كاد أطفالي يصرخون يوميا من هول ما رأوا.


كريم جمال 

كاتب وباحث، صدر له كتاب "أم كلثوم وسنوات المجهود الحربي" عام 2022.

في البداية شل عقلي تمامًا، كنت على أملٍ أن تتوقف تلك الحرب ونعود إلى ما قبل 6 أكتوبر 2023، لكن كل شيء تغير، حتى الشعور بمتعة الكتابة تلاشى مع كل مجزرة يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي، لكني كنت أؤمن أن الكتابة مقاومة، شكل من أشكال كسر ذلك الصمت الذي فرض علينا جميعًا وارتضيناه صاغرين، وخاصةً أن مشروعي القادم له صلة كبيرة بتاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، وفصل من فصول تلك الرواية الدموية الحزينة التي لن تنتهي احداثها إلا بنهاية أحد طرفيها، إما نحن أو هم، لذا عدت إلى الكتابة برغبة الانتقام حتى ولو كانت تلك المواجهة على الورق وبالحروف والكلمات.


مروان عثمان 

روائي وقاص. صدر له رواية بعنوان "الحزب 101" ومجموعة قصصية بعنوان "مأساة المهووس بالفن"، وحصل مؤخرًا على جائزة علاء الجابر في المسرح.

فيما يخص أحداث غزة. فأنا لم أكتب عنها. لدي تشبع نوعًا ما فيما يخص الكتابة حول الأحداث الكبرى. لذلك لم أكتب عن يناير 2011 من قبل.

أؤمن بتأثير الأحداث الكبرى على وعيي الشخصي وكتابتي بشكل عام. لأن ثورة يناير 2011 قامت وأنا لم أتمم الخامسة عشر بعد. أعتقد أن ذلك شكل وعيي الشخصي وغير مسار حياتي. بالتأكيد حياتي كانت لتبدو مختلفة لو لم يحدث كل ذلك. لا أستطيع تخيل ما كانت لتبدو عليه. لكني واثق من ذلك.

تأثير تلك الأحداث عليَّ أشبه بصورة ترسخ في اللا وعي وتُحدِث تغييرًا ما، ربما لا يمكنك رصده وقت وقوعه.

أستطيع الإجابة بشعوري بالعجز وقلة الحيلة ولا جدوى الحياة بسبب ما يحدث في غزة ولبنان. لكن الأوضاع العامة في مصر خلال الانتخابات الرئاسية في العام الماضي كانت كفيلة بفرض الإحساس بالضآلة. الهزائم الشخصية تزيد الإحساس بالغير لكنها تُبقيني مكبلًا بيقين أني لم أستطع تغيير ولو أشياء بسيطة في حياتي.

صار لدي شعور بالهشاشة أمام كتلة صلبة عملاقة لا أستطيع تجاوزها. وصرتُ أجدها فكرة ساخرة حين يصف الناس من مات على سريره بأنه مات مرتاحًا، لمجرد أنه لم يمت بفعل الرصاص أو الصواريخ، بينما حياته كانت بعيدة كل البعد عن الراحة.


مينا ناجي 

كاتب ومترجم مصري . صدر له كتاب "33، عن الفقد والرهاب"، والمجموعة القصصية "ترددات".

بداية، كان هناك استشراف لما يحدث منذ عام 2012، تحديدًا مع اندلاع الثورة السورية، والمنعطفات الخطيرة التي أخذتها. هذه التغييرات العميقة والمأساوية غيرت وجهة نظري لا في السياسة فحسب، بل فيما يتعلق بكل شيء تقريبًا. أما بالنسبة لي ككاتب، أثار ذلك الواقع المأساوي نفوري مما يسمى "الكتابة الذاتية" بمعناها الضيق والسطحي، ومن الفانتازيا أو "الخيال" الفارغ من محتوى ما. الرؤية المعاصرة للأدب تمجد هذين المفهومين بشكل مجاني، يكفي أن تكون الكتابة "ذاتية" حتى تكون جيدة، ويكفي أن يكون "الخيال" جامحًا حتى يكون عظيمًا. في الحقيقة، أصبحت أرى ذلك إن لم يكن أنانية وانفصال عن الواقع، فهو يدل على قسوة القلب.

ما حدث ويحدث الآن، لا في فلسطين ولبنان وحسب، بل أيضًا في السودان واليمن والعراق وسوريا، دفعني أكثر في هذا الاتجاه، بسبب التسليط الإعلامي والحي على ما يحدث (لأنه يحدث دائمًا في منطقتنا المبتلاة لكننا نتجاهله ببساطة لأننا تعودنا على أخباره). أي جعل نفوري أشد. فرغم تأثر الناس بما يحدث -وأنا أصدق تأثرهم هذا- يمكن أن ترى استمرار نفس الأحاديث الأدبية، ونفس وجهات النظر، ونفس الكتابة.

سأقول لك ملاحظة بسيطة رأيتها الأيام الماضية، وهي مرتبطة بشكل ما بسؤالك. في ذكرى مرور عام على حرب غزة، لاحظت انتشار منشورات "ما انطباعك عني" / "قل لي ما هي الميزة التي تميزني في رأيك / "ما هو رأيك فيَّ".. إلخ.. بين مهتمين بالثقافة والأدب والشأن العام.. في رأيي أن وراء هذه المنشورات نداء مستجد: "في وسط هذه الأحداث الكبرى لا تنسوني، تكلموا عني رجاءً، فكروا فيَّ لا فيما يحدث حولنا، أنا هنا انظروا إليَّ". لا أظن أن هذا المنطق بعيد عن الكثير من الكتابات الآن.


محمد عبد الجواد

روائي مصري. صدرت له ثلاثية النوفيلات؛ "الصداقة كما رواها علي علي"، "عودة ثانية للابن الضال"، و"جنازة البيض الحارة"، بالإضافة إلى رواية "أميرة البحار السبعة". يقيم في القاهرة.

السؤال كبير والإجابة بالتأكيد ليست سهلة. دعنا نفكر قليلًا في الإجابة نفسها؛ أول ما يتراءى في بالي أنني يجب أن أقول إنني متأثر وأن أثر الحرب المريعة والإبادة التي تتم سيؤثر على الكتابة حتمًا، ولكن مع وقفة قصيرة جدًا مع النفس سأكتشف أنني أقول ذلك لأنه من الواجب أن أذكره، وهذا وحده ما يضع علاقة الكتابة مع الحرب على المحك. خلال عام كامل، كنت أقرأ كتابات كتاب زملاء عن الحرب، والمشكلة التي كنت أشعر بها رغم الكتابات المنتظمة والجيدة أنها غير كافية، أو أنها مثل إلقاء الشعر في حضرة وحش لا يفهمه، يضيع المكتوب في الفضاء الإلكتروني، ويعلق الكاتب به عريضة من عرائض براءته: لقد كتبت عن غزة، وهو يقوم بذلك ليبرئ نفسه أولًا، وهذا ما جعلني أفكر دائمًا في سؤالك هذا، ليتجلى لي لاحقًا بالمصادفة.

عندما توفيت أمي رحمها الله في 2020، لم يظهر أثر ذلك عليّ في البكاء مثلًا فأنا لا أبكي بالأساس، ولا في طريقة خاصة في النظر للحياة، بل تجلى ببساطة وتعقيد أيضًا فيما يمكن أن أسميه طفح إبداعي ظهر بعدها في الروايات الأولى" الثلاثية"، وحتى الآن، كأن الكاتب الذي يكمن داخلي والذي كان يكتب منذ سن العاشرة قد قرر الخروج إلى النهار وإلى العالم ليعبر عن ألمه بطرق مختلفة. ولهذا، فمع تحليلي للأثر الذي جعلته حرب غزة فيّ، فقد تجلى مع المراقبة الشخصية في الكتابة نفسها فصرت أكثر حرصًا أثناء كتابة روايات أعمل عليها حاليًا في ذكر تفاصيل سوداء عن المناخ السياسي حاليًا في مصر، وتأكيد هزيمة الشخص والتي يناسبها بالخارج هزيمة كبرى للمشروع العربي إن وجد أو الحلم العربي يعني، صارت الكتابات أكثر سوادًا فجأة؛ تحتفظ بحس السخرية الذي أفضله في العادة، ولكنها محاطة بأجواء أورويلية بامتياز مثل 1984، وكان إدراكي أنني أفعل ذلك كاحتجاج متخفٍ على ما يجري في غزة ولبنان؛ فهم الداخل يساعدنا على فهم الخارج، ولذلك وجدت أن الكتابة المباشرة عن الحرب تليق بصحفي أو كاتب من غزة نفسها أو لبنان، على خط النار، ولكن ماذا عنا هنا؟ سيكون توثيق واقعنا الصعب والأزمة الاقتصادية الطاحنة والرقابة العامة الشاملة المخيفة أكثر نفعًا لأن من سيبحث عن الكتاب المصريين في هذا الزمن سيجد الاجابة في التوثيق الأدبي لما يجري في الداخل. هذا ما أجده الآن فيما أكتبه، وأراه واضحًا، بل ويشعرني ببعض الرضا عن النفس لأنني أوثق شيئًا بطرق مرواغة وغير مباشرة لأن هذا هو دوري ككاتب، أو لأكن أقل شاعرية: هذا ما يجد الكاتب نفسه متأثرًا به لأنه يحتك يوميًا ببؤر السواد وتفسخ المدينة والانهيار. 

النقطة الثانية؛ هي أن هناك سحرًا أسود وغريب في نشأتنا كجيل ولد في الثمانينيات والتسعينيات، وعشنا فترة طويلة من الركود، حتى قامت ثورة 2011 وانفتح بعدها العالم على آفاق غريبة بلا نهاية. شهدنا شبه انهيار الدولة، ثم عودتها مرة أخرى، ثم دخلنا في زمن حكم شمولي واضح كالذي كنا نقرأ عنه، ثم شهدنا تفتح الوباء ومآلاته، وها نحن نرى كيف تتم حروب الإبادة والتهجير! شيء مذهل، وفي رأيي، وبصورة عملية بحتة، هذه حقب زمنية مناسبة لينشأ منها نجيب محفوظ ودوستويفسكي وتولستوي وهرمان هسه وغيرهم الكثير، يعني ما لم يتوافر لجيل الأدباء في الثمانينيات والتسعينيات رغم تكرر العدوان الصهيوني، نراه الآن أكثر سوادًا وتركيزًا وبكل الصور والفيديوهات، ولهذا شعرت أن بهذا رسالة: هذه فرصتك التاريخية وهذا زمنك، فلا تشغل بالك بأزمنة أقدم لأنها مهمة الآخرين، ويكفي توصيف الواقع واستخراج الجمال والخيال منه، وهو ما جعلني أنكب على قراءة السير الذاتية للكتاب الروس الكبار مثلًا، وكل الكتاب الذين مروا بفترات حرب خارجية وخراب داخلي، وهذا مع علمي أن الشق السلبي في كل ذلك أن مقابل كتاب حلو أو رواية عظيمة؛ حياة صعبة في زمن شاق! 

على الشق الشخصي والذي لا يختلف عن الشق الإبداعي؛ لأن الأول أساس الثاني، خبرت أيامًا سوداء، سائلت فيها ضميري أكثر من مرة، عن مغزى شيء أقوم به، النقطة الثانية التي ذكرتها لا تخلو من البحث عن المجد أو الرواية العظيمة، فهل يقُام هذا على أنقاض الخراب؟ شيء مخيف، جعلني حتى مراقبًا أكثر مني فاعلًا على السوشيال ميديا، وأكتفي حتى بمشاعري الشخصية التي تترجم في الكتابة نفسها، أو مساعدة صديق في غزة بطريقة غير متوقعة، لأصل له في الداخل، وهو ما لن أحكيه حتى لا يفقد الفعل صدقه بكذب الظهور والفخر، وأراقب كل ما أقوله لأن الحدث مغري بالندب والصراخ، بعض أصدقائي يأكلون عيش ويسبون في فصيل سياسي باعتباره السبب، والبعض يسبون في الآخرين، وهكذا تنشأ حلبة صراع وهمية، تؤكد أن الجميع يبحثون عن مسكن للضمير بدون الوقفة الذاتية الصارمة مع النفس لفهم كيف نفكر. دائمًا ما أفكر في أننا نرتعش اذا سمعنا صوت انفجار صندوق كهرباء في حي عادي، ما بالك بقنبلة؟ شيء مخيف ومزلزل، ولهذا فنصيحتي هي: تأدب!، فكر وتأدب أولاً وحاول ألا تقحم نفسك فيما لا تعيه بالكامل، ولا تسقط فيما تفكر فيه اللجان وإذا كنت تأكل عيشًا فكله وخلاص، ولكن فكر ألا تأكله على أشلاء أسر كاملة. 


محمد عبد النبي

كاتب ومترجم مصري، حصل على جائزة ساويرس أكثر من مرة وكذلك رشح للقائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية.

بدئيًا؛ ربما لستُ قادرًا على التفكير في الأمور بهذه الطريقة، بمعنى ما تأثير هذا الشيء أو ذاك عليَّ ككاتب، وعلى كتابتي تحديدًا. هذه أسئلة تخيفني قليلًا، وربما تذكّرني بأطروحات من قبيل أثر البيئة في شِعر سين من الشعراء، وما شابه.

لكني بالمقابل، لا أتوقَّف عن التفكير في تأثير كل شيء عليَّ كإنسان، سواء أحداث كبرى وهائلة مثل جائحة أو كوارث طبيعية أو حرب إقليمية، أو شؤون صغيرة ومهمة أيضًا مثل أسعار السِلع في الأسواق أو حتى حالة الجو. كل شيء يؤثر، لكن الكتابة شأن جانبي، غير منفصل بطبيعة الحال، لكنه أقرب إلى هواية أو لعبة تمارسها بمنتهى الجدية، أو مثل قناع يضعه المرء على وجهه لبعض الوقت، ليتمكن من النظر عبره إلى فظائع العالَم من غير أن يُجَن أو يتجمَّد، ليتمكن من محاولة التوَّهم بأنه يفعل شيئًا ما، يقدّم شيئًا ما، ولو كان ذلك الشيء بضع كلمات على السطور قيمتها موضع شك في الموازين الكبرى للأمور، لكن هذا ليس موضع الموازين الكبرى، هذا موضع العادات السيئة ربما، أو الهواجس الشخصية المُلحة، والهَوَس الشخصي مرة بعد أخرى الهَوَس الشخصي.

أتأثر شأن كل إنسان آخر، ولا أدري كيف سينتقل هذا التأثير إلى الكتابة، أو متى، أو على أي نحوٍ، ولا ينبغي لي الانشغال الواعي بهذا الأمر، لأنَّ هذا – في رأيي – يُفسد اللعبة كلها، ينزعها من منطقة التحرّر والتخفُّف إلى منطقة المسؤولية والالتزام، فتتحوَّل إلى بندٍ آخر على قائمة المهام المطلوب من الإنسان الاضطلاع بها، أو خطاب يحب أن يصدّره للناس انطلاقًا من موقف واضح وملتزِم، كل هذا على العين والرأس لكنه يختطف فِعل الكتابة المُجرد ويرميه في السوق، رغمًا عنه، حتَّى لو كان سوق الأفكار والأحلام هو المآل النهائي لكل كتابة.

الإنسان منشغل بمهامه اليومية التي تحول بينه وبين الجنون أحيانًا، إذ نعيش على خلفية من القتل اليومي، لولا انشغالاتنا بمسؤولياتنا وضرورات أكل العيش، إلى آخره. حتَّى في وسط المآسي الكبرى ومعمعة الحروب وخيام النازحين، تبقى الحياة الإنسانية الفردية اليومية بتفاصيلها وتناقضاتها هي الصدارة، ليست هناك عصا سِحرية تُخفي كل أزماتنا النفسية وخلافاتنا الاجتماعية اسمها الكوارث الكبرى أو القضايا العامة، تبقى تلك في الخلفية، تؤثر فينا وتتلاعب بمصائرنا وتقتلنا حتَّى، لكنها لا يجب أن تصنع منَّا أفكارًا مجرَّدة، لا يجب أن تحوّلنا إلى أرقام ورموز وأسماء تتوالى على شريط الأخبار. هذا ما يحاربه الفن، في جانبٍ منه، على ما أظن، أن يحتفظ لكل إنسان بحكايته بلا مساس، بحياته بلا تجريد، بملامحه الخاصة المتميزة من غير أن تذوب في الجموع والحشود. كلٌ منَّا يستحق هذا، يعرف الكاتب هذا لذلك لا ينسى كونه إنسانًا شأنه شأن جميع هؤلاء المختصرين في كلمات وأرقام وشريط أخبار، في كلمات مثل الضحايا والشهداء والجرحى، إلى آخره. 


هالة صلاح الصياد 

تخرّجت من كلية الفنون الجميلة عام 2006. نشرت أول مجموعة قصصية لها عام 2015، تلتها مجموعة قصصية ثانية وروايتان، آخرهما "غواية الفناء" في 2023.

لا ريب أن ما يحدث في غزة له تأثير بالغ عليَّ كإنسان، وليس ككاتب. لست واثقة إذا كان هذا التأثير سينعكس على كتاباتي القادمة أم لا، إذ أفكر في مشاريعي من هذا المنطلق. ربما يظهر الأثر بشكل مبطن وليس مباشرًا. لا شك أن شيئًا قد تغير، ولكن من الصعب، ونحن نعايش هذه اللحظة القاسية، أن نفكر في انعكاس ذلك على ما سننتجه في المستقبل. بالنسبة لي، لا أفضل الكتابة التي تقرر بشكل مسبق أنها ستتأثر، بل أفضل التأثير الذي يتسرب إلى الكتابة دون عمد أو تخطيط.


يوسف رخا 

كاتب مصري يكتب بالعربية والإنجليزية. آخر أعماله رواية "إنك ذاهب إلى البار" (المتوسط).

ككاتب أو كغير كاتب، هذه الأحداث جعلت الحياة أصعب. أنت الآن تقوم من النوم وتحت سريرك طفل ميت. طول اليوم تحاول أن تنسى هذا الطفل – أحيانًا تنجح، وربما تنام دونما يخطر لك – لكنك لحظة يسكت تشويش الحياة الدائر في رأسك بلا توقف تتذكر: تحت سريرك طفل ميت، كيف ستتصرف في هذا الأمر؟ على كل حال نعم للأحداث تأثير مباشر على كتاب المقالات الأدبية (الإنجليزية) الذي أشتغل به الآن، لأنها أعادت تأطير موضوعه: ماذا يعني أن تكون مسلمًا هنا الآن؟ يعني أنك تُقتل أنت وأهلك كالذباب. يعني أن تطير رؤوس أطفالك أو ينهد بيتك فوق رأسك وأنت قاعد لا بك ولا عليك. هو يعني أشياء أخرى طبعًا لكن أقصد أن هذا إطار جديد نسبيًا ويطرح زوايا مختلفة للتعامل مع السؤال. مثلًا أنا الآن متأكد أن المشكلة ليست عند المسلمين بقدر ما هي في نظرة حكام العالم إلينا. الكارثة بصراحة أني لا أرى أي جهة أصدقها. كل المطروح في وجه الجرائم هو جرائم مضادة يبدو أنها تؤذينا نحن أكثر بكثير مما تؤذي قتلتنا. ماذا يمكنك أن تفعل في هذه الحالة؟ كيف تجر الطفل الميت من تحت سريرك وتدفنه أو تحرقه أو تقيم عليه سحرًا يعيده إلى الحياة؟ بصراحة ليس عندي أدنى فكرة، وهذا أكثر شيء يوجعني. كنت أتمنى لو أستطيع أن أصدق جدوى الذهاب إلى مكان، أي مكان.