أمكث جوار فراشه، ممسكة بكراسة أسجل بها حرارته كل ساعة منتظرة وصولها إلى الـ 38 لأهرع إلى الخارج، طالبة من أحد الممرضين المجيء ليعلق له خافضًا. مع ظهور أول قرحة في فمه، أشعر بالغصة في حلقي أيضًا، ينقطع عن الأكل والشرب، فأقلده لا إراديًا. 

بين غُرَف العنبر

قصة ليوحنا وليم

نُشرَت القصة ضمن مجموعة "الفرار من حوض الاستحمام" الصادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة عام 2022


صورة يوحنا وليم، الحقوق بالإذن

شعرت بمرارة في حلقي حين سمعت دعاء أم مؤمن –المريض الجديد بالعنبر- لابني. ابتسمت لها مربتة على كتفها قائلة بصوت محشرج: "الله يرحمه". اعتذرت لي بلهجتها العرباوية مرارا مرددة: "حقك عليا" ومكررة: "الله يرحمه". لم تجعلني أترك الغرفة قبل أن تؤكد لي للمرة المائة أنها لم تكن تقصد وأنا أومئ برأسي إيجابًا لها في صمت وشفتي نصف مبتسمة وفمي يختلج ناطقا: "حصل خير... ولا يهمك". لم يخلصني منها سوى نداء ابنها عليها إثر إصابته بنوبة قيء من جرعة الكيماوي التي يأخذها. اتجهت إليه لتمسك له الكيس البلاستيكي حتى يتقيأ.

ملأ هواء العنبر صدري، فاعترتني دوخة خفيفة، ذهبت بسببها إلى دورة المياه المواجهة للغرفة. غسلت وجهي بماء بارد حتى أفيق قليلًا، ونظرت لنفسي بالمرآة. تأملت السلسلة الذهبية التي تحمل من ناحية صورة المسيح والأخرى صورة "يوسف" ابني الذي مرت على وفاته سنتان بالتمام والكمال اليوم. أّلحّ عليَّ زوجي ألا أذهب للمستشفى اليوم، لكنني تحججت بأنه عليّ الاطمئنان أن شكوى "أم هنداوي" في الدور الثالث -وهي تأخير صرف الأدوية لابنها- قد تم التعامل معها بحزم، على الرغم من معرفتي بخروجهم البارحة. أصررتُ على رأيي، رافضة حتى أن يوصلني بسيارته وركبت الأتوبيس مع طاقم الأطباء صباحًا.

سجلتُ في دفتر ملاحظاتي عدم وجود صابون في حمام العنبر، ثم ناديت على عمال الدور طالبة منهم ملء العلبة البلاستيكية. أكملت مروري في الدور الثاني، شاعرة بأعينهم الملتصقة بي، مشعة كراهية تجاهي. سمعتهم ذات مرة يتهامسون: "الولية المجنونة اللي بتلبس أسود وتروح تشتكينا للمدير". إنهم طاقم جديد، باستثناء "فاتن" التي كانت تأتي ليلًا لتواسيني وقت حجز يوسف في العنبر إثر جرعة أو سخونية الكيماوي، لكن صارت نوباتجياتها ليلية فلم أعد أراها إلا نادرًا.

تنقلت بين الغرف مسجلة شكاوى المرضى، وأطمئن أمهات الحالات الجديدة، ناصحة إياهن بألا يبكين أمام أولادهن؛ حتى يصرن سندهم الحقيقي، فهم يطلعن إليهم للدعم. أستمع لاحتجاجهن بسبب عدم سماع الأطباء لكل شكاوى أبنائهن وفي بعض الأحيان من عصبيتهم، وأخبرهن أن كل ما يقلنه يتم تسجيله في دفتر الملاحظات. تصدقني بعضهن وأخريات يجادلنني وينددن بالإهمال الطبي في تلك المستشفى المجانية، متجاهلات حقيقة أن الأطباء الذين يمرون على أطفالهن، يقومون بالمثل على عنبرين كاملين مكتظين بالأطفال ويتقاضون في نهاية الشهر ملاليم.

أعذرهم فتلك كانت حالتي وقت حجز يوسف في العنبر بعد كل جرعة كيماوي. أمكث جوار فراشه، ممسكة بكراسة أسجل بها حرارته كل ساعة منتظرة وصولها إلى الـ 38 لأهرع إلى الخارج، طالبة من أحد الممرضين المجيء ليعلق له خافضًا. مع ظهور أول قرحة في فمه، أشعر بالغصة في حلقي أيضًا، ينقطع عن الأكل والشرب، فأقلده لا إراديًا. تأتي أطباق الغداء والعشاء، وتذهب غير ملموسة. يهزل جسده وأرى عظام وجنتيه ويديه، فألعن جسدي الذي أتى به إلى الدنيا حاملًا المرض اللعين.

صافحت النائبة الجديدة، وبادلتني السلام ببرود. عرفت بعد فترة من عملي بالخدمة الاجتماعية في المستشفى، بما يقال عني. يعتقدون أنني أخبر مدير المستشفى بتقصيرهم مع المرضى، كما يعتقد الممرضون أنني أخبر رئيستهم بالمثل، بينما الحقيقة أنني أشيد بدورهم أمام الاثنين. نادرًا ما أخبرت أيًا منهم عن تقصير أي من الأطراف، فإن جرى هو بسبب بيئة العمل غير الآدمية، لكن الكل يبحث عن شماعة يعلق عليها مأساته.

لمت الكثير من الأشخاص وقت حجز يوسف في المستشفى. بدأت بالتمريض، ثم عمال النظافة، وأخيرًا النواب والأخصائيين. كانت تلك هي المرحلة الأولى، قبل غوصي داخل ذاتي بعد أن طالت فترات الحجز. صرت ألوم نفسي، وزوجي ثم طال الموضوع ابني الذي ظننت أنه يستضعف نفسه. فأقسو عليه قائلة: "استرجل وكل... مش شايف السرير اللي جنبك فضي ازاي". ضاعفت قسوتي من عناده الذي ورثه مني، واستحال الأمر بالنسبة لي في بعض الأحيان إلى تحدٍ فأزيد من عتابي، فيدير ظهره إلى الجهة الأخرى في صمت حتى أنتهي من وصلتي التي حفظها عن ظهر قلب. 

لا أنسى اللحظات التي شعرت بالكراهية تسري في عروقي تجاه هذا المراهق المستلقي على الفراش أمامي. رأيت ضعفي متجسدًا، ومثّل يوسف لي عقاب الله عن كل الخطايا التي ارتكبتها في حياتي. سألت أبَ اعترافي مئات المرات إن كان الله يحاسب الأبناء على أخطاء الآباء، كالتلاميذ للمسيح عن المولود أعمى: "من أخطأ؟ هذا أم أبواه حتى ولد أعمى؟" فأجابني بنفس حجة المسيح لتلاميذه: "لتظهر أعمال الله فيه". فكرهت الله الذي يستغل ابني.

سمعت أُمًّا تولول في العنبر ممسكة بفراش عليه ولد غائب عن الوعي، ويتم جره إلى المصعد. فتذكرت يوم نقل يوسف للعناية. لم ينم ليلتها وظلت حرارته ثابتة عند الـ 40 على الرغم من تعليقنا لأكثر من زجاجة خافض. لم تنقطع النائبة الساهرة عن الدخول والخروج كل نصف ساعة، وفي كل مرة يتضاعف توتر ملامحها. سمعتها تهاتف الأخصائي في البداية، لتستشيره فيما يجب فعله. لم ألتقط مما قالته سوى: "سيفير سيبسيس".

دخلت بعد انتهاء المكالمة وعيناها مغرورقتان بالدموع معلنة لي أنهم سينقلون يوسف للعناية المركزة. كانت الساعة وقتها الثالثة والنصف فجرًا. سألتها بصوت مرتعش كجسد يوسف إثر الحرارة: "هيسيبوني أزوره؟" ربتت على كتفي مثلما أفعل وهزت رأسها إيجابًا ثم أخرجت هاتفها لتكلم نائب العناية المركزة حتى تسلمه الحالة. قبلت جبينه بشفتيه مرتعشتين ووضعت تحت ملابسه صورة العذراء طالبة منها السهر على حراسته ثم انفجرت باكية محتضنة إياه بقوة.

اختفى العالم من حولي في تلك اللحظة. صرنا في ظلام دامس وهدوء قاتل. لا أرى سوى يوسف ينيره، ولا أسمع سوى نبضات قلبه. امتدت أيادٍ من أماكن مجهولة، لتنتزعني منه. صرخت كما لم أفعل من قبل، فانبَّح صوتي. قاومت الأيادي الخفية، فكتفوني. ابتعد يوسف رويدًا رويدًا، فانهرت على الأرض، أولول وألطم على وجهي حتى اندثر الضوء وصُمَّت أذناي.

 كانت الشمس ساطعة للغاية حين فتحت عيني ولاحظت خلو الغرفة المملوءة بالأسِّرة. تذكرت كلام يوسف لي عن رغبته في تأجيل تلك الجرعة اللعينة لبعد عيد الميلاد حتى يحتفل مع أصدقائه. رفضت حينها طلبه دون مناقشة وأخبرته: "ديه آخر واحدة وبعدها عيد براحتك". لم يجادلني كما توقعت أن يفعل واحتضن أباه بقوة يوم إيصالنا للمستشفى.

 فكرت إن كان ما شهدته البارحة حلمًا أم حقيقة، لكن دخول فاتن وعلى وجهها ملامح الأسى، أوشى لي بحقيقة الأمر. نطقت: "تعيشي أنت". ثم لم أسمع شيئًا من بعدها. انطلقت أعدو بين الغرف حافية، أبحث عن ابني في كل مكان وهي في ذيلي حتى أدركت فاجعة الأمر وأتى زوجي ليرافقني إلى ثلاجة المستشفى لاستلام الجثة.

ما زلت أبحث عنه حتى الآن بين الغرف وربما هذا ما دفعني للعودة إلى المستشفى مرة أخرى بحجة العمل. أتنقل مرتدية فستاني الأسود بخفة بين الغرف. أزيح كل ستارة برفق حتى لا أزعج النائمين. أفحص وجوه المرضى وأدعو في كل مرة أن أراه يطالعني من وراء ملامح أي منهم. أخذَل يوميًا، لكن لا يُهم، سأظل أبحث عنه حتى مماتي بين غرف العنبر الذي فقدته به مُواسِية في طريقي الأمهات الأخريات في رحلتهن الأليمة مع مرض أولادهن.


* يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بنصه دون إذن منه