ما زال النقاد إلى اليوم في خضم جدل محتدم حول طبيعة "قلب الظلام"؛ ندد تشينوا أتشيبي بالرواية في محاضرة شهيرة له سنة 1975 ووصف كاتبها بـ"العنصري اللعين".
قلب الظلام لجوزيف كونراد
مقال: روبرت مكروم
ترجمة: أسماء السكوتي
عن كتاب "أفضل مئة رواية في اللغة الإنجليزية" الصادر عن كتب مملة بالتعاون مع دار هن للنشر والتوزيع
لم تصادفنا في هذه القائمة إلى الآن رواية استطاعت أن تتفوق على "قلب الظلام" -باستثناء "آليس في بلاد العجائب" (رقم 18 في هذه القائمة)- في إثارتها للنقاش أو بالأحرى للجدل الأدبي. يرجع السبب في هذا جزئيًا لحكايتها المتسمة ببساطة حدسية كما الأساطير، وكذلك لأن الكاتب يأخذ كُلًّا من الراوي (تشارلز مارلو) والقارئ إلى رحلة في قلب إفريقيا.
نصادف مارلو لأول مرة على نهر التيمز في لندن -العاصمة الإمبريالية العظيمة- حيث يسترجع ذِكراه عن "أقصى حدود الأرض (أو أطراف الأرض البعيدة)"، هكذا، وبمهارة مبهرة ينقله كونراد إلى الكونغو في رحلة بحثية، خاضها هو نفسه في أيام شبابه. هناك، وأثناء عمله في "الشركة" الغامضة، لكن القوية، يسمع مارلو بالسيد كورتز، الموظف المتميز في الشركة. وبمجرد وصوله إلى القارة السمراء، ترسل الشركة مارلو إلى أعالي النهر لملاقاة كورتز الذي زُعم مرضه الشديد، ولمراعاة أمن المحطة الداخلية. ولكنه لا يجد بعد رحلته الشاقة والمرهقة إلى الداخل إلا رجلًا أوروبيًا على حافة الجنون -إن لم يكن قد جن تمامًا، اتخذه السكان الأصليون في المنطقة البدائية إلهًا. غير أن كورتز دفع ثمنًا باهظًا لهذا التسيد. وعندما يجده مارلو، يراه على فراش الموت يتمتم بالكلمة الملغزة الشهيرة: "الرعب! الرعب!".
عادة ما يقال إن هذه الجملة إحالة إلى الفظائع التي رآها كونراد رأى العين في الكونغو أثناء فترة الاستعمار البلجيكي. كما ينسب إليه قوله إن حكايته مستقاة من "التجربة، ولم تجانب حدود الحقيقة إلا قليلًا (قليلًا فقط)". تلك القوة المجازية للحكاية والازدراء اللامبالي الصادر عن الأفريقي حين يعلن "السيد كورتز مات" (سينتحلها ت. س. إليوت ببراعة لاحقًا) التي تمنح "قلب الظلام" مسحة حداثية تميزها عن غيرها من النصوص الموسومة بالصفة ذاتها. مرحبًا بكم في القرن العشرين؛ العصر الذهبي للرواية الإنجليزية والأمريكية معًا.
ملحوظة عن النص
إن لغتَيّ كونراد الأولى والثانية هما على التوالي البولندية والفرنسية، أما الإنجليزية فليست إلا لغته الثالثة التي تعلمها حين بلغ العشرين من عمره. وعلى الرغم من ذلك، فقد اختار الأخيرة وسيلة لاكتشاف تجربة شبابه حين كان ربان سفينة بخارية في الكونغو البلجيكية. يرجع جزء من طابع العمل الغرائبي الهذياني إلى صراع الكاتب مع لغة لم تكن لغته الأم. كان يؤكد أحيانًا أنه لًيُفضّل لو كان روائيًا فرنسيًا، ويقول إن الإنجليزية لغة بلا "حواف محددة"، كما اشتكى مرارًا من أن "كل الكلمات الإنجليزية ليست سوى أداة للتعبير عن أحاسيس مثيرة مشوشة". لربما كان هذا، ويا للمفارقة، ما يمنح الرواية جو الإلغاز والغموض الشهير.
أنهى كونراد "قلب الظلام" في التاسع من فبراير 1899. نُشرت في البداية متسلسلة على ثلاث دفعات في مجلة "بلاك وود" من فبراير إلى أبريل 1899 (بعمولة على كل ألف نسخة من المجلة)، حيث انصبَّت الدعاية لها على أنها حكاية ملاحية صادرة عن كاتب ارتبطت أعماله في البداية (وإن كان على نحو خاطئ) بالبحر .
وصلتنا رواية "قلب الظلام" من ثلاثة مصادر أخرى؛ مخطوطة، ونسخة مطبوعة ونهائية، ونسخة مُراجَعة نُشرت سنة 1902. بما أن النص ليس حقًا قصة طويلة، وحتمًا ليس برواية قصيرة، وبما أن عدد كلماته لا يكاد يتجاوز الثمانية وثلاثين ألفًا، فقد ظهر لأول مرة في هيئة مجلد كجزء من مجموعة قصصية تضمنت نصوصًا أخرى للكاتب منها، "الشباب: سردية"، و"نهاية الحبل". مع الوقت ستصبح "قلب الظلام" رواية كونراد الأشهر والأكثر إثارة للجدل والأبلغ تأثيرًا، كما سيقع في أحبولة سحرها الكثير من الكتاب الإنجليز والأمريكان؛ مثل: ت.س. إليوت "الأرض الخراب"، وجراهام جرين "قضية محترقة"، وجورج أورويل "1984"، ووليام جولدينج "الورثة". كما ألهمت الرواية فيلم فرانسيس فورد كوبولا الصادر سنة 1979 تحت عنوان "القيامة الآن" الذي ما زال يجدد الاهتمام بالنص الأصلي إلى يومنا هذا.
لم تحظ أي من أعمال كونراد الأخرى بهذا القدر من الإجلال الذي حظيت به "قلب الظلام" خاصة في الولايات المتحدة، ورغم ذلك، فإن البعض (وأنا منهم) يدعون أحيانًا إلى وضع روايته "نوسترومو" (1904) على قمة الهرم. ما زال النقاد إلى اليوم في خضم جدل محتدم حول طبيعة "قلب الظلام"؛ ندد تشينوا أتشيبي بالرواية في محاضرة شهيرة له سنة 1975 ووصف كاتبها بـ"العنصري اللعين". هكذا، ومن ضمن كل الروايات التي تتضمنها هذه القائمة، قلة قليلة تتربع آمنة في موقعها دون حاجة للجدل. إنها حقًا رائعة مؤَرِّقة ومنوّمة لكاتب عظيم يعتلي عرش أدب القرن العشرين.
* الترجمة خاصة بـ Boring Books
** تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها