غدا يتحوّل العشّاق إلى أحجارٍ ويصبح الزمن
نسيماً يهبّ ناعساً بين الأغصان.

قصائد لوركا الأمريكي

ترجمة أحمد حسان

فيديريكو جارثّيا لوركا (1898- 1936) أشهر شعراء الإسبانية وأقربهم إلينا وأكثرهم ترجمة إلى العربية. ارتبطت صورته في أذهان الغالبية بالأندلس والفولكلور الغجري. لكنه، ككل فناني جيل 27، تأثر بعمق بالسوريالية وبتراث الأدبين الإسباني والفرنسي ومختلف الفنون الأخرى، إذ كان مسرحيا، وموسيقيا، ورساما. هنا نقدم بعضا من قصائده الأمريكية حين زار نيويورك عام 1930.


لوركا عن موسوعة الإنسانيات

الفجر

فجر نيويورك تحمله

أربعةُ أعمدةٍ من الوحل

وإعصارٌ من الحمامات السوداء

تُرفرِف في المياه الآسنة.

فجر نيويورك يئن

عبر السلالم الهائلة 

باحثا بين الأفاريز

عن ناردين العذابات المرسومة.

الفجرُ يصل فلا يلهجُ بثنائه فمٌ

فهناك ما من صباحٍ ولا أملٍ ممكِن.

وأحيانا تنطلق العملات في أسرابٍ هائجة

فتخترقُ وتلتهم الأطفالَ المنبوذين.

أولُ الخارجين يُدركون في عظامهم

أنهم لن يجدوا فراديس ولا صباباتٍ مقطوفة؛

يعرفون أنهم ماضون إلى وحل الأرقام والقوانين،

إلى الألعاب بلا فنٍ، والعرق بلا طائل.

السلاسل والضوضاء تدفن الضوء

في تحدٍّ وقحٍ لعلمٍ بلا جذور.

وعبر الأحياء تترنّح جموعٌ مؤرَّقة

كأنها خرجت لتوها من حطامِ سفينةٍ دامٍ.

***

قصائد بحيرة إدم ميللز

إلى إدواردو أوجارتى

قصيدة مزدوجة لبحيرة إدِم

[ماشيتنا ترعي، الريح تهب نسيما] Nuestro ganado pace, el viento espira

- جارثيلاسو

صوتي القديم

كان يجهل العُصاراتِ الكثيفة المُرَّة.

أتصوّرُه يلعق قدميّ

تحت أعواد السرخس الهشّة المبللة.

أواه، أيها الصوت القديم لحبي،

أواه يا صوت حقيقتي،

أواه يا صوت جنبي المطعون،

حين كانت كل الورود تنبُع من لساني

ولم يكن العشبُ يعرف أسنان الحصان اللامبالية!

ها أنت ذا تشربُ دمي،

تشرب مزاجي مزاجَ طفلٍ مُرهِق(*)،

بينما تتكسَّر عيوني في الريح

مع الألومنيوم وأصوات السكارى.

دعني أعبرُ البوابة

حيث تأكل حوّاءُ النمل

ويُخصِبُ آدمُ الأسماكَ المذهولة.

دعني أعبر، أيها القِزم ذو القرنين،

إلى غابةِ الصحو

والقفزاتِ الفائقة البهجة.

أنا أعرف أشد الاستعمالات خفاءً

لدبُّوسٍ قديم صدئ

وأعرف رعبَ العيون الفاغرة

فوق سطح الصحن الصلب.

لكنني لا أُريدُ عالماً ولا حلماً، أيها الصوت المقدَّس،

أريدُ حريتي، حبي الإنساني

في أظلم ركنٍ من النسيم الذي لا يريده أحد.

حبي الإنساني!

ها هي كلاب البحر تتسابق

وتتربّص الريحُ بالجذوع الغافلة. 

أيها الصوت القديم، أشعِل بلسانك

هذا الصوتَ من القصدير والتلك!

أودُّ أن أبكي لأن تلك رغبتي

كما يبكي الأطفال في المقعد الأخير،

لأنني لست رجلا، ولا شاعرا، ولا ورقة شجر،

بل نبضٌ جريح يسبِر الأشياء على الجانب الآخر.

أود أن أبكي مناديا اسمي،

والوردة، والطفل، وشجرة التنّوب على ضفة هذه البحيرة،

لأعلن حقيقتي كرجلٍ يفيض رجولةً

خانقا في داخلي ما تثيره الكلمة من سخرية.

لا، لا، أنا لا أسأل، بل أرغب،

يا صوتي الطليق أن تلعَق يديّ.

في تيه الحواجز يتلقّي عُريي

قمرَ العِقاب وساعةَ الرماد.

هكذا تكلمتُ.

هكذا تكلمتُ حين أوقف زُحلٌ القطارات

وكان الضبابُ والحلم والموت يفتشون عني.

كانوا يفتشون عني

هناك حيث تخورُ الأبقار ذات أقدام الخدَم

وحيث يطفو جسدي بين التوازنات المتضادة.

(*): في طبعة جالاكسيا جوتمبرج تظهر amor de niño pasado بدل pesado 

***

سماءٌ حيّة

لن أشكو

إذا لم أجد ما كنت أنشُده.

قُرب الأحجارِ الخالية من العصارة والحشراتِ الفارغة

لن أرى نِزال الشمس مع الكائنات ذات اللحم الحي. 

لكنني سأمضي إلى أول خلاءٍ

من التصادمات، والسوائل والهمهمات

التي تتخلّل طفلاً حديث الميلاد

حيث أتجنّبُ كل مظهرٍ خارجي،

لأفهم أن ما أبحث عنه سيجد هدفَه من البهجة

حين أطيرُ ممتزجاً بالحب والرمال.

هناك لا يصلُ صقيعُ العيون المنطفئة

ولا خوارُ الشجرة التي تغتالها اليرَقة.

هناك تنضفِر كلُّ الأشكال

في تعبيرٍ وحيدٍ من الهذيان الصريح.

لا يمكنك التقدّم خلال أسراب البَتَلات

لأن الهواء يُذيب أسنانك السُكّرية،

ولا يمكنك أن تربّت على ورقة السرخس العابرة

دون أن تحس بدهشة العاج النهائية.

هناك تحت الجذور وفي نُخاع الهواء،

تُفهم حقيقةُ الأشياء الملتبسة.

حقيقة سبّاحِ النيكل الذي يترصّدُ أرقَّ موجةٍ

وقطيعِ الأبقار الليلية بأقدام نساءٍ حمراء.

لن أشكو

إذا لم أجد ما كنت أنشُده؛

لكنني سأمضي إلى أول خلاءٍ من الرطوبة والنبضات

لأفهم أن ما أبحثُ عنه سيجد هدفَه من البهجة

حين أطيرُ ممتزجا بالحُب والرمال.

أطيرُ بنضارتي الدائمة فوق مجاري الأنهار الخاوية،

فوق النسائم المحتشدة والزوارق الجانحة.

أتعثّر مُترنِّحا بالأبدية الصلبة الراسخة

وأخيرا بالحب دون شروق. الحب. الحب المرتقب!

إدم ميللز، فيرمونت. 24 أغسطس 1929.

***

نيويورك New York 

مكتب وشجب

إلى فرناندو بيلا

تحت عمليات الضرب

ثمة قطرةٌ من دمِ بطةٍ.

تحت عمليات القسمة

ثمة قطرةٌ من دم بحّار.

تحت عمليات الجمع، نهرٌ من دمٍ رقيق.

نهرٌ يأتي مُغنّياً

لغُرفِ نوم الضواحي،

وهو فضةٌ، أسمنتٌ أو نسيم

في فجر نيويورك الكاذب.

الجبال موجودةٌ، أعرف.

والعوينات من أجل الحكمة،

أعرف. لكنني لم آتِ لأرى السماء.

أتيت لأرى الدمَ العكِر،

الدم الذي تحمله الآلاتُ إلى الشلّالات

والروحُ إلى لسان الكوبرا.

كل يوم يُقتلُ في نيويورك

أربعةُ ملايين بطة،

خمسة ملايين خنزير،

ألفا حمامةٍ لإرضاء ذوق المحتضِرين،

مليون بقرة،

مليون حمَل

ومليونان من الدِيَكة

تترك السماوات مُهشَّمة.

من الأجدى التنهُّد أثناء شحذ المُدية

أو اغتيال الكلاب في حملات الصيد الهاذِية

بدل أن نُقاوم في الفجر

قطاراتِ الحليب اللانهائية،

قطاراتِ الدم اللانهائية، 

وقطاراتِ الورود التي يكبّلها

تجّارُ العطور.

البط والحمامات

والخنازير والخراف

تضع قطرات دمها

تحت عمليات الضرب؛

والعواء الفظيع للأبقار المعصورة

يملأ الوادي بالألم

حيث يسكر الهدسون بالزيت.

أنا أشجبُ كلَّ الناس

الذين يجهلون النصفَ الآخر، 

النصفَ الذي لا يُغتفر

الذي يُشيّد جباله الأسمنتية

حيث تنبض قلوب

الحيوانات الصغيرة التي تُنسى

وحيث سنسقط جميعا

في العيد الأخير للمثاقيب.

أبصقُ في وجوهكم.

النصفُ الآخر يُنصِت إليّ

بينما يلتهمون، يتبوّلون، يطيرون في نقائهم

مثل الأطفال في مداخل البيوت

الذين يحملون عيدانا هشة

إلى الثقوب حيث تصدأ

قرونُ استشعار الحشرات.

ليس الجحيم، إنه الشارع.

ليس الموت، إنه متجرُ الفاكهة.

ثمة عالمٌ من الأنهار المحطَّمة والمسافات العصية الإدراك

في القدم الصغيرة لذلك القط

التي هشّمتها السيارة،

وأنا أسمع غناء الدودة

في قلب طِفلاتٍ كثيرات.

أكسيدٌ، تخمّر، تربةٌ ترتجف.

تربةٌ أنتَ ذاتك الذي تسبحُ

في أرقام المكتب.

ماذا أفعل؟، هل أرتّب المشاهد؟

هل أرتّب الغراميات التي تُصبح بعدها صوراً فوتوغرافية،

تصبح بعدها شذراتٍ من خشب وجرعاتٍ من دم؟

القديس إجناثيو دى لويولا

قتل أرنبا صغيرا

ومازالت شفتاه تئنان

من أبراج الكنائس.

لا، لا،(*) لا، لا؛ أنا أشجب.

أشجبُ مؤامرة

تلك المكاتب المهجورة

التي لا تُشعُّ العذاباتِ،

التي تمحو برامجَ الغابة،

وأقدِّمُ نفسي لتأكلني البقراتُ المعصورة

حين تملأ صرخاتها الوادي

حيث يسكر الهدسون بالزيت.

(*) بعض الطبعات تورد محتوى القديس إجناثيو. لكن طبعة جالاكسيا جوتمبرج لا تفعل.

***

مناجاة إلى والت ويتمان

بمحاذاة الإيست ريفر والبرونكس

كان الفتيةُ يغنّون عرايا حتى الخصر،

بالعجلة، والزيت، والجلد، والمطرقة.

كان تسعون ألف عاملِ منجمٍ يستخلصون الفضة من الصخور

والأطفال يرسمون السلالم والمنظورات.

لكن لا أحد كان ينام،

لا أحد اشتهى أن يكون نهرا،

لا أحد أحبّ أوراقَ الشجر الضخمة،

ولا لسانَ الشاطئ الأزرق.

بمحاذاة الإيست ريفر والكوينزبورو

كان الفتية يصارعون الصناعة،

واليهود يبيعون إلى إله النهر

وردةَ الخِتان

والسماءُ تنهمر عبر الجسور والسقوف

قطعانا من الثيران تدفعُها الريح.

لكن لا أحد كان يتوقف،

لا أحد اشتهى أن يكون سحابةً،

لا أحد كان يفتش عن أعشاب السرخس

 ولا عن الطوق الأصفر للدّف.

حينما يبزغ القمر

ستدور البكرات لتُسقِط السماء؛

 سيطوّقُ الذاكرةَ سياجٌ من الإبر

وتحمل التوابيتُ من لا يعملون.

نيويورك الوحل،

نيويورك الأسلاك والموت.

أيُّ ملاكٍ تُخبئين في خدِّك؟

أيُّ صوتٍ صائبٍ سيحكي حقائقَ القمح؟

من سيحكي الحلمَ الفظيع لشقائق نُعمانِك الملطّخة؟

ولا لحظةٍ واحدة، يا والت ويتمان العجوز الجميل،

كففتُ عن رؤية لحيتِك المُفعَمة بالفراشات،

ولا كتفَيك المخمليين أنحلهُما القمر،

ولا فخذيك، فخذي أبولو العُذري،

ولا صوتك كعمودٍ من الرماد؛

عجوزا وجميلا كالضباب

تئنُّ مثل طائرٍ

وعضوك تخترقُه إبرة،

يا عدوّ الساتير،

يا عدوّ الكَرمة

ومُحبَّ الأجسادِ تحت الثياب الخشنة.

ولا لحظةٍ واحدة، أيها الجمال الرجولي

الذي بين جبالِ الفحم، والإعلانات، والسكك الحديدية،

حلمتَ أنك صرتَ نهرا وكنهرٍ تنام

مع ذلك الرفيق الذي يضعُ في صدرك

الألمَ الصغير لفهدٍ غافل.

ولا لحظةٍ واحدة، يا آدمَ الدم، الذكَر،

الرجلَ الوحيد في البحر، يا والت ويتمان العجوز الجميل،

إذ فوق الأسطح،

مزدحمين في البارات،

طافحين في عناقيدٍ من البالوعات،

مرتجفين بين سيقان سائقي العربات

أو محمومين فوق منصات الإبسنت،

كان المخنّثون، يا والت ويتمان، يُشيرون إليك.

ذلك أيضا! أيضا! وينهمرون

فوق لحيتك اللامعة والطاهرة،

شُقرٌ من الشمال، زنوجٌ من الرمال،

حشودٌ صائحةٌ ملوّحة،

مثل القطط ومثل الحيّات،

المخنّثون، يا والت ويتمان، المخنثون

بدموع عكِرة، لحماً للسوط، 

حذاءً أو عضةً للمروِّضين.

ذلك أيضا! أيضا! أصابعُ ملطّخة

تُشير إلى ضِفة حُلمك

بينما يأكل الصديقُ تفاحتك

وبها مذاقٌ خفيف للبترول

 وتغنّي الشمس حول سُرّة

الفتية الذين يلعبون تحت الجسور.

لكنك لم تكن تَنشُد العيونَ المخدوشة،

ولا المستنقعَ الحالكَ السواد حيث يُغرِقون الأطفال،

ولا اللعابَ المتجمّد،

ولا الجروحَ المنحنية كبطن ضفدع

التي يحملها المخنّثون في السيارات والشرفات

بينما يسوطهم القمر عند نواصي الرعب.

كنت تنشُدُ عُرياً يكون كنهرٍ،

ثوراً وحلما يقرِنُ العَجلةَ بالطُحلب،

أباً لعذابك، كاميليا لموتك،

ويئنُّ في لهبِ مَدارِك المخبوء.

فمن العدل ألّا يَنشُد الإنسان بهجته

في غابةِ دمِ الصباح القريب.

فللسماء شُطئانٌ يمكن فيها تجنّبُ الحياة

وثمة أجسادٌ لا يجب أن تتكرّر عند الشروق.

عذابٌ، عذابٌ، حلمٌ، هياجٌ وحلم.

هكذا العالم، يا صديقي، عذابٌ، عذاب.

الموتى يتحلّلون تحت ساعات المدن،

الحرب تمرّ باكيةً مع مليون فأرٍ رمادي،

والأثرياء يهبون حبيباتهم

مُحتضرينَ صغاراً برّاقين، 

والحياةُ ليست نبيلةً، ولا طيبةً، ولا مقدّسة.

يستطيع الإنسانُ، لو أراد، أن يقودَ رغبته

خلال عروقِ المرجان أو العُري السماوي.

غدا يتحوّل العشّاق إلى أحجارٍ ويصبح الزمن

نسيماً يهبّ ناعساً بين الأغصان.

لذا لا أرفعُ صوتي، يا والت ويتمان العجوز، 

ضدّ الصبي الذي يكتب

اسم صبيةٍ على وسادته،

ولا ضدّ الفتى الذي يرتدي ثوبَ عروسٍ

في ظلمة خزانة الثياب،

ولا ضدّ الرجال الوحيدين في الكازينوهات

الذي يرشفون بغثيانٍ ماءَ الدعارة،

 ولا ضد الرجال ذوي النظرة الخضراء

الذين يحبون الإنسان ويحرقون شفاههم في صمت. 

بل ضدكم أنتم، يا مُخنّثي المدن،

ذوي اللحم المتورّم والتفكير القذر،

حثالات الطين، المُنحلّين، الأعداء الذي لا ينامون

للحب الذي يُوزِّع أكاليل البهجة.

ضدكم دائما، يا من تُعطون الفتية، 

في سمٍ مرّ، قطراتٍ من الموت القذر.

ضدكم دائما،

يا "جنّيات" أمريكا الشمالية،

"باخاروس" هافانا،

"خوتوس" المكسيك،

"ساراساس" قادس،

"آبيوس" أشبيلية،

"كانكوس" مدريد،

"فلوراس" أليكانتى،

"أديلايداس" البرتغال.

يا مخنثي العالم أجمع، قتلة اليمامات!

يا عبيد النساء، وبغايا مخادعهن،

المنشورين في الميادين بحُمّى المراوح

أو المتربِّصين في خلاءٍ قارس من الخشخاش.

لتكن حرباً حتى النهاية! الموت

يفيض من عيونكم

ويُكوِّم أزهاراً رمادية على ضفة الوحل.

لتكن حربا حتى النهاية! انتبهوا!

لعل المُرتَبكون، الأنقياء،

التقليديون، المرموقون، الضارعون

يُغلقون دونَكم أبواب الأعياد الباخوسية.

وأنت، يا والت ويتمان الجميل، نَم على ضفاف الهدسون

بلِحيتك في اتجاه القطب ويداك مفتوحتان.

صلصالاً طرياً أو جليدا، يُنادي لسانُك

الرفاق ليحرسوا غزالتك غير المتجسّدة.

نم، لم يبقَ شيء.

رقصةُ الجدران تهزّ المروج

وأمريكا تُغرِق نفسها في الماكينات والنحيب.

أريدُ الريحَ القوية لأعمقِ ليلٍ

أن تُزيح الأزهارَ والحروف من القبو الذي تنام فيه

وأن يُعلِن طفلٌ زنجي للبيض الذهبيين

حلولَ مملكة السنبلة.