أكان هذا أملًا؟ أم كان ذاك التوق الحَييّ الغريب ليحظى بفرصة العناية بها، بجعل شغله الشاغل أن يتأكد من أنها تحظى بكل ما أرادت، وألا يقترب منها شيءٌ لا يتحلَّى بالمثالية الكاملة

السيد والسيدة دوڤ*

قصة كاثرين مانسفيلد

ترجمة مريم ناجي

من مجموعة حفلة الحديقة وقصص أخرى التي نشرت في 1922.

* دوڤ dove: يمامة


كاثرين مانسفيلد عن New Zealand History

عَرِف بالتأكيد -أكثر من أي شخصٍ آخر- أنه لم يكن لديه أدنى فرصة، ولا حتى أقل أقل فرصة. الفكرة ذاتها مُنافيةٌ للعقل. منافيةٌ للعقل حدَّ أنه كان سيفهمها لو أن والدها.. حسنٌ، أيًا كان اختيار والدها كان سيفهم تمامًا. في الواقع، إنه اليأس. حقيقة أن هذا اليوم كان أخر أيامه في إنجلترا لمدةٍ لا يعلمها إلا الله، لا شيء كان ليقضي عليه أكثر من هذا. وحتى آنذاك.. اختار ربطة عنق من خزانة الأدراج، ربطة عنقٍ مخططة الأزرق والبيج، ثمَّ جلس على حافة سريره. فرضًا أنها أجابته قائلةً: «يا لوقاحتك»، أكان سيتفاجئ؟ مطلقًا، حسمَ أمره بينما يعدل ياقته الطرية ويساويها فوق ربطة عنقه. توقَّع أنها ستقول شيئًا كهذا. لم يعرف، إن كان فكر مليًا في المسألة المحسومة سلفًا، ما عساها قد تقول غير ذلك.

ها هو ذا! عقد ربطة عنقه أمام المرآة وساوى شعره بكلتا يديه، وسحب أجنحة جيوب معطفه. إنه يجني ما يتراوح بين خمسمائة وستمائة جنيهٍ سنويًا في مزرعة فواكه في روديسيا، دونًا عن كل الأماكن، لا يحتكمُ على رأس مال، ولا يدخل جيبه فلسٌ واحد، ولا تلوح فرصةٌ أخرى لزيادة دخله خلال السنوات الأربع القادمة على الأقل. بالنسبة إلى المظهر الخارجي وما شابه، فكان منعدم الإمكانيات كليًا. لا يمكنه حتى التباهي بأن صحته ممتازة، إذ أن العمل في شرق أفريقيا قد هزمه شر هزيمة حتى اضطر لأخذ إجازةٍ لستة أشهر. رغم ذلك، كان شاحبًا على نحوٍ مخيف –بل كان أسوء من المعتاد ذاك المساء، فكَّر في حاله هذه بينما ينحني ويحدِّق في المرآة. يا لطيف! ماذا حدث؟ بدا لون شعره أخضرَ فاقع. اللعنة، لم يحظ بشعرٍ أخضر تحت أي ظرف. كان هذا مفاجئًا. أرتعش الضوء الأخضر على الزجاج، كان ظل شجرةٍ من الخارج. اِلتفت ريچي وأخذ علبة سجائره، لكنه تذكَّر مدى كراهية أمه للتدخين في غرفته، فأعادها مكانها ومال ناحية خزانة الأدراج. لا، ستخيب آماله إن فكَّر في شيءٍ سعيدٍ صبَّ في مصلحته، بينما هي.. آه!.. تيبس مكانه وثنى ذراعيه ورمى بثقل جسده على خزانة الأدراج.

بصرف النظر عن مكانتها وثروة أبيها وحقيقة أنها كانت طفلة وحيدة وأنها الفتاة الأشهر في الحي كله؛ بصرف النظر عن جمالها ودهائها -وياله من دهاء!- الأمر يتخطى حدود ذلك، ليس ثمة شيءٌ تعجزُ عن فعله؛ آمن بصدقٍ أنها ستكون نبغةً في أي شيء. بصرف النظر عن حقيقة أن أبويها قد أحباها حُبًا جمًا، وأحبتهم هي بدورها، فقد تركوها ترحل فورًا بهذه الطريقة.. بغض النظر عن كل تفصيل قد يخطر على بال أي أحد، كان حبه هائلًا حدَّ أنه لم يفقد الأمل. حسنًا، أكان هذا أملًا؟ أم كان ذاك التوق الحَييّ الغريب ليحظى بفرصة العناية بها، بجعل شغله الشاغل أن يتأكد من أنها تحظى بكل ما أرادت، وألا يقترب منها شيءٌ لا يتحلَّى بالمثالية الكاملة –مجرد حب؟ يا له من حب! ضغط بقوةٍ على خزانة الأدراج وغمغم قائلًا: «إنني أحبها.. أحبها!». ولثانيةٍ فحسب، عاد إلى اللحظة التي صاحبها في الطريق إلى مدينة أومتالي* ليلًا. جلست نائمةً في الزاوية، كان ذقنها الرقيق مدسوسًا داخل ياقتها الناعمة، ورموشها البنية المذهَّبة مبسوطةً على وجنتيها. لمسَ أنفها الرقيقة الصغيرة، وشفتيها المثاليتين، وأذنها التي كأذن طفل، وشعرها المُجعد البني المائل للذهبي التي غطت نصفه. كانا يقطعان الغابة الدافئة المعتمة البعيدة للغاية. ثم استيقظت وقالت: «هل كنت نائمة؟» فأجاب: «نعم. هل أنتِ بخير؟ اسمحي لي أن…» ومال ناحيتها لـ ... أنحنى عليها. كان النعيم الذي يعجز عن أن يحلم بمثله. لكنها لحظةٌ منحته الشجاعة ليقفز إلى الطابق السفلي، ليحضر قبعته القشية بسرعة من الردهة، وليقول بينما يغلق الباب الأمامي: «سأجرب حظي لا أكثر».

لكن، أقل ما يقال، خذله حظه على الفور. كانت أمه تتنزه في أنحاء الحديقة مع تشيني وبيدي، كلاب البيكس العجوزة. بالطبع كان ريجنالد يحبُّ والدته حبًا جمًا وما إلى ذلك. هي –هي نوت خيرًا، ولم يكن لعزيمتها نهاية، وهكذا دواليك. ما لم يمكن إنكاره أنها كانت والدةً شرسةً نوعًا ما. ومرَّت لحظاتٌ، لحظاتٌ كثيرة، من حياة ريچي، قبل أن يموت العم أليك ويترك له مزرعة الفواكة، أقتنع فيها بأن كون الواحد الابن الوحيد لأرملةٍ لهو أسوء عقابًا قد يناله أي شاب على الإطلاق. وما ضاعف من قسوة الحال أنها كانت، وحدها، عائلته كلها. لم تلعب دور الأبوين -إن جاز التعبير- فحسب، لكنها تشاجرت مع معارفها ومعارف الوصي قبل أن يعي أي شيءٍ حوله. لذا حين يشعر ريچي بالحنين إلى وطنه بينما يجلسُ في الشرفة المعتمة تحت ضوء النجوم، والغرامُوفُون يشدو بأغنية، «عزيزي، ما الحياة غير الحب؟» كان لا يرسم في خياله سوى صورة الأم، الطويلة الممتلئة، وهي تمشي وتُحدِث حفيفًا في آخر الحديقة، يسير في ذيلها تشيني وبيدي…

توقفت الأم حين رأتْ ريچي، وفي يدها مقصٌ مفتوح لينهش رأس شيءٍ ميت.

سألته وهي تراه مستعدًا: «لن تخرج الآن يا ريجنالد، صحيح؟».

قال بوهنٍ وهو يُدخِل يديه في جيبي معطفه: «سأعود في وقت تناول الشاي يا أمي».

أصدر المقص صوتًا خشنًا، ها هي الرأس تنخلع، فجفل ريچي.

قالت: «اعتقدتُ أنك ستقضي الظهيرة الأخيرة مع والدتك».

صمت. حدق الكلبان؛ فهما كل كلمةٍ من كلام الأم. استلقتْ الكلبة بيدي ولسانها يتدلى من فمها، كانت سمينة ولامعة فبدت مثل كتلةٍ من حلوى التوفي الذائبة. لكن عبستْ عينا تشيني الزجاجية لريجنالد، وشمشم في حيرةٍ كأن العالم يفوح برائحةٍ بشعة. جزَّ المقص مجددًا. المسكينان الصغيران، إنهما يفهمان.

سألت الأم: «وإلى أين أنت ذاهب، إن جاز لي السؤال؟».    

انتهى الأمر أخيرًا، لكن ريچي لم يتوان في سيره إلا حين ابتعدت عن مرأى المنزل وقطع منتصف الطريق إلى منزل الكولونيل بروكتور. حينها فقط لاحظ جمال تلك الظهيرة. ظلت تمطر طوال الصباح، مطر الصيف المتأخر الدافئ، الثقيل السريع، وصفتْ السماء، باستثناء ذيلٍ طويل من سحبٍ صغيرة، مثل صغار البط، تبحر فوق الغابة. هبَّتْ رياحٌ خفيفة تُسقط القطرات الأخيرة عن الشجر؛ سقطت نجمةٌ دافئة صغيرة على يده. بينج! – واحدةٌ أخرى سقطت على قبعته. لمع الطريق الفارغ، وفاحت رائحة الورد من الأسيجة، وتوهج نبات الخطمي الكبير والمشرق في الحدائق المنزلية. وها هو منزل الكولونيل بروكتور – ها هو ذا بالفعل. كانت يده على البوابة، دفع بكوعه شجيرات الليلك، وتناثرت البتلات واللقاح على كُم معطفه. لكن مهلًا. كان الأمر برُمته سريعًا جدًا، أعتزم التفكير في الأمر برمته من جديد.              

ههنا، بثبات. لكنه كان يمشي لبداية الطريق، بجانب شُجيرات الورد الكبيرة على الجانب الأخر. لا يمكن أن يتم الأمر بهذه الطريقة. لكن كانت يده قبضت على الجرس، وسحبته، وبدأ يرن بعنف، كما لو أنه أتى ليقول أن المنزل يحترق. كانت الخادمة في الردهة بالتأكيد، لأن الباب الأمامي فُتح بسرعة، وحُبس ريچي في غرفة الرسم الفارغة قبل أن يتوقف الجرس المضطرب عن الرنين. بطريقةٍ غريبة كفاية، عندما توقف الجرس، الغرفة الكبيرة والظليلة، والشمسية موضعةً فوق البيانو الضخم، رفعت معنوياته -أو بالأحرى، حمسته. كانت غايةً في الهدوء، لكن في لحظةٍ ما، كان الباب سيُفتح، وسيُحسم مصيره. كان الشعور مشابهًا لشعور أن تكون في عيادة طبيب الأسنان؛ شِبه أرعن. لكن في نفس الوقت، ولمفاجأته الهائلة، سمع ريچي نفسه يقول، «إلهي، أنت تعرف، أنت لم تفعل الكثير من أجلي..» أفاقه هذا؛ جعله يُدرك مجددًا خطورة ما كان مُقدمًا عليه. دخلت آن، عبرت المساحة الظليلة بينهم، وأعطته يدها، ثم قالت بصوتها الرقيق الناعم، «أنا آسفةٌ، أبي في الخارج. وأمي تقضي اليوم بالمدينة، صيد الحقائب. لا يوجد غيري ليستضيفك يا ريچي».

لهث ريچي، وضغط بقبعته على أزرار معطفه، ثم تلعثم قائلًا، «في الواقع، ما أتيت هنا إلا.. لأقول وداعًا».

«أوه!» هتفت آن برفق -تراجعت للوراء ورقصت عينيها الرماديتين- «يا لها من زيارةٍ قصيرة!»

ثم، وهي تراقبه، مال ذقنها وضحكت صراحةً، جلجلة رقيقة وطويلة، ثم مشت بعيدًا عنه إلى البيانو وانحنت عليه، وهي تلعب بشراريب الشمسية.

قالت، «أنا آسفة أني ضحكت هكذا. لا أعلم لماذا ضحكت. إنها فقط عادة سيئة». ضربت الأرض بحذائها الرمادي، وأخرجت منديل الجيب من معطفها الأبيض الصوفي وقالت، «يتحتم عليّ التغلب عليها، إنها جدُ سخيفة».

«يا إلهي يا آن!» صاح ريچي، «أنا أحب سماعكِ تضحكين! لا يمكنني تخيَل أي شيءٍ أكثر--».

لكن الحقيقة، وكلاهما كانا يعرفانها، أنها لم تكن تضحكُ دائمًا؛ لم تكن عادتها في الواقع. فقط منذ يوم لقائهما، منذ تلك اللحظة الأولى، ولسببٍ غريب تمنى ريچي أن يفهمه، ضحكت آن في وجهه. لماذا؟ لم يهم أين كانا أو ما كان يتحدثان حوله. فمثلًا يبدأوا حديثهم بشكلٍ جدي قدر الإمكان، جدي جدًا -على أيةِ حال، بقدر ما كان مهتمًا، -لكن فجأةً، في منتصف جملةٍ ما، تومئ له آن، وتمر إختلاجةٌ سريعة وقصيرة على وجهها. تنفرج شفتيها، وترقص عيناها، ثم تبدأ بالضحك.

ثمة شيءٌ غريب أخر بخصوص هذا، أعتقد ريچي أنها هي نفسها لم تعرف لماذا تضحك. لقد رآها تبتعد، تقطب وجهها، وتمتص خديها، وتعتصر كفيها. لكن كله بلا فائدة. تتردد الجلجلة الرقيقة والطويلة، وحتى خلالها قالت، «لا أدري علام أضحك». كان لغزًا..

تطوي الآن المنديل.

قالت، «اجلس الآن ودخن، هلا تفعل؟ توجد سجائر في ذاك الصندوق الصغير بجانبك. سآخذ واحدةً أنا أيضًا». أشعل لها عود ثقابٍ، وبينما هي تنحني للأمام رأى توهج الشعلة الرفيع في خاتمها اللؤلؤي الذي ارتدته. قالت آن، «سترحل غدًا، أليس كذلك؟».

«نعم، غدًا كما كان من قبل»، قال ريچي ونفخ القليل من الدخان. لماذا بحق الجحيم كان متوترًا للغاية؟ متوتر ليست الكلمة المناسبة لشعوره. 

أضاف، «إنه –إنه أمرٌ يصعب تصديقه بدرجةٍ مريعة».

«نعم، صحيح». قالت آن برقة، ثم انحنت للأمام وأمالت سيجارتها حول منفضة السجائر الخضراء. كم بدت جميلةً هكذا! -جميلةً ببساطة– وكانت ضئيلةً جدًا في ذلك الكرسي الضخم. تضخم قلب ريجنالد بالحنان، لكن كان صوتها، صوتها الرقيق، هو ما جعله يرتعش. «أشعر أنك كنتُ هنا لسنوات».

أخذ ريجنالد نفسًا عميقًا من سيجارته ثم قال، «أنها شنيعة، فكرة العودة هذه».

«كوو-روو-كوو-كوو-كوو،» تردد صوتٌ من رحم الهدوء.

«لكنك تحب أن تكون بالخارج، صحيح؟» قالت آن وهي تعقف إصبعها على عقدها اللؤلؤي. «في الليلة السابقة قال أبي كم يعتقد أنك محظوظ لتحظى بحياتك الخاصة». ثم نظرت له، كانت ابتسامة ريجنالد باهتة نوعًا ما. قال بخفة، «لا أشعر أني محظوظٌ إطلاقًا».

«كوو-روو-كوو-كوو-كوو،» أتى مجددًا. ثم غمغمت آن، «أتعني أنها حياةٌ منعزلة؟»

«أوه، ليست العزلة ما أنا أهتم به». قال ريجنالد، ثم دهس عقب سيجارته في منفضة السجائر الخضراء بفظاظة. «أستطيع أن أتحمل أي ثقلٍ منها، بل اعتدت أن أحبها حتى. إنها فقط فكرة --» فجأةً، ويا لفزعه، شعر أنه يحمر خجلًا. 

«روو-كوو-كوو-كوو! روو-كوو-كوو-كوو!»

قفزت آن، وقالت «تعال وودع يماماتي، لقد نُقلو إلى الشرفة الجانبية. أنت تحب اليمام، أليس كذلك يا ريچي؟».

«إلى أبعد حد»، قال ريچي بحماس شديد لدرجة أنه بينما كان يفتح النافذة الفرنسية لها ووقف على الجنب، تقدمت آن وضحكت على اليمامات بدلًا منه. 

مرارًا وتكرارًا، تتبختر اليمامتان إقبالاً وإدباراً على الرمل الأحمر الجميل في أرضية بيت اليمام. واحدةٌ كانت دائمًا أمام الأخرى. واحدة تتقدم إلى الأمام، تتفوه بصيحةً قصيرة، ثم تتبعها الأخرى، وتنحني ثم تنحني بهيبة. شرحت آن، «أنت ترى، اليمامة التي في المقدمة، هي السيدة دوڤ. إنها تنظر إلى السيد دوڤ وتمنحه تلك الضحكة وتعدو للأمام، ثم يتبعها هو، ينحني وينحي. وهذا يجعلها تضحك مرةً أخرى. وبعيدًا تعدو، ومن خلفها»، هتفت آن، ثم جلست على كعوبها، «يأتي السيد دوڤ المسكين، مستمرًا في الإنحناء.. وهذه هي حياتهم كلها. لا يفعلون أي شيءٍ أخر أبدًا، أنت تعلم». نهضت وتناولت بعض الحبوب الصفراء من كيس ثم وضعتهم على سطح منزل اليمام. «عندما تفكر بهم، وأنت بعيد في روديسيا يا ريچي، يمكنك التأكد أن هذا ما سيكونوا بفاعليه..»

لم يُبد ريچي أي علامةٍ على رؤية اليمامات أو سماع كلمةٍ عنهم. كان في تلك اللحظة واعيًا فقط للمجهود الهائل الذي تطلبه انتزاع سره من داخله وطرحه على مسامع آن. «آن، هل تعتقدين أن بإمكانك أبدًا الاهتمام بأمري؟» تمّت. انتهى. وفي هذا التوقف القصير الذي تبع جملته، رأى ريجنالد الحديقة مفتوحةً للضوء، والسماء الزرقاء المرتعشة، ورفرفة الأوراق على أعمدة الشرفة، وآن وهي تُحرك حبوب الذرة على راحة يدها بإصبعٍ واحد. ثم أغلقت يدها بروية، وتلاشى العالم الجديد بينما هي تهمس ببطء، «لا، ليس بهذه الطريقة أبدًا». لكنه بشق الأنفس كان لديه وقتٌ ليستشعر أي شيءٍ قبل أن ترحل بسرعة، وتبع خطواتها، على طول طريق الحديقة، أسفل أقواس الورد الزهرية، وعبر المرج الأخضر. هناك، عند الحاشية العشبية البهِيجة خلفها، واجهت آن ريجنالد وقالت، «الأمر ليس أني لستُ معجبةً بك، بل أنا كذلك. لكن» -اتسعت عيناها- «ليس بالطريقة» -عبرت إخْتِلاجة وجهها- «التي يجب على المرء أن يكون معجبًا بـ--». انفرجت شفتيها ولم تستطع تمالك نفسها؛ شرعت في الضحك. ثم قالت، «ها هو، أترى، أترى؟»، «أنها ر-ربطة عنقك ذات الترابيع. حتى في تلك اللحظة، عندما يظن المرء أنه سيكون مُتزنًا، ربطة عُنقك تذكرني جدًا بربطة عنق الفراشة التي ترتديها القطط في الصور! أوه، من فضلك سامحني لكوني بغيضة، أرجوك!».

أمسك ريچي بيدها الصغيرة الدافئة. «لا جدال حول مسامحتك»، قال بسرعة، «كيف يمكن أن يكون خلاف ذلك؟ وأعتقد أني أعرف لماذا أجعلكِ تضحكين. لأنكِ أعلى مني بكثير بكل الطرق الممكنة لذا فأنا، بشكلٍ ما، أضحُوكَة. أفهم هذا يا آن. لكن إن كنتُ لـ --»

«لا لا»، ضغطت آن على يده بشدة، «ليس هذا؛ كل هذا خطأ. أنا لست أعلى منك إطلاقًا. أنت أفضل مني بكثير. أنت إيثاريٌ بشكلٍ مذهل و.. وعطوفٌ وبسيط. أنا لست بأيٍ من هذه الخصال. أنت لا تعرفني. أنا أكثر الشخصيات شناعةً»، قالت آن، «أرجوكِ لا تقاطعني. كما أن هذا ليس المقصد. مقصدي هو» -هزت رأسها- «لا يمكنني الزواج من رجلٌ سخرتُ منه. أنت تفهم هذا بالتأكيد. الرجل الذي سأتزوجه--» التقطت آن أنفاسها بوداعة، وتوقفت. سحبت يدها بعيدًا وبينما هي تنظر لريچي، ابتسمت على نحوٍ غريبٍ وحالم. «الرجل الذي سأتزوجه--»

ومن ثم بدا لريچي أن دخيلاً طويلًا ووسيمًا وذكيًا خطا أمامه وأخذ مكانه –من نوع الرجال الذي هو وآن شاهدوه على المسرح، يخطو إلى المنصة من اللامكان، يحمل البطلة بين ذراعيه دون كلمة، وبعد نظرةٍ طويلة وعارمة، يحملها ويأخذها لأي مكان..

أذعن ريچي لتخيله، قال بصوتٍ مبحوح، «نعم، أنا أفهم».

«فعلًا؟» قالت آن. «أوه، آمل أنك تفهم فعلًا. لأني أشعر بالانزعاج بسببه. أنه لمن الصعب شرحه. أنت تعلم أن لم أكن لـ --» ثم توقفت. نظر ريچي لها، كانت تبتسم. قالت، «أليس هذا بمضحك؟ بإمكاني قول أي شيءٍ لك. كنت دائمًا قادرةً على فعل ذلك منذ البداية».

حاول أن يبتسم ليقول لها أنه مسرور. ثم أكملت، «لم أقابل أحدًا قط وأعجبتُ به بقدر ما أنا معجبةٌ بك. لم أشعر من قبل بهذه السعادة الغامرة برفقة أحد. لكني متأكدة أن هذا ما يقصده الناس والكتب عندما يتحدثون عن الحب. أتفهمني؟ أوه، لو تدرك فقط كم أشعر بالفظاعة. لكننا سنكون مثل.. مثل السيد والسيدة دوڤ».

هذا كافٍ. بدا ذلك نهائيًا لريجنالد وصحيحًا بشكل رهيب لدرجة أنه بالكاد تحمله. «مفهوم». قال ريچي ثم ذهب بعيدًا عن آن ونظر عبر المرج الأخضر. كان هناك كوخ البستاني، وشجرة البلوط الأخضر الكئيبة بجانبه. وسلسلة من الدخان المُغتَمّ الرطب والشفاف معلق فوق المدخنة. لم يبد حقيقًا. كم كان حلقه يؤلمه! أبإمكانه التحدث؟ سيحاول، «يجب أن أذهب للمنزل»، قال بصوتٍ خفيض، وبدأ في السير عبر المرج. لكن عدَت خلفه آن. «لا، ليس بإمكانك الرحيل بعد»، قالت باستجداء، «لا يمكنك الرحيل أبدًا وأنت تشعر هكذا». وحدقت آن فيه باقتضاب، وهي تعض شفتيها.

«أوه، لا بأس،» قال ريچي، متملصًا. «سأ.. سأ--» لوح بيديه قائلًا، «سأتجاوز الأمر».

قالت آن، «لكن هذا مريع»، عقدت يديها ووقفت أمامه. «أنت تفهم بالتأكيد كيف سيكون الوضع كارثيًا إن تزوجنا، أليس كذلك؟».

«أوه، فعلًا. معكِ حق»، قال ريچي وهو ينظر إلى عينها المُنهكة.

«يا له من شيءٍ شرير وخاطئ أن يكنّ صدري هذا الشعور. أقصد، يسير الأمر على أكمل وجهٍ مع السيد والسيدة دوڤ. لكن تخيل هذا في الحياة الواقعية -تخيله!»

«أوه، بلا ريب»، قال ريچي، وبدأ يسير. لكن آن أوقفته مجددًا وسحبته من كُمه، وكم أذهلته هذه المرة؛ فبدلًا من الضحك، بدت مثل فتاةٍ على وشك البكاء.

«لماذا إذن -إن كانت تفهم- أنت تعـ - تعيسٌ بهذا الشكل؟» انتحبت، «لماذا تُمانع بشدة؟ لما تبدو فظـ - فظيعًا هكذا؟».

ابتلع ريچي ريقه، ثم مجددًا لوح بشيءٍ ما بعيدًا. قال، «ليس بيدي حيلة، لقد خاب أملي، إن استطعت حسم الامر الآن، سأكون قادرًا على --»

«كيف لك أن تتحدث عن الحسم الآن؟» قالت آن بازدراء ثم ركلت الأرض بقدمها أمام ريچي؛ وحال وجهها قرمزيًا. «كيف بإمكانك أن تكون قاسيًا هكذا؟ لا أستطيع أن أدعك ترحل حتى أعرف حق المعرفة أنك سعيدٌ الآن بقدر ما كنت سعيد قبل أن تطلب مني زواجك. يجب عليك فهم هذا، إنه في غاية البساطة».

لكن الأمر لم يكن بهذه البساطة من وجهة نظر ريجنالد.

«حتى إن لم أتمكن من الزواج بك، كيف بإمكاني أن أعرف أنك بعيدٌ كل هذا البعد، مع تلك الأم البشعة فقط لتكتب لها، وأنك تعيس، وأن كل هذا يقع على عاتقي؟».

«هذا ليس ذنبكِ. لا تفكري بهذه الطريقة. إنه القدر ليس إلا»، رفع ريچي يدها من على كُمه وقبّلها. «لا تشفقي عليّ يا عزيزتي آن» قال بلطفٍ. وهذه المرة، أخذ يعدو تحت الأقواس الزهرية في البستان.

تردد صوتٌ من الشرفة، «روو-كوو-كوو-كوو! روو-كوو-كوو-كوو!» ومن الحديقة، «ريچي، ريچي».

توقف والتفتَ للوراء، لكن عندما رأت نظرته المُتحيرة والفزعة، ضحكت برِقة.

قالت آن، «عُد يا سيد دوڤ»، وعاد ريجنالد ببطءٍ عبر المرج الأخضر.


* مدينة أومتالي هي مدينة موتاري حاليًا في زيمبابوي.