أعتقد إننا غالبًا بنتعامى عن هوسنا بالشغل في المصانع باعتباره نموذجنا المثالي "للعمل الحقيقي" لدرجة إننا نسينا الشيء اللي بيتكون منه معظم الشغل البشري في الواقع.

شيل الهموم.. هي دي لعنة الطبقات العاملة

مقال ديفيد جريبر

ترجمة إلى العامية المصرية: حسين الحاج وشهاب الخشاب

نشر في الجارديان مارس 2014

* ديفيد جريبر (1961-2020): عالم أنثروبولوجي وناشط سياسي أناركي أمريكي.


ديفيد جريبر عن الفاينشنال تايمز

“اللي مش قادر أفهمه: ليه الناس ما بتتظاهرش في الشوارع؟" باسمع الكلام دا من وقت للتاني من ناس عيشتها مرتاحة وواصلة. بس فيه نوع من الشك كدا، كإن المعنى الضمني بيقول، "في النهاية إحنا مستعدين ندبح أي حد يهدد ملاجئنا الضريبية؛ لو فيه حد هيهوّب ناحية لقمة عيشي وسكني، فأنا متأكد إني هاحرق البنوك واقتحم البرلمان. إيه مشكلة الناس دي؟".

دا سؤال كويس. ممكن الواحد يفتكر إن الحكومة اللي اتسببت في معاناة الناس اللي عايشين بأقل الموارد للمقاومة ومن غير ما تحسّن الاقتصاد أصلًا هتواجه خطر الانتحار السياسي. بس بدل كدا، كل الناس رضيت بالمنطق الأساسي للتقشف تقريبًا. ليه؟ ليه الطبقة العاملة بتتقبل انتصار السياسيين اللي بيوعدونا باستمرار المعاناة، ده غير دعمهم أصلاً؟ 

أعتقد إن الشك اللي بدأت بيه بيقدم إجابة جزئية. يمكن ولاد الطبقة العاملة، زي ما بيفكرونا دايمًا، مش بيدققوا كتير في المسائل المتعلقة بالقانون واللياقة زي "ولاد الناس الكويسين"، بس هما برضه مش مهووسين قوي بنفسهم، عشان هما بيهتموا أكتر بأصحابهم وأهاليهم وناسهم. وفي العموم، هما في حقيقتهم ألطف بكتير.

إلى حد ما يبان إن دا بيعكس قانون اجتماعي عام. النسويات بتشاور من فترة طويلة على إن الناس الموجودين فى قعر أي ترتيب اجتماعي غير متكافئ بيميلوا للتفكير في الناس اللي فوقهم والاهتمام بيهم أكتر من الناس اللي في أعلى الترتيب بيفكروا في اللي تحتهم أو مهتمين بيهم. الستات غالبًا في كل مكان بتفكر في حياة الرجالة وتعرف عن حياتهم أكتر من اللي يعرفه الرجالة عن حياة الستات، بالظبط زي السود ما بيعرفوا أكتر عن البيض والموظفين عن أصحاب الشغل والفقرا عن الأغنيا.

وبما إن البشر مخلوقات متعاطفة، فالمعرفة بتوصلنا للتعاطف. في حين إن الأغنيا والأقويا يقدروا يفضلوا مش مهتمين ومطنشين، لإنهم قادرين على كدا، عندنا دراسات نفسية بتأكد الموضوع دا مؤخرًا. ولاد الطبقة العاملة دايمًا بيوصلوا لدرجات أحسن بكتير في اختبارات قياس مشاعر الغير، أكتر من ولاد الأغنيا أو الطبقات المهنية. ويمكن دا ما يبانش غريب. لإن في النهاية دا اللي بيدور حواليه معنى إنك تكون "صاحب نفوذ وسلطة" إلى حد كبير: إنك ما تضطرش إنك تاخد بالك قوي من اللي بيفكر فيه وبيحسه غيرك. أصحاب النفوذ والسلطة بيعينوا ناس تانية غيرهم عشان يعملوا كدا بدالهم.

ومين اللي بيعينوهم دول؟ معظمهم من ولاد الطبقات العاملة. أعتقد إننا غالبًا بنتعامى عن هوسنا بالشغل في المصانع باعتباره نموذجنا المثالي "للعمل الحقيقي" لدرجة إننا نسينا الشيء اللي بيتكون منه معظم الشغل البشري في الواقع.

حتى في أيام كارل ماركس وتشارلز ديكنز، الأحياء العمالية كان ساكنها شغالات وجزمجية وبتوع روبابيكيا وطباخين وممرضات وسواقين ومُدرسين ومومسات وبياعين متجولين أكتر بكتير من عمال المناجم ومصانع الغزل والنسيج ومسابك الحديد، والحال دا زاد النهارده أكتر. "شغل الستات" زي ما بنتصوره بشكل نمطي -ياخدوا بالهم من غيرهم، يجروا ورا رغباتهم واحتياجاتهم، ويشرحوا، ويطبطبوا، بيعملوا الحاجة قبل ما ريس الشغل حتى يعوزها أو يفكر فيها، وده غير انهم بيرعوا ويتابعوا ويصونوا النباتات والحيوانات والمَكَن وكل حاجة تانية- كل ده بيعادل نسبة أكبر بكتير من اللي الطبقات العاملة بتعمله في شغلها لما يدقوا حاجات بالشاكوش أو ينحتوها أو يرفعوها أو يحصدوها.

وده حقيقي مش بس عشان أغلب الناس في الطبقات العاملة ستات (عشان أغلب الناس عمومًا ستات)، وإنما كمان حتى عشان عندنا رؤية مشوهة للي بيعملوه الرجالة. زي ما عمال المترو اللي أضربوا من قريب اضطروا يشرحوا للركاب المتضايقين من إضرابهم إن الكمسرية ما بيقضّوش معظم وقتهم في إنهم يبيعوا ويشتروا تذاكر، ولكن بيقضّوا معظم وقتهم في إنهم يشرحوا حاجات، ويصلّحوا حاجات، ويلاقوا عيال تايهة، وياخدوا بالهم من العواجيز والمرضى والمتلخبطين في المحطات.

إذا جيتوا تفكروا فيها، مش الحياة كدا أصلًا؟ البني آدمين عبارة عن مشاريع للخلق المتبادل. معظم الشغل اللي بنعمله هو شغل على بعضنا، ونصيب الطبقات العاملة من الشغل دا أكبر بكتير بس، لأنهم الطبقات الراعية، وكانوا طول عمرهم الطبقات الراعية. الحملة المستمرة على الفقرا من عند الناس اللي بتستفيد من شغلهم الرعائي هي الحاجة الوحيدة اللي بتصعّب الاعتراف بده في ساحة عامة زي دي.

كوني جي من عيلة عمال، أقدر أأكدلكم إن دي الحاجة اللي كنا حقيقي فخورين بيها. كان دايمًا بيتقال لنا إن الشغل عبارة عن قيمة في حد ذاته -إنه بيبني الشخصية أو حاجة كدا- لكن ما حدش كان مصدق الكلام دا. أغلبيتنا كانت شايفة إنه يستحسن إننا نتجنب الشغل، إلا إذا فيه ناس تانيين ممكن يستفيدوا منه. بس كان ممكن تحس بالفخر من الشغل اللي بيتعمل، سواءً كان معناه بناء الكباري أو تنضيف قصاري الحمام. وكان فيه حاجة تانية كنا فخورين بها برضه أكيد: إننا كنا نوع الناس اللي بتاخد بالها من بعض، ده اللي كان بيفرّقنا عن الأغنيا، اللي ما كانوش تقريبًا قادرين يجبروا نفسهم على إنهم ياخدوا بالهم من أولادهم همَّا نُص الوقت، على حد ما كنا قادرين نفهم.

أكيد فيه سبب لأن أكبر قيمة برجوازية هي التوفير، وأكبر قيمة عمالية هي التضامن، إنما ده بالظبط الحبل اللي بتدلدل منه الطبقة دي حاليًا. رعاية المجتمع زمان كانت ممكن يكون معناها الخناق عشان الطبقة العاملة نفسها، ووقتها كان ممكن نتكلم عن "التقدم الاجتماعي". النهاردا بنشوف آثار الحرب المستمرة ضد فكرة سياسة الطبقة العاملة أو المجتمع العمالي نفسه. الوضع دا ما سابش للعمال وسائل كتيرة للتعبير عن الرعاية دي، باستثناء توجيهها إلى تجريدات مصطنعة بشكل ما زي: "عشان أحفادنا" و"عشان الوطن"، سواء كان عن طريق الوطنية الشوفينية أو النداء بالتضحية الجماعية.

بالتالي كل حاجة مقلوبة على راسها. أجيال من التلاعب السياسي حوّلت حس تضامني ده في الآخر لمصيبة، ورعايتنا لبعض بقت سلاح بيُستخدم ضدنا، وغالبًا الوضع ده هيستمر طالما اليسار اللي بيدعي إنه بيتكلم باسم العمّال ما بدأش يفكر بشكل جدي واستراتيجي في حقيقة طبيعة معظم الشغل في الواقع، وفي القيمة اللي الناس اللي بتشارك فيه شايفينها في الشغل دا فعلًا.


الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجمان بحقهما في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتهما دون إذن منهما