«من كان يعبد جماًلا فإن جماًلا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت»

وياما شفتي جمال -عبد الناصر- يا عين!

مقال حسين الحاج


جنازة أم كلثوم ولوحة لها كتب عليها شهيدة الحب الإلهي في 1975

لا يخفى على أي محب للشاعر السكندري مولدًا والقاهري مقامًا بيرم التونسي أنه كان شاعرًا ذو صبغة صوفية، حتى أشهر قصائده «النسوان» التي يتغزل فيها بمحاسن النساء ومفاتنهن لا تخلو في كل بيت من مطلعها من مناجاة لخالقهن حيث يقول: «ودي العيون اللي أشهد لك / بها و أسجد لك / دي خلت الطاغي انقاد لك / والمتكبر»، ولعل أشهر قصائده الدينية جمعاء هي «القلب يعشق كل جميل» التي غنتها أم كلثوم في عام 1971 عن حج بيت الله الحرام.

أما الفكرة نفسها فهي ليست جديدة في شعرنا العربي على أية حال، فقد نسب لشاعر الخمر والمجون أبو نواس أنه أنشد ذات مرة «إلهنا ما أعدلك / مَليكَ كُلِّ مَن مَلَك / لَبَّيكَ قَد لَبَّيتُ لَك / لَبَّيكَ إِنَّ الحَمدَ لَك / وَالمُلكَ لا شَريكَ لَك»، وهي قصيدة تتضمن دعاء تلبية الحج الإسلامي. لكن الشيء الذي يميز «القلب يعشق كل جميل» أنها تبدأ من إقرار العشق الدنيوي وإحباطاته قبل أن تمضي في طريقها نحو العشق الإلهي ومطامحه.

القلب يعشق كل جميل؟ نعم، صدقًا وحقًا! لكن ما أكثر الجمال الذي سيعشقه القلب أيضًا! لذلك لن يكون عشقه صادقًا لأنه دائم التغير والتبدل، ولأن شاعرنا العامي كان يتوق إلى صدق العشق ودوام الجمال، فقد استعاض عن تعددية الجمال الدنيوي الزائل بوحدانية الجمال الإلهي الخالد. 

لكن ماذا لو لم يكن ذلك مقصد أم كلثوم من الأغنية تحديدًا؟

في مسرحية «مزيكا في الحي الشرقي» المعروضة في عام 1971 أيضًا، يتهم القبطان عز الدين الحسيني (سمير غانم) المطربة فايزة أحمد أنها أدرجت اسمه سرًا في أغنيتها «بيت العز يا بيتنا»، والسبب هو تشابه وضعه كأب أرمل بحالة الأب (زكي رستم) في فيلم «أنا وبناتي» (1961) الذي غنت فيه فايزة أحمد أغنيتها له، فهي في الحقيقة تغني «بيت العز -الدين الحسيني- يا بيتنا». وعلى النهج نفسه، أزعم أن أم كلثوم قصدت بالجمال في بيت "وياما شفتي جمال يا عين" محبوبها جمال عبد الناصر الذي رحل في 28 سبتمبر 1970، ومن ثم فإن الكلمة السكندرية «ياما» هنا تعني أنها كثيرًا رأت جمال عبد الناصر، لا أنها رأت الكثير من الجمال.

تعد «القلب يعشق كل جميل» إحدى أغنيات «الست» الأخيرة التي غنتها قبل رحيلها شخصيًا بعدما ظلت الأغنية حبيسة أدراجها لسنوات وسنوات، وقد غنتها أم كلثوم أربع مرات فقط في حياتها. كانت المرة الأولى في الرابع من فبراير 1971 (9 ذو الحجة 1390)، أي بعد وفاة عبد الناصر بحوالي خمسة أشهر، ثم غنتها ثانية في السادس من مايو من نفس العام، وكانت المرة الثالثة في حفل نادي وزارة الدفاع بأبو ظبي في 30 نوفمبر، ثم مر عام 1972 دون أن تغنيها مطلقًا، ثم كانت المرة الرابعة والأخيرة في 4 يناير 1973 (30 ذو القعدة 1392)، وكانت تلك الأخيرة هي أيضًا آخر مرة تصعد فيها على خشبة المسرح أمام الجمهور.

يكفي القول في علاقة الست بالزعيم الخالد أنها كانت قررت اعتزال الغناء المسرحي بعد رحيله وكأنها لم تكن تغني إلا لأبي خالد، ثم رجعت عن قرارها بعدما هاج جمهورها ضده واعترض، حتى «امتلأ صندوق بريد فيلا السيدة أم كلثوم في الزمالك بآلاف التي تعلن الرفض المطلق [لاعتزالها] (...) وبلغ عدد الرسائل التي وردت إلى السيدة أم كلثوم حتى بداية الموسم الغنائي في يناير 1971 ما يزيد على نصف المليون رسالة، وكلها تطلب شيئًا واحدًا: العودة للغناء وتخطي فكرة الاعتزال» (كريم جمال في كتاب «أم كلثوم وسنوات المجهود الحربي»، ص. 518)، فلما عادت إلى الغناء كانت «القلب يعشق كل جميل» الأغنية الثانية بعد مرثية «رسالة إلى زعيم»، لأن أغنية «الحب كله» كانت مُعدة للغناء في حفل الاتحاد السوفيتي الذي ألغى بسبب رحيل عبد الناصر.

يطرح تأويل «وياما شفتي جمال -عبد الناصر- يا عين» معنىً خاصًا للأغنية تحاول فيه أم كلثوم تخطي رحيل عبد الناصر بعد رثائه، وكأنها تقول لنفسها قبل مستمعيها «من كان يعبد جماًلا فإن جماًلا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت»، فقد كان رحيل عبد الناصر صدمة قوية بالنسبة لجموع الشعب العربي ونخبه، لأنه طبقًا للتعبير الشعبي «خُطف»، أي لم يتوقع أحدًا رحيله في تلك اللحظة تحديدًا، فهو لم يسقط طريح فراش المرض لفترة طويلة، ولم يكن عجوزًا هرمًا، بل كان دائمًا إلى الكهولة أقرب. لكن كان لابد من التسليم بموته، أو كما قال الشاعر صلاح جاهين في رثائه، «حتى الرسول مات وأمر الله لازم يكون». ولقد أدركت الجماهير العربية الحقيقة السياسية الاجتماعية نفسها، فأطلقت من يأسها من الناصرية جماعات الإسلام السياسي الجهادية والصحوة الإسلامية الاجتماعية في السبعينيات.

الأمر الملاحظ أن «القلب يعشق كل جميل» ليست الأغنية الأولى التي تغني فيها أم كلثوم للحج ولم تكن الأغنية الأخيرة كذلك، فقد شدت قبلها بقصيدة أحمد شوقي «إلى عرفات الله» عام 1955، كما غنت «الثلاثية المقدسة» من كلمات صالح جودت في عام 1972، وكلاهما من ألحان رياض السنباطي كذلك، لكن «القلب يعشق كل جميل» تختلف عن أي أنشودة دينية غنتها أم كلثوم، ليس لأنها كتبت بالعامية المصرية بينما جميع أغانيها الدينية بالفصحى، بل لأنها تبدأ من حيث تحاول جميع الأديان التجاوز: الحب الدنيوي. إن مفارقة حياة أم كلثوم الغنائية الكبرى أنها انتهت تقريبًا مثلما بدأت، تغني إحدى أغانيها الدينية، لكنها لا تغنيها إلا لأن ترثي جميلها الوحيد: جمال عبد الناصر.