لن يكون "هور" قادرًا على الحديث إليكَ بوضوح أشدّ من وضوح الهمهمات التي تصافح أذنيك قبل أن تنعس، وسيتحتم عليك أن تحافظ على توازنك وأنتَ تسير على ذلك الخيط الرفيع الفاصل بين النوم واليقظة.

اعذرني.. لا أستطيع التحدّث بصوت أعلى

قصة قصيرة لميشائيل إندِه

ترجمة: أحمد  الزناتي


ميشائيل إنده
ميشائيل إنده، عن elespanol

تقديم

هو الكاتب الألماني الراحل ميشائيل إنده، من مواليد 12 نوفمبر 1929 في بلدة جارمش بارتنركيرشن جنوب ألمانيا، بدأ إندِه في الكتابة في سنة 1943، فكتب الشعر والقصة القصيرة، واعتبارًا من سنة 1954 اشتغل ناقدًا للأفلام في إذاعة "بايرن". في سنة 1973 أصدر روايته الشهيرة "مومو"، ونال عنها جائزة كتب الشباب الألمانية سنة 1974، وقد ترجمَ الرواية إلى العربية أستاذي الدكتور باهر الجوهري مثلما ترجمَ إلى العربية روايته الأشهر "قصة بلا نهاية"، توفي إنده في سنة 1995.

اشتهر بكتابة القصص المنتمية إلى الأدب الغرائبي بالصبغة الشخصية التي ابتكرها إنده بنفسه، ويقول في هذ الصدد: "أروي قصصي لهذا الطفل القابع في داخلي، وكُتبي موجّهة إلى الطفل من عُمر ثمانية أعوام إلى ثمانين عامًا". يمكن وصف كتابات إنده بأنها مزيج سريالي من الواقع والخيال، غالبًا ما يُدعو/يخاطب المؤلفُ القارئَ للنهوض بدور أكثر تفاعلًا داخل القصة، وغالبًا ما تعكس العوالم الموجودة في مشكلات واقعنا عبر استخدام الخيال لإلقاء الضوء على مشاكل المجتمع الحديث المتزايدة. اخترتُ للقارئ هذه القصة من مجلد أعماله القصصية الكاملة.


اعذرني.. لا أستطيع التحدّث بصوت أعلى

اعذرني، لا أستطيع التحدّث بصوت أعلى. لا أعلم متى ستسمعني، أنتَ يا من أتحدّث إليك؟

بل هل ستصغي إليَّ من الأساس؟ اسمي "هور"[1].

أتوسّل إليك: قرّب أذنك من فمي مهما كنت بعيدًا عني، سواء في هذه اللحظة أو إلى الأبد. لا أستطيع الإفصاح عن نفسي بأية طريقة أخرى. وحتى لو تلطّفتَ بتلبية رجائي فينبغي أن تحيط ما سأقوله بالسريّة والكتمان. أحتاجُ إلى صوتك حين يعجز صوتي عن الخروج، ويُمكن تفسير عجز صوتي عن الكلام بفهم الطريقة التي يعيش بها "هور".

بقدر ما تسعفه الذاكرة يعيش "هور" في منزل ضخم فارغ تمامًا تثير فيه كل كلمة منطوقة جهرًا صدى يتردّد إلى ما لا نهاية. أحاول أن أتذكر، قدر المستطاع، ما يعنيه ذلك. في تجواله اليومي عبر صالات المنزل وممراته يواجه "هور" صدى شاردًا لنداءٍ كان ينطلق برعونة من حين إلى آخر،  وكان "هور" يتألّم أشدّ الألم حين يواجه ماضيه بهذه الطريقة، لا سيما وأن الكلمة الهاربة آنذاك فقدَتْ شكلها ومضمونها على نحو يتعذّر فيه الآن التعرّف عليها، إلا أن "هور" لم يعد يشغل نفسه بهذه المسألة الحمقاء، لأنه دأب على استعمال صوته – إن كان له صوت من الأساس- تحت الحدود الدنيا التي يُمكن أن يتردد منها صدى، وهو حـدّ أعلى قليلًا من درجة الصمت المطبق، لأن هذا المبنى غير عازل للصوت. أعلم أنني أطلب الكثير، ولكن يتحتّم عليكَ أن تحبس أنفاسكَ لو كنتَ تريد سماع كلمات "هور"، فقد ضمرت أعضاء الكلام عنده بسبب صمته المفرط، بل تحوّرَتْ أعضاء الحسّ عنده.

لن يكون "هور" قادرًا على الحديث إليكَ بوضوح أشدّ من وضوح الهمهمات التي تصافح أذنيك قبل أن تنعس، وسيتحتم عليك أن تحافظ على توازنك وأنتَ تسير على ذلك الخيط الرفيع الفاصل بين النوم واليقظة.

اسمي "هور". الأفضل لو قلنا إني أطلقَ على نفسي اسم "هور"، فَمنْ غيري سيناديني باسمي؟ هل سبق وأن قلتُ إن المنزل فارغ؟

أقصد أن المنزل فارغ تمامًا؟ حين يخلد لفراشـِه ينزوي "هور" في أحد الأركان أو يستلقي مكانه، حتى أنه يستلقي في منتصف القاعة لو كانت الجدران بعيدةً جدًا. وهو لا يحمل همًا لمسألة الطعام، فالمادة المصنوعة منها الجدران والأعمدة صالحة للأكل، بالنسبة إليه على الأقل، وهي مادة مصنوعة من كتلة صفراء شفافة نوعًا ما إلى درجة سـدّ رمقِه وإطفاء ظمئه بسرعة، هذا علاوة على أن احتياجات "هور" لهذه الأمور ضئيلة. لا يعني مرور الزمن شيئًا بالنسبة إليه، وهو لا يملك وسيلة لقياس مرور الزمن إلا دقات قلبه.

لا يعرف "هور" انقضاء الأيام والليالي، فهو مُحاصرٌ دومًا بالشفق. فإذا جافاه النوم أسرع إلى الحركة، من دون أن يقصد وجهة محددة، يتحرّك انطلاقًا من إلحاح، من حاجة يشعـر بالمتعة عند تلبيتها.

نادرًا ما يدخل إلى غرفة يعتقد أنه يعرفها أو أنها مألوفة بالنسبة إليه، كما لو كان الرجل دخل إلى الغرفة مرة واحدة فقط منذ أوقات بعيدة. من ناحية أخرى غالبًا ما توجد إشارة صريحة على مروره بمكانٍ مرَّ به بالفعل، كزاويةٍ في جدار مثلًا، أو كومة من البراز الجاف، برغم ذلك تظلّ الغرفة بالنسبة إلى "هور" غريبة عنه مثل أية غرفة أخرى. ربما في غياب "هور"، تتغيّر الغرف أو تنمو أو تتّسع أو تتقلص، وربما يكون مرور "هور" نفسه هو الذي يسبّب مثل هذه التغييرات، لكنه ينفر من تلك الفكرة.

شخصيًا أستبعد احتمال وجود أي شخصٍ آخر غير "هور" داخل هذا المنزل، إذ لا يوجد دليل على ذلك نظرًا إلى ترامي أطراف المبنى بشكل لا يُصدّق. الأمر ليس مستحيلًا، لكنه ليس مُحتملًا أيضًا.

تحتوي عديد من غرف المنزل على نوافذ، لكنها تفتح على غرف أخرى، معظمها أكبر حجمًا. برغم أن التجربة لم تعلّمه شيئًا آخر، تطوف برأس "هور" فكرة ملامسة آخر جدارٍ خارجي من المنزل؛ ينشد ملامسة جدارٍ تطـلّ نوافذه على منظرٍ مختلف تمامًا. لا يستطيع "هور" أن يقول كيف سيبدو شكل هذا المشهد، لكنه ينغمس أحيانًا في مشاورات ومداولات طويلة لتخيّل الأمر. ربما يجانبنا الصواب لو قلنا إن "هور" يتوق إلى هذه المنظر، فالأمر كله لا يعدو أكثر من كونه مجرد لعبة، ومجرد خبط عشوائي لاختبار أنواع الاحتمالات.

لكن "هور" يستمتع أحيانًا في أحلامه بهذه المناظر من دون أن يحتفظَ بشيء يقوله عنها بعد الاستيقاظ من النوم. كل ما يعرفه أن الأمر كذلك وأنه يستيقظُ مغالبًا دموعه في أغلب الأحيان، لكنه لا يعير الأمر سوى قليلًا من الأهمية، ولا يذكرها إلا من باب سـرد الغرائب.

الحقيقة أن التعبير قد خانني، لأن "هور" لا يحلُم أبدًا وليست لديه ذكريات شخصية، برغم ذلك فوجوده كله غارق في مسرّات وأهوال التجارب التي ما تنفكّ تغزو روحـه على هيئة ذكريات مباغتة. لكن هذا لا يحدث في كل الأوقات، ففي بعض الأحيان تبقى روحـه ثابتةً كصفحة ماء راكدة، وفي أحيانٍ أخرى تلحُّ عليه أحداث الماضي القاسي من كل حدب وصوب، وتُلّح عليه بشدّة وتضربه كصاعقة البرق فيرى نفسه يندفع في الممرات الفارغة، ثم يتعثر ويسقط على الأرض مُرهقًا، ولا يحرك ساكنًا، وفي النهاية يستسلم.

لأن "هور" رجل أعزل أمام هجمات الذكريات.

هل قلتُ على هيئة ذكريات مباغتة؟

اسمي "هور".

ولكن من هذا؟ هذا الـ (أنا – هور؟) هل أنا كيان واحد؟ أم أنني اثنان؟ هل أمرُّ بتجارب الشخص الثاني؟ هل أنا أكثر من شخص؟

هل أنا كل الآخرين، الذين هم بدورهم أنا؟ هل الآخرون يعيشون هناك، خارج حدود آخر جدار بالمنزل، وجميعهم لا يعرفون شيئًا عن تجاربهم ولا ذكرياتهم، لأنهم في الخارج لا يملكون محلّ إقامة؟

 آه. .لكنهم يبقَون مع "هور"، يعيشون حياتهم مع حياته، يهاجمونه من دون رحمة أو شفقة. هل تشعرون بي؟ أقصدكم أنتم يا أعضاء جسدي؟ هل تنصتون إلي كلماتي غير المسموعة، سواء الآن أم خارج حدود الزمن؟

هل تبحثين عني في نهاية المطاف، يا أناي الأخرى؟ هل تبحثين عن "هور"؟ الذي هو في النهاية أنتِ نفسك؟

هل تبحثين عن ذاكرتكِ المحفورة بداخلي؟ آه يا أناي.. لندنُ من بعضنا البعض عبر فضاءات تشبه النجوم، خطوة بخطوة، وصورة بصورة.

ولكن هل سنلتقي يومًا ما؟ في يوم من الأيام أو خارج حسابات الزمن والأيام؟ وماذا سنصير حينذاك؟ أم أننا سنصير عدمًا؟ هل سيمحو أحدنا الآخر مثلما تمحو نعم كلمة لا؟

على أي حال سترين يا أناي شيئًا واحدًا: أنّ ذاكرتي وعَتْ كل ما جرى بأمانة ودقة.

اسمي "هور".


[1]  يلعب المؤلف على مفردة Hor (بطل القصة) وهي مشتقة من الفعل الألماني hören  بمعنى يسمع ، ومن كلمة Gehör وهي السَمَع والإنصات (المترجم).


* الترجمة خاصة بـ Boring Books

** يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه