لقد عزمت على القيام برحلة فأتممتها في اثنين وأربعين يومًا، أطوف بأرجاء حجرتي، فأحببتُ أن أنشر على الملأ ما طاف بخاطري من ملاحظات، وما سرَّني في أثناء الطريق

رحلات في غرف مغلقة.. بين دو ميستر وبيكيت وبول أوستر

مقال: أحمد الزناتي

نُشِر في أخبار الأدب، مارس 2021


جزافييه دوميستر، عن wikimedia

سأتكلَّم هنا عن ثلاثة أعمال يربطها خيط واحد. سحبتُ طــرف خـيــط الأول فـجــَـــرَّ في ذيله اثنيْن. الكتاب الأول اسمه "رحلة في حجرتي" للكاتب جزافييه دوميستر، وهو من مواليد سنة 1763. التحق بالجيش كضابط، وقاتَـــلَ في عدة معارك ثم استقرَّ في مدينة سان بيترسبيرج. وقد ظهر الكتاب للمرة الأولى في سنة 1794 وضمَّ إليه ثلاث قصص قصيرة (الكتاب مُتاح بالفرنسية وبالإنجليزية للتحميل المجاني). الكتاب صغير الحجم، وهو عبارة عن تدوين لملاحظات وذكريات وطرائف وهجاء حاد للمجتمع أحيانًا، مكتوب على هيئة مخاطبة طويلة من المؤلف إلى القارئ. رحلة يقطعها الكاتب في أرجاء حجرته، هي رحلة ظاهرها الطواف في أرجاء الغرفـة، وباطنها الخيال الهائم في كل وادٍ. صحيحٌ أن العمل ينتمى إلى القرن الثامن عشر إلا أنه يحمل في كل صفحة من صفحاته جميعها ملامح أدب القرن العشرين بكل سورياليته وهمومه ومشكلاته، ولا أستبعد أن صمويل بيكيت الضليع بالفرنسية، والمــؤلِـف بلسانـها والمترجِم عنها وإليها، وكذلك بول أوستر وهو لمن لا يعلم مترجم مخضرم عن اللغة الفرنسية قـد تأثَّرا تأثرًا قويًّا بهذا الكتاب كما سأشير لاحقًا.

في الفصل الأول يخاطب دوميستر الجمهور قائلًا: "لا، لن أواصل الاحتفاظ بكتابي سرًّا. أيها السادة الأفاضل: هاؤم اقرأوا كتابي. لقد عزمت على القيام برحلة فأتممتها في اثنين وأربعين يومًا، أطوف بأرجاء حجرتي، فأحببتُ أن أنشر على الملأ ما طاف بخاطري من ملاحظات، وما سرَّني في أثناء الطريق. هي متعة تجوال المرء في غرفته، بعيدًا عن غيرة الغيورين ومن دون بذل مال. فلا أشقى على الإنسان من افتقاده إلى مأوى ينقطع فيه عن العالم. وأنا على يقين من أن كل إنسان فطِن سيحذو حذوي مهما كانت طباعه وصفاته".

نقلتُ هذه الفقرة لأنها لبُّ العمل وغاية المؤلف؛ العثور على مأوى يغيب فيه عن العالم، حصن حصين بتعبير المؤلف لاحقًا. لا يسير العمل على نسق واحد ولا يلتزم حبكة واضحة، كل غاية المؤلف هي الكتابة والبوح متحصنًا بجدران غرفته، شذرات ونتف وذكريات من هنا وهناك عن حياته وخادمه وصديق قديم مات في سنٍّ مبكرة وقصص غرامية وسياسية، إلخ. في الفصل الثالث يقول دوميستر إنه سيقطع رحلته حول الغرفة في اثنين وأربعين يومًا بدلًا من ثلاثة وأربعين يومًا أو أية مدة أخرى، مؤكدًا أنه لا يعرف لِمَ اختار اثنين وأربعين يومًا لا أكثر ولا أقل، لأنه يجهل سبب ذلك، المهم أن رحلته ستمتد على ما تحب وتهوى، ربما تكون رسالة مبطنة للقارئ: لا تنشغل بما لا يُـعنيك. وفي فصل لاحق، وأقصد بالفصل هنا صفحة لأن الفصل لا يزيد على ورقة واحدة وأحيانًا فقرة واحدة، يخاطب المؤلف قراءه قائلًا: "قبل المضيِّ قدمًا في الرحلة أودُّ أن أبدد شكوكًا قد تراود نفوس قُـرائي. لا أريد أن يظنَّ بي القارئ أنني هممتُ بهذه الرحلة لكوني رجلًا متعطلًا ليس لديَّ ما أفعله، لكني أقسمُ أنني اعتزمتُ القيام بهذه الرحلة قبل وقت طويل، قبل وقوع الحادث الذي سلبني حريتي مدة اثنين وأربعين يومًا".

مفهوم أن فعل لزوم الغرفة/الانقطاع إلى الكتابة فعل طوعي، لا إكراه فيه، لكنه ربما يقصد من وراء تعبير "سلبني حريتي" أن حافز الرحلة الداخلية المؤدي إلى الكتابة أقـوى من الكاتب نفسه وأنه فعل يضارع الإقامـة الجبرية لحين الانتهاء من كتابة ما ينبغي كتابته. ثم ينتقل في الفصل السادس والثلاثون، بغتة، فيصفُ مكتبته في كلمتيْن: تحوي روايات وقصصًا، ويكتفي بهذا القدر! وفي جزء لاحق بعنوان: التجوال في أرجاء غرفتي ليلًا، يتخيَّل دوميستر رحلات ليلية في أرجاء حجرته يسترجع فيها ذكريات حبٍّ وفراق ماضية، ويفتح شباك النافذة، ويشخص ببصره إلى السماء متأملًا النجمة القطبية، فيُخيل إليه أنه يسمع صوتًا يشبه رنات أوتار عيدان القمح يقول: "هذا هو الخير الذي ينشده البشر، الذين يظنون ظنًّا أن السعادة تدبير مادي محض، أولئك البشر المغرورون الذين يطلبون من الأرض [الدنيا] ما لا ينالونه إلا مـن السماء". وفي الفصل الأخير يتخيل أنه يرفع قدمه اليمنى عن فرسه المتوهم فيسأل القارئ: هل كان في مقدور أحد أن يجاريه في ركوب مشقات المغامرات؟ يقصد مغامراته داخل نفسه ومع ذاته وتجاربه وذكرياته؟ كان عبد الرحمن بدوي يقول إن مواجهة الناس تحتاج إلى شجاعة، أما مواجهة الذات فتحتاج إلى جسارة.

***

لم تكن طرافة كتاب دوميستر أو تشويقه هـي ما أسر انتباهي، فبعض الفصول القصيرة لا تخلو من سرد ممـل أحيانًا، بل الثيمة الأساسية: رحلات في الغرف المغلقة. تحيلني الفكرة إلى افتتاحية الدرة البهية والتحفة السنية: رواية "مولوي" لصمويل بيكيت (ت: عبده الريس، سلسلة الجوائز). في أول صفحة يجلس "مولوي" في حجرة والدته، ولا يعلم ما الذي أتى به إلى هنا ولا كيف. ثم يتكلم كلامًا غامضًا عن رجل غريب الأطوار يقتحم حجرته، يزوره الغريب بشكل منتظم ويأخذ منه الأوراق التي يكتبها ويمنحه نقودًا (حظه حـلو لأن الزائر لم يسرق فطوره)، وحينما يأتي الغريب في موعده يزوِّد الصفحات المكتوبة بعلامات غامضة لا يفهمها البطل، ربما في ظني تكون تصحيحات لأخطاء المسوَّدة الأولى، وربما لا يعقد صاحبنا أملًا في الوصول إلى مسوَّدة أخيرة يرضى عنها.

يقول مولوي إنه لا يعرف، أو يتظاهـر بأنه لا يعرف لِمَ يكتب، لكنه يستسلم إلى إرادة الزائر الغريب ويواصل الكتابة. المؤكد أن "مولوي" لم يكن يكتب من أجل شهرة أو مال. لماذا يكتب إذن؟ يكرر أنه لا يعرف، لكنه كذاب طبعًا، كان يعرف جيدًا لماذا يغرق نفسه في العمل ولماذا ينتج بهذه الغزارة، لكنه يتكتَّم الأمر، يداريه عن الجميع عبر أقنعة ومرايا ومتاهات مقصودة يُضلل بها قارئه، وعليه مواصلة الطريق لتسوية مسائل قديمة. الرواية نفسها، بصعوبتها ومتاهاتها، أشبه بـغـرفة مُـظـلمة، دغل كثيف من السرد الغامض المتواصل اللاهث، يظهر أحيانًا بيكيت فجأة مشعلًا مصباحـه وينير الغرفة لمدة دقائق وسرعان ما يلوذ بالفرار.

على الرغم من أن "مولوي" انطلق في رحلته من غرفة مغلقة ثم غادرها بعد ذلك كما سيرى القارئ، لكن بيكيت لا يترك بطلَه؛ لنقرأ العبارة التالية المهمة المطمورة وسط الركام: "مُولوي، إن موطنك كبير جدًّا، فأنتَ لم تتركه ولن تتركه، ومهما ارتحلتَ بداخل حدوده فسوف تظلُّ دومًا ترى الأشياء نفسها". بيكيت لاعب ماهر يعرف كيف يسدد ضرباته. في بداية الفصل الثاني يذهب جاك موران إلى غرفة مكتبه ليكتب "تقريرًا" مطولًا يقول إنه ربما لن ينتهي أبدًا. يدخل عليه "جيبر" ويكلفه بمهمةٍ ما. يتظاهر جاك بقدرته على رفض تعليمات "الرأس الكبيرة"، لكنه يدرك استحالة رفض المهمة، لأن الموضوع محسوم من زمان.

كرَّر الكاتب الأميركي بول أوستر التجربة (وإن كانت بمستوى أقلَّ جودة في رأيي) وبعنوان قريب من عنوان دوميستر في عمله الصغير "رحلات في حجرة الكتابة" (ترجمة سامر أبو هواش، منشورات المتوسط)، وبالطابع البوليسي نفسه الذي رأيناه في القسم الثاني من "مولوي"، لكن بطل الحكاية السيد بلانك (والاسم دال وموحٍ بما يكفي) شيخ مُسنٌّ يجلس في حجرة مراقبة بكاميرا ويسأل أسئلة مولوي نفسها: ما الذي يفعله هنا؟ ومتى وصلَ؟ وكم سيبقى؟ وفي نهاية الرواية يطرح الأسئلة المهمة: متى سينتهي هذا العبث؟ لن ينتهي أبدًا. ومهما ناضل لفهم الورطة التي هو فيها، سيظلُّ تائهًا دومًا (مثله مثل دوميستر وبيكيت) وسيواصل الكتابة لأننا طالما أُلقي بنا إلى هذا العالَم فسنواصل العيش وقصصنا تُــروَى حتى بعد موتنا بحسب تعبير أوستر. وجـه الشبه بين الأعمال الثلاثة، على اختلاف الأسلوب واللغة والرؤية، هـو انطلاق الرحلة من فكرة الغرفة المُغلقة التي تحوي العالَم. نقطة الانطلاق ينبغي دومًا أن تكون أنتَ ومكتبك وحيطان عالية، واذهب حيثما شئتَ، فلن تغادر الغرفة أبدًا.

الطريف أنني اكتشفت، بعد بحث سريع، عددًا لا بأس به من الأعمال التي قاربَـت الثيمة نفسها وتحت اسم مشابه. من بينها مثلًا كتاب الشاعرة والمترجمة الأميركية لويس بوجان Journey Around My Room:، وهو مجموعة من النصوص والمقالات السيرية عن حياة الكاتبة الراحلة. لم أتمالك نفسي فتصفَّحت سريعًا السطور الأولى من كتابها ولا بأس من إيراد أول سطر من الكتاب للتوكيد على الفكرة الأساسية: "الـسرير هـو أفضل نقطة انطلاق تبدأ منها رحلتك"، ثم تشرع في مدح الطقس ونور القمر وهو يتسلل في منتصف الليل من نافذة الحجرة ليضيء أرضية الغرفة، إلخ، وهي طريقة دوميستر نفسها في وصف غرفته في الفصل الأول من كتابه.

هذا بالإضافة إلى عمليْن صَدرا مؤخرًا لكاتبي نــثــر كبيرين (أتمنى الالتفات إليهما يومًا)، واحد للكاتب النمساوي كارل ماركوس جاوس Karl- Markus Gauß، بعنوان "رحلة مغامرات في أرجاء حجرتي"، والثاني لكاتب هولندي تُوفِّي مؤخرًا اسمه مارتن بيشوفيل Maarten Biesheuvel بعنوان "رحلة في حجرتي" أيضًا (ستظهر الترجمة الألمانية للعمل مُزودة بالصور في شهر مارس). وبإلقاء نظرة سريعة على موقع أمازون نكتشف أن الثيمة القديمة تعاود الظهور في حُلة جديدة ملائمة لروح عصرنا، وكأنهما يفتحان الطريق أمام كل كاتب ليروي لنا "رحلاته التي قام بـها في غـرفته"، سواء ارتدى أقنعة بيكيت وبول أوستر أم تجرَّد منها كما فعل دوميستر.

يـعتـرف فرانتس كافكا في منتصف قـصـة العرين (أو الجُحر في بعض الترجمات) بضرورة القيام برحلات من وقت إلى آخر داخل عرينه، كان عندما يقترب من مدخل العرين تحين لحظة تاريخية بحسب تعبيره، كان البطل يتجنب الاقتراب من المدخل. لماذا؟ لأنه كان يشعر بانزعاج وفرحـة عندما يجد نفسه تائهًا أحيانًا ولمدة لحظات معدودة داخل حصنه الذي صنعه بنفسه، وكـأن العرين/الجُـحـر يسعى أن يبرهـن لحفَّاره حـقه في الوجود. لكن فرانتس مثال لا يُقاس عليه، فالحياة داخل العرين كانت تأخذ كل وقته حتى ولو أحاطـه ملايين البشر، لذا من المهم أيضًا أن يعرف المرء كيفية الخروج من الغرفة. سُـئـل عالم النفس السويسري كارل جوستاف يونج ذات مرة عما إذا كان يفتقد أسفاره القديمة إلى التبت أو يتوق إلى زيارة المعابد التاوية في الصين والدردشة مع الرهبان أو إن كان يرغب مجددًا في السفر مع أصدقائه المقربين إلى مجاهل أفريقيا أو إلى المكسيك، فابتسم وقال إنه كان يسافر للبحث عن حقائق/أفكار كان يعرف بشكلٍ لا واعٍ أنها مدفونة بداخله، لكنه كان عاجزًا عن إخراجها من أعماقه، أما الآن وقد "فـهِمَ" فلا حاجة به إلى السفر أو القراءة. قال يونج لمحاوِره: "ثمة حكمة صينية قديمة تقول إنه إذا لزم الإنسان الجلوس في غرفته وحيدًا، ممعنًا النظر في نـفسه وفي حياته وتجاربه، فسيَـسـمع الناسُ صوته على بعد آلاف الأميال".


* يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة لأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه