يذهب كالاسو إلى أن الدخول إلى القصر مثل الدخول إلى حُلم، لكنها تذكرة ذهاب فقط بدون عودة، والإجراءات الإدارية في القضية والقصر متشابهة إلى حد ما، لكن لا شيء يؤكد أن الإستراتيجية العامة في الحالتين متوافقة.

تأملات في أحوال السيد كا.. روبرتو كالاسو قارئًا لفرانتـس كافكا

مقال: أحمد الزناتي

نُشر المقال في أخبار الأدب، يناير 2022


روبرتو كالاسو، عن atalayar

تـأمَّــلْ الفقرة التالية من كلام روبرتو كالاسو عن الكتابة:

"تؤلّف الرواية عندما يكون هناك شيء يتحتَّم على الكاتب اكتشافه، وهو شيء غامض لا يعرف الكاتب طبيعته ولا أين يجده، كل ما يعرفه أنه شيء ينبغي العثور عليه. عند هذه اللحظة تبدأ المطاردة وتبدأ الكتابة".

في أواخر يوليو سنة 2021 تُوفي الكاتب والناقد والناشر الإيطالي روبرتو كالاسو عن عمرٍ ناهز الثمانين سنة بعد عمرٍ طويل أمضاه في أروقة عالم النشر والكتابة والنقد والتحليل الأدبي. كالاسو من مواليد 30 مايو 1941 في مدينة فلورنسا الإيطالية. عمل في شركة النشر أديلفي إديزيوني (Adelphi Edizioni ) منذ تأسيسها على يد المحرر والكاتب الإيطالي روبرتو بازلين في عام 1962، وقد حرَّر كالاسو كتابًا ضخمًا يضم نصوص بازلين، سبق أن ناقشتُه في مادة سابقة قبل وفاته بشهرين.

رأس كالاسو الدار في سنة 1999، وفي سنة 2015 اشترى الشركة لمنع الاستحواذ عليها بمعرفة دار نشر أكبر. كالاسو موسوعة واقفة على قدميْن ومؤسسة أدبية قائمة برأسها، شخصية منصرفة إلى عملها بالمعنى الغربي للكلمة؛ سِكة هارولد بلوم وجورج شتاينر وعبد الرحمن بدوي ومحمد عناني. كان كالاسو يجيد الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والألمانية واللاتينية واليونانية القديمة. كما درس السنسكريتية وتركزت أعماله حول تحليل العلاقة بين الأسطورة وظهور الوعي الحديث، ونشرَ عن هذه الأطروحة عددًا من الأعمال الفكرية ثرية المادة من بينها زواج كادموس وهارموني، الأدب والآلهة، وكتاب الكُتب، وغيرها. كما كتبَ كالاسو عددًا ضخمًا من المقالات التي ركَّزت على إعادة تناول الأساطير الهندية والإغريقية وربطها بمسار الحداثة الأوروبية. أولى كالاسو جانبًا من اهتمامه لأعمال فرانتس كافكا، خرجتْ في صورة كتاب (كاK - ) وتُنطق كما ننطِق أول حرفين من "كـارل"، وهو الكتاب الذي سأناقشه هنا.

للمؤلف كذلك عمل آخر يحمل عنوان (Ka) وهو دراسة في تمثُّلات الميثولوجيا الهندية، وإن كنتُ أرجِّح أن المقصود من «الكا» الطاقة النفسية والحيوية لدى الإله، أو شرارة الحياة بحسب تعريف موسوعة الأساطير والرموز الفرعونية (المركز القومي للترجمة - 2004، ص: 265)، وكان لـيونج ولع خاص بِـــ(كا) وحاورَها كثيرًا في دفاتره السوداء باعتبارها النفس الخالدة التي نفحها الخالق من روحه. يبدو أن مفردة "كا" مفردة سحرية، تضرب بجذورها إلى أعماق أبعد مما نظن.


قلْبُ هذا العمل مناقشة مُطوَّلة لروايتي كافكا "Der Prozeß"، القضية في ترجمة د. مصطفى ماهر، والمحاكمة في ترجمة وطفي، وإن كنتُ أميل إلى عنوان ماهر، ورواية Das Schloss القصر أو القلعة في ترجمات أخرى. في تحليل كالاسو تقارب الروايتان فكرة التعامل مع حالة ما. محور الروايتين فكرة "وقوع الاختيار على شخصٍ بعينه"، يصفها كالاسو بـ"Election"، أو القُرعة السماوية بالمعنى الميثولوجي الذي يطرحه جوزيف كامبل.

نقطة الانطلاق دائمًا وقوع الاختيار على كا وغموض اختياره هو تحديدًا، وهو غموض لا سبيل إلى تفسيره، حتى إن البطل نفسه لا يحاول البحث عن مسوِّغات لوقوع الاختيار عليه ويسير مع الحكاية حتى آخرها. يأخذنا كالاسو في تحليل مقارن لفصول الروايتيْن، ثم يمضي في فصول لاحقة في مقاربة نصوص كافكا الأخرى ويعرِّج في أحيان كثيرة على اليوميات والرسائل. يقرأ كالاسو نصوص كافكا بما في ذلك اليوميات والشذرات قراءة حميمية إلى درجة أن صوته كمؤلف يتبادل الدور مع صوت المؤلف، فلا تدري كقارئ من الذي يتكلم كافكا أم كالاسو. حُلم جوانج زي: الرجل الذي يحلُم بأنه فراشة أم الفراشة التي تحلُم بأنها رجل.

 يُعَلِّمنا هسَّه أنه ينبغي على القارئ أن يختار مما يقرأ مختارات تخصُّه وإلا تحوَّل إلى آلة كاتبة أو ببغاء. عثرت عند كالاسو على بعض النقاط الجديرة بالإشارة، لذلك سألقي الضوء هنا على رؤيته للروايتين المذكورتين سلفًا لظهور البطل فيهما باسم "كا"، وهو عنوان الكتاب.

في تحليل كالاسو لأحوال البطل الروائي كا نجد أن إدانته/ملاحقته دائمًا أمر مؤكد، بينما اختياره لأداء المهمة أمر غير مؤكد. يظهر مجهولان في غرفة يوزيف كا، يلتهمان فطوره، ثم يُبلغ في عيد ميلاده الثلاثين بأنه معتقل. الادعاء نفسه هو الحُكم. أغلِقْ فمك. ولا كلمة. الموضوع محسوم. في رواية القصر ثمة شكوك تحوم حول حقيقة استدعاء موظف المساحة كا.

فاكرين مثلًا غضب شفارتسِر في أول الرواية لما تلقَّى اتصالًا من فريتس وقال إن الوافد الغريب مجرد صعلوك دنيء كذاب، ثم رجع وعَدل عن كلامه بعد مكالمة هاتفية مُطولة من مدير المكتب. ثمة شيء خفي يجري من وراء الستار حول مسألة تعيين كا. هل نعرف شيئًا عن تاريخ كا وأصله وفصله قبل الوصول إلى القصر؟ لا سبيل إلى معرفة ذلك على وجه اليقين.

يخبر مديرُ القرية المسَّاح كا: "لقد قلتَ إنهم قبلوك موظفًا للمساحة، ولكننا للأسف لا نحتاج إلى موظف مساحة، فليس له أدنى عمل هنا". يقول كالاسو: إن القسوة ليست في الجملة الأخيرة بل في كلمة "لقد قلتَ"، تأويلي لاقتباس كالاسو السابق من الرواية: لم يستدعكَ أحد يا سيد كا، وإثبات مبرر وجودك في القصر مسؤوليتك وحدك.

يرى كالاسو أن روايتي المحاكمة والقصر تدوران في جو نفسي واحد، في عالم يُطلِق عليه mundus imaginalis، بقليل من البحث وجدتُ أنه مصطلح ابتكره الفيلسوف الفرنسي والصوفي الكبير د. هنري كوربان لوصف مملكة الخيال التي يسبح فيها العارفون، وترجمته (عالم المثال) لو استعرنا تعبير الشيخ الأكبر، قالب من اللا واقع مضمونه الواقع بتعبير د. مصطفى ماهر.

يأخذنا كالاسو في تحليل شائق فيقول إنه بعد تنفيذ حكم الإعدام في يوزيف كا، يُستدعى المسَّاح كا في مهمة غامضة إلى القصر. يطلق كالاسو على هذه الحالة الـbardo، ومعناها في كتاب الموتى البوذي - بحسب شرح كالاسو - حالة متداخلة بين الموت والبعث، والعبد لله يُـفـتي ويزعم أن مفردة (الباردو) غير بعيدة اشتقاقيًّا عن مفردة (البرزخ). هنا ألمس مدى ولع كالاسو بردِّ أصل الأشياء إلى منبعها، كما أرى ذهنه المشغول دومًا بمحاولة ربط الواقعي بجذوره الميثولوجية، وهو ما برع فيه طَوال حياته. استشعرتُ ذلك في استلهام فكرته السابقة من فكرة التناسخ. تُبعث روح كا إلى الحياة في جسد موظف مثله مثل سلفِه موظف البنك يوزيف كا.

في البداية لنتذكر معًا ما قاله كا إلى الرئيس بخصوص خطاب التعيين (اعتمدت على ترجمة د. ماهر): "إذا قبلنا جدلًا بأن الأحوال على هذا النحو فمعنى هذا أن الخاطر الذي طرأ باستدعاء شخص للعمل كموظف مساحة في القصر مجرد عمل (خيالي ودي).. ثم تتابعت الأعمال في الفترة التالية الواحدة تلو الأخرى؟"

يذهب كالاسو إلى أن الدخول إلى القصر مثل الدخول إلى حُلم، لكنها تذكرة ذهاب فقط بدون عودة، والإجراءات الإدارية في القضية والقصر متشابهة إلى حد ما، لكن لا شيء يؤكد أن الإستراتيجية العامة في الحالتين متوافقة. لا توجد في القصر ملاحقة قانونية ولا حاجة إلى كتابة مذكرة دفاع (كما حاول يوزيف في أثناء ساعات العمل الرسمية في البنك)، بل يكفي أن تستمر الحياة. مجرد مرور الوقت هو الحُكم. الدخول إلى القصر معناه غياب الزمن. ألا تذكرنا أيضًا بكيفية انقضاء الزمن ومرور الأيام على دروجو في صحراء التتار؟ يحتدُّ كا ويبرز خطاب التعيين الموقَّع من "كْـلَمْ"، فيخبره الرئيس أنه ليس مخاطبة رسمية، بل مجرد خطاب خاص لم ترد به كلمة واحدة تؤكد أنه مقبول، وأن تفسير مغزى وجوده في القصر ملقى على عاتقه وحده.


أما عن الأصالة الفنية في الروايتيْن فيقول كالاسو: "ما يميز القضية والقصر هو أن الروايتيْن من السطر الأول حتى السطر الأخير تظهران أمام أعيننا على أعتاب عالم خفي يشكِّك المرء في وجوده. لم يسبق لرواية قط أن رسمت مثل هذا الخط الرفيع بين الحلم والواقع أو رسمت لنا مثل هذا المكان. لم يسبق لأحد قط أن قرَّب إلينا هذين العالمين بشكل مرعب بحيث يبدو أنهما يلمسان كل واحد منا ملامسة خفية. لا يمكننا أن نجزم على وجه اليقين ما إذا كان هذا العالم الخفي خيرًا أم شرًّا، فردوسيًّا أم جهنميًّا. القرينة المادية الوحيدة هي ذلك الشعور الغامض الذي يغمرنا ويغلفُ قلوبنا، وحالنا كحال (كا) تتناوب علينا ومضات من النوم واليقظة، فنخلط بينهما أحيانًا، لكن أحدًا لا يملك سلطة تصحيح رؤيتنا".

يقدم كالاسو تأويله حول سبب عدم مغادرة كا القصر، فيقول عن القصر إنه مكان مؤلم، لكنه المكان الوحيد الذي يعرف كافكا أنه ينتمي إليه. وصل كا إلى القرية الواقعة أسفل القصر، وبعد أن لاقى الرفض في البداية وتعرَّض للمضايقة، يدرك أنه جاء إلى هنا ليبقى كما لو أن أي نوع آخر من الحياة كان مغلقًا أمام وجهه، فيكرر: "سأبقى هنا"، ويواصل كما لو كان يتحدث إلى نفسه: "ما كان لشيء آخر أن يأتي بي إلى هذه الأرض اليباب [يستخدم كالاسو كلمة The Wasteland] إن لم تكن الرغبة في البقاء هنا". كا قدَّم المبررات وقال إنه قطع رحلة شاقة طويلة وعثر على عروسه في هذا المكان، وأنه لن يجد عملًا في مكان آخر. القصر - وفق كلام كالاسو - هي الأرض اليباب، وهي أيضًا أرض الميعاد. وأرض الميعاد هي الأرض الوحيدة التي يمكن للمرء أن يقول عنها كما قال كا: "لا أستطيع الهجرة منها".

أنفر من كل تأويل لاهوتي، فالتأويلات اللاهوتية حدِّية، شارع ذو اتجاه واحد، أميل إلى وجهة نظر هسَّه في إحدى رسائله لما قال: "بالنسبة إليَّ كقارئ متابع لأعمال كافكا منذ بواكيره الأولى فالأسئلة التي طرحها كافكا لم يعطِ عنها إجابة. كان ينقل إلينا أحلامه ورؤاه حول حياته الموحشة القاسية، وكان يقدِّم إلينا قصصًا شبيهة بمعايشاته، وبمنغِّصات حياته ومسرَّاتها. كانت هذه الأحلام والرؤى فريدة من نوعها، ومطلوب منا [كقرَّاء] قراءتها وقبولها". لا أعتقد أن القصر كان أرض ميعاد ولا يحزنون، ربما يكون الجهل بمعرفة معنى القصر هو جزء من معنى القصر. آخر جُملة في مولوي بيكيت تقول: (كان الوقت منتصف الليل وكان المطر يدقُّ النوافذ. لم يكن الوقت منتصف الليل، لم تكن تمطر). هذه أسرار مدفونة في أعماق كل كاتب. لكل قارئ "كافكاه".

قوية وأصيلة ثيمات الزمن المُعلَّق والمكان الذي لا يُمكن بلوغه أو المكان الذي لا يمكن الخروج منه. قفز الآن إلى ذهني كتاب يوميات القراءة لمانجويل الذي سردَ فيه أسماء الأعمال التي تتناول ثيمة الزمن المُعلَّق مثل رواية امرأة في الرمال لكوبو آبي، ونوفيلا ساحرة لأدولفو بيوي كاساريس دوَّختني وراءها سنوات اسمها "اليمين الكاذبة للثلج" عثرتُ على ترجمتها الإنجليزية مؤخرًا، وثيمة الأماكن التي لا يمكن بلوغها/مغادرتها مثل قلعة كافكا وصحراء التتار لبوتزاتي ومسرحية الأبواب المقفلة لسارتر، إلخ. نقطة مهمة جديرة بالإشارة اقتنصها كالاسو بمهارة وساعدتني على الاقتراب من فهم كافكا على نحو أفضل، حيث يقول في فصل لاحق: "تبدأ عملية الكتابة عند كافكا حينما يدخل في علاقة مع إجراءات المحاكمة أو بعد دخول القصر، وهي علاقة ستكون دائمًا وحرفيًّا، مثل قضية خاسرة". أقول في نفسي هل هذا هو السبب الذي لم يدفع كافكا لأن يتعامل مع موهبته الأدبية تعاملًا أكثر جدية؟ يسأل راينر شتاخ في كتابه "كافكا السنوات الأولى" (ت: هبة الله فتحي) هل جاء كاتب من قبل يحترم عملية الكتابة ويحتقر المُنتج الملموس بهذا الشكل؟ ظلَّ ماكس برود حائرًا في تفسير هذا الموقف الغامض من صديقه إزاء نشر أعماله وتردُّده بوصف موقفه دليلًا على العبقرية، أم ربما هو حالة بعيدة عن الفن، حالة مدمرة (أو قضية خاسرة بتعبير كالاسو). ما الذي كان يقصده كافكا؟ ما الذي كان يريده من وراء الكتابة إن كان يستهين بمسألة المُنتج المطبوع؟ التأويلات مختلفة، لكن السرَّ وحده عند البطل المتكتِّم. بورخيس قال مرة في حوارٍ مترجَم إن كافكا كان يفتش عن شيء ما، لكن لم يوضِّح المزيد. ملاحظة شتاخ السابقة سبق أن أثارها رونالد جراي في كتاب فرانز كافكا (المشروع القومي للترجمة ت: نسيم مجلي، 2000)، وهي أن شك أهل القصر في تعيين المسَّاح كا عند وصوله يعكس شكَّ كافكا نفسه في موهبته وقيمته ككاتب. فكلمة Surveyor = مسَّاح استعارة ليست سيئة الدلالة على روائي= Novelist، وكما أن المسَّاح لم يقدم دليلًا واحدًا على كفاءته الوظيفية لم يقدم كافكا أمارة على جدارته ككاتب فأحرق أعماله تشكيكًا في جدواها وإنكارًا لقيمتها (ص 181).

قرأتُ منذ زمن بعيد قصة لكاتب لم أعد أذكر اسمه عن محامٍ يعمل في مكتب كبير كُلِّفَ بمتابعة ملف قضية والعثور على ثغرة لإبراء الموكِّل وكتابة مذكرة الدفاع. كانت مستندات القضية مكتوبة بلغات غريبة، ولأن بطل القصة عاطفي متحمِّس، اشترى قواميس كثيرة وانشغل سنوات طويلة بترجمة ملف القضية، ثم انغمس سنوات أخرى في الاطلاع على أوراق القضية ولم يفهم كلمة واحدة. كانت القرائن والأدلة ضد المدعى عليه غير كافية، لكنها أيضًا لم تكن تبرئ ساحته تمامًا. في القصة ما تزال القضية منظورة أمام محكمة ابتدائية، وما يزال أمامها الاستئناف ثم النقض ثم إدارة تنفيذ الأحكام، أو ربما يردُّ مجهول هيئة المحكمة لاستشعار الحرج. من واقع خبرته يستمر هذا النوع من القضايا سنوات طويلة، طويلة جدًّا. لكن عليه مواصلة كتابة التقرير والاستمرار في فحص دوسيه القضية، فإن لم يكن في المكتب، ففي المنزل ليلًا، وإن لم يكن في المنزل فعليه القيام بإجازة، المهمُّ ألا يتوقَّف؛ فما ينبغي للمرء الوقوف في منتصف الطريق. يعي بطل القصة أنَّ كتابة التقرير عمل شاق، لأنه يتطلب التفتيش في تفاصيل معينة في حياة الموكِّل، لكن أحدًا غيره لن يمكنه كتابة التقرير، فربما يعثر يومًا عما يفتِّش عنه.

ربما كان استدعاء كا حيلة مُدبَّرة. كان من المحتم أن تبقى رواية القصر ناقصة، لأن اكتمالها كان سيقضي على غاية كافكا من فكرة الكتابة نفسها، عرَفَ كافكا نهاية بطل رواية القضية (وربما) لم يكن يريد أن يلاقي المسَّاح المصير ذاته، كان يريد أن يمضي مع رحلته في القصر حتى نهايتها (حتى لو لم يصل) ليرى إلامَ ستؤول الأمور.

كان كا أذكى من دروجو بطل صحراء التتار لأنه لم يُـنـه الرواية. قرب نهاية الرواية يقترح القائد سيموني على البطل دروجو القيام بإجازة والذهاب إلى البحر بعد عقود من العمل المتواصل وترقيته إلى رتبة النائب الأول فيقول له: "أنت تأخذ كل شيء على محمل الجد يا دروجو". لكن دروجو يرفض، مفضلًا البقاء داخل القلعة، مُدافعًا عنها، وكأنها تحتاج وجوده كما يحتاجُ وجودها. في السطر الأخير يغادر دروجو القلعة ويتهيأ للموت. يبتسم وهو يرتب بيده ياقة البذلة. يموت البطل وفي نفسه حنين إلى القلعة.