آراء نابوكوف الصادمة المتعجرفة لا تسلبه حقَّه في أنه محلل أدبي واعٍ ومتذوق حقيقي للأدب.
أفـكِّـر، أكتُـب، أتكــلَّـم.. من أوراق فلاديمير نابوكوف
مقال أحمد الزناتي
سبق نشره في جريدة أخبار الأدب أكتوبر 2021.
مات فلاديمير نابوكوف ولم يبقَ لنا إلا توزيع التركة. ربما لم يترك نابوكوف، المتنمِّر الأدبي الأكبر، إلا أسلوبه واستعاراته ورسائله وحواراته، حتى رواية "لوليتا" تـظل في مواجهة الزمن عملًا متوسط القيمة. رواية "نار شاحبة" برقبتها. قلما نجد كاتبًا يستطيع أن يأتي بجُمل كهذه: "الحياة رسالة مخربَشة في الظلام من مجهول -حياة الإنسان مثل حاشية على قصيدة، مُهملة غير مكتملة، مجرد ملاحظة لاستعمال لاحق" -(من رواية نار شاحبة)، أو جُملة كهذه: "كان يرميني فجأة ليلتقطني قبل أن أقع" -(من حياة سبستيان نايت الحقيقية). نابوكوف محارة صلدة علِقتْ بها تجارب مؤلمة أشبه بذرات رمـل حوَّلها الرجل عبر الكلمات إلى لؤلؤة يتيمة اسمها الأسلوب، وما سوى ذلك يُقذف إلى البحر.
في مطلع السنة قبل الماضية صـدر كتاب جديد يضمُّ مجموعة مقالات ومراجعات أدبية وحوارات ونصوصًا للكاتب الروسي الأصل، الأميركي الجنسية فلاديمير نابوكوف بعنوان (Think, Write, Speak) للكتاب طبعات عدة، اعتمدنا على طبعة كندل الصادرة عن (Penguin Classics) وقد عُـني بجمعها وتحريرها برايان بويد وأنستاسيا تولستوي. ليست هذه المرة الأولى التي تُنشر فيها نصوص مختارة بالمعنى الأعم للكلمة، ففي سنة 1973 صدر كتاب Strong Opinions (آراء حاسمة) في حوالي 335 صفحة وضمَّ مقالات ومراجعات أدبية وحوارات، أما هذا الكتاب فهو الأكبر حجمًا حيث صدر في 527 صفحة حرَّرها برايان بويد، أستاذ اللغة الإنجليزية في جامعة أكولاند وأنستاسيا تولستوي، سليلة أحد الكُتاب المفضلين لدى نابوكوف. عنوان الكتاب مستمدٌّ من افتتاحية كتاب آراء حاسمة التي تقول: "(أفكِّرُ) مثل رجل عبقري، و(أكتب) مثل كاتب متفرِّد و(أتكلَّم) مثل طـفل".
في المقدمة الثرية التي صدَّر بها د. بويد الكتاب يقول: "ليس كتاب (أفكر، أكتب، أتكلم) لونًا من ألوان السيرة الذاتية وحسب، بل هـو واجهة جديدة لعرض تنوع أعمال نابوكوف".
المقال الأول من الكتاب ممهور بتوقيع سيرين وهو اسم مستعار، تُرسم في المقال صورة لـنابوكوف في سنوات التلمذة الجامعية، والمقال يلقي الضوء على حقيقة وقوع نابوكوف الشاب بين العالم الروسي والعالم الناطق بالإنجليزية، مستحضرًا أيام إقامته في كامبريدج والحنين الذي كان يشعر به إلى الروح الروسية التي افتقدها في معارفه وأصدقائه الإنجليز.
في مقالته الثانية يتأرجح قلم نابوكوف بين العالمين الروسي والإنجليزي، فبينما كان الشاب نابوكوف متداخلًا بين العالمين قدَّم إلى الجمهور الروسي أشدَّ ما أثار حماسته في الأدب الإنجليزي الحديث، وهو شعر روبرت بروك (شاعر غنائي بريطاني تُوفي سنة 1915)، وشدَّد على أنه مهتم بهذا الشاعر لأنه احتفى بالحياة اليومية من منظور الحياة الآخرة المتخيلة، وهنا نلاحظ اهتمام نابوكوف بالجوانب الميتافيزيقية في الأدب. طالما لمستُ هذا الجانب الميتافيزيقي/الروحاني في شخصية نابوكوف وأدبه، ولا سيما في أكثر الأحداث مأساوية في حياته، الحادث الذي خيَّم على وجوده خيمة سوداء، أقصد مقتل والده على يد أحد المتطرفين في مارس 1922 في برلين. قال نابوكوف إنه رأى حُلم مقتل والده قبل فترة وجيزة وقصَّ طرفًا من هذا الحُلم في كتاب صدر من سنوات قليلة بعنوان: Insomniac Dreams، كنت قد ناقشته في أحد كتبي السابقة.
يضيف المحرر أن العنوان يبرز الغطرسة الواضحة في افتتاحية نابوكوف لكتاب آراء حاسمة، يقصد عبارته الشهيرة: «أعتقد أنني أفكر مثل رجل عبقري، إلخ». وبالتالي فهو يُبرز كذلك ملامح شخصيته الطافحة بالتناقض كما سأشيرُ لاحقًا، التي تبدَّت بوضوح في آرائه الصادمة حول جماليات الكتابة عند دوستويفسكي وتوماس مان وبلزاك، مُعليًا من قيمة تولستوي ومحقرًا من شأن دوستويفسكي (مستـثنيًا رواية القرين = The Double)، ومن المهم هنا الوقوف عند رؤيته لدوستويفسكي.
رأَى نابوكوف أن دوستويفسكي كتب رواياته تحت وطأة الضغط النفسي وتحت لسعات سوط الناشر للوفاء بالـ«ديدلاين» ولم يكن لديه وقت لإعادة قراءة أو تنقيح ما كتبَه وأنه كان يعمد إلى المبالغة غير الفنية في إظهار العواطف (ولم يُشر كما فعل أندريه جيد إلى الكتابة تحت وطأة نوبات الصرع وإن عابَ عليه الطابع اللا-عقلاني المتردد). حلَّل نابوكوف شخصيات دوستويفسكي وقال إنها جميعها عصابية، هيستيرية، مخبولة ومدمنة على الجنس أو الكحول أو القمار وهم كذلك (وكأن فِعل إغواء قاصرٍ ومضاجـعتها بعد تنويمها في لوليتا أو حماقات «د. بنين» لا تلعب على الوتر نفسه)، ثم يأتي ويقول إن مبرر قتل راسكولينكوف للمرابية العجوز مشوَّش وغير مُقنع. ومتى كان الشر يحتاج إلى مبرر منطقي؟
قبل أسبوعين كنتُ أتصفح كتابًا عن الشر لتيري إيجلتون وقال: «للفن جذوره غير المحببة لأنه في الجزء المُلوث من القلب». إبليس ملاك مطرود من الفردوس مرجوم ويائس إلى الأبد، لذلك فهو يخلق وجوده عبر إفناء كل ما حوله.
يضيف نابوكوف إلى كلامه هيمنة المشهد الفكري/الأخلاقي، فالرجل يميِّز الناس من خلال ردود أفعالهم الأخلاقية والنفسية وهذه ليست طريقة الفنان كما يقول تولستوي الذي يرى شخصيته في ذهنه طوال الوقت ويعرف بالضبط الإيماءة المحددة التي سيستخدمها البطل الروائي في هذه اللحظة أو تلك.
يقول نابكوف لطالما بدت له رواية الأخوة كارامازوف أشبه بخبط عشواء، نافذة زجاجها مطليٌّ باللون الأصفر لجعل الأمر يبدو كما لو كانت هناك شمس ساطعة بالخارج (للمزيد أنصح هنا بمراجعة كتاب نابوكوف: Lectures on Russian Literature, Mariner Books 2002, P.118-122).
أقول وما الضير؟ دوستويفسكي نفسه اعترف بذلك (في كتاب لباختين على ما أذكر) إذ قال: «هناك أشياء كثيرة في روايتي مكتوبة على عجل وتبدو غير موفقة، أنا لا أقف إلى جانب الرواية، لكني أنتصر في النهاية لفكرتي». الرجل مقتنع تمامًا بقيمة أفكاره التي تمتزج بقيمته كإنسان وتذوب فيها ولم يطلب مكافأة ولا مديحًا من أحد.
المسألة كلها انتصار للفكرة والكاتب الصنايعي الذي يكتب بالشوكة والسكين أو الذي يحوِّل الأدب إلى مرآة اجتماعية أو سياسية لقضايا عصره لا يختلف كثيرًا - في رأيي - عن أغلب كُتَّاب الدرجة التاسعة في الاتحاد السوفيتي السابق أو خردواتية الكتابة من أمثال سارتر ودي بوفوار. الأدب رصاصة طائشة في القلب، قلب دوستويفسكي النازف و«الفن كله مرض واستثناء» على رأي مصطفى ذكري، وإلا بِمَ نفسِّر تطرُّف أسلوب نيتشه وصراخ لويس ف. سيلين في موت بالتقسيط أو هذيانات مسرحيات أوجست ستريندبيرج أو قصص روبرت فالزر الأخيرة في مرحلة الجنون لو لم نفهم من البداية أننا أصلًا في حضرة عقول وأرواح مضطربة متألمة. ولئن كان دوستويفسكي لم يخلق عالمًا مستقلًّا من العدم كما فعل جوجول وكافكا على حد كلامكَ ومعكَ حق طبعًا، لكن تكفيني - كقارئ عادي - الطلقات الانفعالية الطائشة غير الموزونة التي كانت تخرج منه في غمرة الكتابة. يلاحظ أندريه جيد أن مؤلفات دوستويفسكي كلها لا تُولد عن فكرة مسبقة، بل هي ثمرة ملاحظة الواقع وتلقيح الحدث بالفكرة.
مهما تكن رؤية نابوكوف، لا يساوي الأدب كله (في ذوقي الشخصي) منذ هوميروس إلى اليوم شيئًا مقارنة بآخر مشهد في كارامازوف، مشهد الصخرة، صخرة الإيمان، ودفن الأولاد صديقَهم الفقير الشجاع أبو حذاء مخروم إيليوشا، فباتوا يهتفون له بعد أن كانوا يقذفونه بالحجارة وباتوا يعدُّونه «صخرة خلاصهم» بعد أن كان محط ازدرائهم.
يحكي ج. إم. كوتسي في مقال قديم أنه كان ينفجر بالبكاء في كل مرة يعيد فيها قراءة الجزء الثاني من كارامازوف، المشهد الذي يرفضُ فيه إيفان الكونَ الذي خلقه الله، بل إن أهم مشهد في آخر روايات كوتسي الصادرة من سنة وهو موت الطفل ديفيد (ابن كوتسي المتوفَّى شابًّا وابن دوستويفسكي المتوفَّى طفلًا؟) ومعنى ديفيد هو المحبوب في العبرية والمعنى في بطن الكاتب، أقول أهم مشهد هو إعادة محاكاة مشهد دفن إيليوشا على يـد أصحابه: «إن لم تعودوا كالأطفال لن تدخلوا ملكوت السماوات» (متى 18: 3). هناك أشياء كثيرة بين السماء والأرض يا سيد نابوكوف تفوق حُلم جمالياتك، ولا أسوق ذلك كقرينة تعزِّز رؤيتي (هي لا تهم أحدًا غيري)، بل كتدليل على ذوق وشعور معيَّن.
من السهل بقليل من الخبرة والوقت أن تتأنَّق فنيًّا، أن تخلق قوالب سردية مشدودة بحُقَن بوتوكس، والروائيون المتأنقون البارعون حائزو نوبل على قفا من يشيل، أن تزهد في الدنيا وتهجرها وترعى الفقراء والمساكين قبل رحيلك، فعلها آلاف قبلك، ولكن من الصعب أن تكون لص اليمين، Ecce Homo، هذا هو الإنسان.
إلا أن آراء نابوكوف الصادمة المتعجرفة لا تسلبه حقَّه في أنه محلل أدبي واعٍ ومتذوق حقيقي للأدب. في أحد الحوارات سُئل هل التقى صمويل بيكيت في باريس؟ فأجاب إنه لم يلتقِ بيكيت، مؤكدًا أن الأخير كاتب عظيم وأنه يحب الثلاثية، وعلى الأخص مولوي، مشيرًا إلى مشهد غير عادي يزحف فيه البطل عبر غابة موحشة عن طريق دفع نفسه من خلال إمساك عصاه وعكازه، ولا يتوقف مولوي عن دفع نفسه إلى الأمام بمشقة بالغة وألمٍ مكتوم، مواصلًا رحلته وسط أجمة الأشجار الشائكة، مرتديًا ثلاثة معاطف ثقيلة، ولا ينسى أن يتأبط الصحيفة، وهي لقطة عبقرية لا تخرج إلا من تحت يـد «واحد بيفهم»، لقطة تخفِّف عندي من وطأة كلامه عن دوستويفسكي.
***
في إحدى المقابلات يقول نابوكوف: «أنا رجل خجول منعزل، أشعر بارتباك بالغ لأنْ تثير كتبي مثل هذا الاهتمام وأن يجري وراءها هذا العدد من القُراء». وفي حوار آخر يقول: «أكـنُّ إعجابًا شديدًا إلى الأشخاص القادرين على الحديث في جُمل مرتبة منمقة رشيقة، لكني أعجز عن ذلك، لا أستطيع الكلام بمثل هذه الطريقة. أنا أرعن عندما أتكلم، لستُ متحدثًا مملًّا لكني متحدث رديء، يختلف كلامي المُرسل غير المُعد سلفًا عن نثري المكتوب اختلاف الدودة عن الحشرة الكاملة».
وأعتقد أن هذا يفسِّر لنا سبب وصف نفسه بالطفل حين يتكلم، وبالعبقري حين يفكِّر، وبالكاتب المتفرد حين يكتب. تذكرني هذه الجملة بعبارة قيلت على لسان ت. إس. إليوت حينما سُئل عن رأيه في جيمس جويس فقال: «صحيح أنه رجل مهذب، مهذب إلى أبعد الحدود، لكنه بالغ الصلف والغرور في أعماقه، لأنه يعرف أنه كاتب حقيقي، وهذا هو السبب أنه مهذب إلى هذا الحد. كنت سأصير أكثر سرورًا لو كان جويس أقل تهذيبًا». (المختار من نقد ت. إس. إليوت، ماهر شفيق فريد، ج 3 - المركز القومي للترجمة).
وبينما حافظَ جويس على غروره الدفين طوال حياته، مستبدلًا به غلالة التواضع الزائفة أمام الكُتَّاب الأقزام من مجايليه، لم يستطع نابوكوف مداراة الأمر طوال الوقت لأنه يتحدث كطفل وفق تعبيره، والطفل لا يستطيع إخفاء مشاعره، ولعل نهاية تصدير الكتاب تؤكد وجهة نظري، أقصد فيما يخص مسألة التناقض عند نابوكوف وربما عند الفنان عمومًا في أعماله.
ففي نهاية تصدير المحرر يقول: «في النهاية لي تعليق واحد أخير. كنت قد أشرتُ إلى أن ما يقرب من ثلثي الموضوعات المُختارة في هذا الكتاب (أفكر، أكتب، أتكلم) هي مقابلات وحوارات صحفية أُجريت مع نابوكوف بعد نشر رواية لوليتا، وكانت لدى نابوكوف وقتها «آراء حاسمة» [يقصد حاسمة الدلالة بالمعنى المباشر للكلمة لا عنوان كتاب المقالات آنف الذكر]، وكانت في الأغلب متسقة متماسكة على مدار ستين سنة أو أكثر، إلا أن نابوكوف كان يناقض نفسَه من حين إلى آخر في حواراته. وكان من دواعي سروري في أثناء تحرير هذا الكتاب أن أكتشفَ مدى دقة وروعة تناقض نابوكوف مع نفسه فيما يتعلق بثيمة روايته الأشهر [لوليتا]. أيها القارئ: فلتستمتع باكتشاف هذه التناقضات ولتسعَ إلى فهمها بنفسك، فلتستمتع بالكثير والكثير».
وما دمت في معرض اختيار فقرات معينة ربما تهمُّ القارئ المهتم بالكتابة الإبداعية، فقد انتقيت السطور التالية التي توجز رؤية نابوكوف إلى الفن والأدب:
* رواياتي كلها اختراعات خالصة وبسيطة. لا أعير أدنى اهتمام إلى شخوصي الروائية، إنها مجرد لعبة، تُعاد لتوضع داخل صندوقها حالما أنتهي من اللعب.
* لكي تكون قارئًا حقيقيًّا عليك أن تعيد قراءة الكتاب الذي بين يديك. ففي القراءة الأولى يكون الكتاب جديدًا بل غريبًا عليك كـل الغرابة، المحكُّ عندي هو القراءة الثانية للكتاب.
* وأنا أدرِّس إلى طلابي أنصحهم دومًا بعدم التماهي مع الشخوص الروائية، فأوصيهم بأن يقفوا بمعزل عن الآخرين حتى يشعروا بالميزة الجوهرية للفنان. وإن اقتضت الضرورة التماهي فعليهم أن يتماهوا مع الفن، لا مع الشخوص الروائية.
* لم أكن يومًا مهتمًّا بالنجاح التجاري، بعبارة أخرى: لم أسعَ مطلقًا إلى الترويج لكتبي. لم أكتب كلمةً إلا لقارئ واحد فقطـ اسمه: فلاديمير نابوكوف.
***
سبق أن تُرجِــمـــت عديد من حوارات نابوكوف على يد مترجمين مصريين وعرب، بينما لم يُترجم من مقالاته شيء فيما أعلم، لذلك أود أن أختم بترجمة فقرة من مقالة مهمة بعنوان الأسلوب، وهي جزء من محاضرة ألقاها نابوكوف في جامعة ستانفورد سنة 1941، أظن أنها شائقة للمهتمِّين بالأدب وبالكتابة الإبداعية، والحقيقة أنني رأيت قيمتها في ربط نابوكوف الذكي بين امتلاك ناصية الأسلوب الأدبي وبين رؤية العالَم أو Die Weltanschauung كما يسمِّيها الفلاسفة الألمان.
يقول نابوكوف:
«لا يمكن للكاتب أن يُــكـــوِّن أسلوبًا شخصيًّا في الكتابة من دون امتلاك صورة ذهنية شخصية للعالم. إن قدرتك على رؤية أو استشعار علاقة معينة تربط بين تفاصيل الحياة المتنافرة، بينما تمرُّ العلاقة نفسها على الآخرين مرور الكرام، سينعكس بالطبع على انتقائكَ الشخصي للكلمات. وكلما كانت قوَّتك على الاكتشاف أعمق شعرتَ بـأن العالم من حولك أكثر جِــدَّة وطزاجة، وكلما كنت أكثر اقترابًا من روح «حواء» وابتعادًا عن روح «الأفعى»، زاد نفورك من التقيُّد بربط كل شيء بالمنفعة أو العادة، حينذاك يغدو نثرك أشد فردية وخصوصية. فالعالَم سابق التجهيز من شأنه أن يفضي بكَ حتمًا إلى استخدام كلمات جاهزة، بل الأسوأ من ذلك أن من شأنه أن يسفر عن طغيان النبرة السردية الجاهزة، لأنه في بعض السياقات (الظروف) تتوهَّج أشد الألفاظ ابتذالًا وأكثرها تفاهة بحياة جديدة، أو ربما تتوهَّج بالحياة التي كانت تمتلكها فيما مضى.
ولما كانت العملية الأولى للتطور الفني في ذهن الكاتب تستلزم أولًا تفكيك العالم الراهن تفكيكًا كاملًا ثم إعادة تركيبه من جديد عـبر ربط أجزائه غير المتصلة، وبما أن هذه العملية تتوافق تمامًا مع العملية التي ينطوي عليها التكوين الأدبي الفعلي، فإني أرى طريقة رؤية العالم وطريقة الكتابة وجهيْن لعملة واحدة.
بعبارة أخرى: تتكون العملية الإبداعية من مرحلتين: مرحلة تحليل الأشياء أو تفكيكها، ثم تأتي مرحلة التأليف بينها في علاقة متناغمة جديدة. تستلزم المرحلة الأولى مسبقًا قدرة الفنان على جعل أي شيء [موضوع] ينحرف عن مساره التقليدي،كالنظر مثلًا إلى صندوق بريد من دون أن تخطر ببالك فكرة إرسال خطاب أو النظر إلى وجه شخص تعرفه حق المعرفة نظرةً مفعمة بروح جديدة كليًّا منبتة الصلة عن معرفتك السابقة به.
يمتلك الأطفال شيئًا من هذه المقدرة، على الأقل الطفل الحالم، الطفل الذي ينغمس بكل كيانه في لعبة شائقة تتمثل في التلاعب بكلمة عادية مثل كلمة «كرسي» ويظلُّ يلاطفها حتى تفقد الكلمة تدريجيًّا كل اتصال مع المدلول الذي تشير إليه، وحتى «يتقشر» معناها ولا يبقى في الذهن إلا لـبُّ الكلمة، يتبقى شيء أكثر رشاقة وحيوية من أي كرسي.
سيتذكر عديد ممن يتحلُّون بموهبة الانتباه الحاد تجاربَ «تفكُّك المعنى» المماثلة التي تحدث في حالة ما قبل النوم أو عندما يحلمون بالفعل. يعرف جميعنا تلك العبارات المذهلة التي نصوغها في أثناء نومنا ولكننا نتبيَّن أنها مجرد هراء فور استيقاظنا، تمامًا كما تتحول الجواهر الشفافة اللامعة في قاع البِرَك إلى حُصِىٍّ عادية بعد التقاطها».
** يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه