وما الذي كنت تريده؟
أن أكون محبوبًا لنفسي، أن أشعر بنفسي محبوبًا على هذه الأرض.

لن أنام على سريرنا من دونك

قصائد لريموند كارفر

ترجمة: محمود حمدي

اقترن الحضور الخافت لاسم ريموند كارفر في العربية بقصصه القصيرة، تُرجمت له مجموعتان ("كاتدرائية" من ترجمة أسامة إسبر، و"عم نتحدث حين نتحدث عن الحب" من ترجمة سلطان فيصل) الصادرتان عن دار روايات، بالإضافة إلى قصص متفرقة على موقع كتب مملة من ترجمة محمد عبد النبي وسيد عبد الخالق.

ولكن لا شيء عن كارفر ككاتب للشعر. تميزت قصائده كقصصه بالبساطة وبسمةٍ اختزالية، كأحد رواد الواقعية القذرة في ثمانينيات أمريكا، لم يسع كارفر إلى زخرفة أي كلمة، وربما تنطبق عليه جُملة الشاعر السوري الراحل رياض الصالح الحسين "بسيط كالماء واضح كطلقة مسدس".

في مقابلة له مع كلود جريمال لصحيفة الباريس ريفيو يجيب كارفر عن علاقته بالشعر:

"قصصي معروفة لكني نفسي أحب الشعر. والعلاقة؟ فإن قصصي وقصائدي قصيرة (يضحك). أكتبها بالطريقة نفسها وأستطيع أن أقول إن التأثير واحد. هناك ضغط في اللغة والعاطفة لم يوجد في الرواية غالبًا ما أقول إن القصة القصيرة والقصيدة أقرب الواحدة منها إلى الأخرى مما بين القصة القصيرة والرواية".

ننشر هنا ترجمة قصائد متفرقة من كارفر نُشرت ضمن أعماله الكاملة.


ريموند كارف، عن workthoughts

شظية متأخرة

وهل نِلتَ ما أردت من هذه الحياة حتى ولو؟
أنا فعلت.
وما الذي كنت تريده؟
أن أكون محبوبًا لنفسي، أن أشعر بنفسي محبوبًا على هذه الأرض.*

*كانت هذه آخر قصيدة يكتبها كارفر قبل وفاته في عام 1988.

هذا الصباح

هذا الصباحُ كان مميزًا،
ثلجٌ قليل مُلقى على الأرض.
الشمس طافت في سماءٍ زرقاء صافية.
كان البحرُ أزرق، وأخضر-أزرق بقدر ما استطاعت العين الرؤية.
بالكاد تموَّجَ. هادئٌ.
لبستُ وخرجت لتمشيةٍ—
 قررتُ ألا أعود
حتى أحصل على ما تعرضه الطبيعة.
مررتُ بالقرب من بعضِ الأشجار المنحنيةِ القديمة.
عبرتُ حقلًا مبعثرًا بالصخور، حيثُ انزاح الثلج. استمررتُ
حتى وصلتُ المنحدر.
حيثُ حدقتُ في البحر، وفي السماء، النوارس وهيّ تدور فوق الشاطئ الأبيض، دانيةً منه.
فاتنة، متحممة بالضوء البارد الصافي.
 ولكن، كالعادة، أفكاري بدأت تتسلل.
 كان عليّ أن أُجبر نفسي على رؤية ما كنت أرى، ولا شئ آخر.
كان عليّ أن أخبر نفسي أن هذا ما يهم، لا الآخر. (وبالفعل رأيته، لدقيقةٍ أو اثنتين!)
لدقيقةٍ أو اثنتين تزاحمت التأملات كالعادةِ على ما كان صحيحًا، وما كان خاطئًا— الواجب، الذكريات الحنونة، أفكارٌ عن الموت، كيف ينبغي أن أعامل زوجتي السابقة.
كل الأشياء
آملتُ أن ترحل هذا الصباح.
الأشياء التي أحيا معها كل يوم.
ما دُست عليهِ لأبقى حيًّا.
ولكن لدقيقة أو اثنتين نسيتُ نفسي وكل شئٍ آخر.
أعلمُ أنني فعلت.
عندما استدرتُ لم أعرف أين كنت.
حتى ارتقت بعضُ الطيور من كثافة الأشجار،
وحلقت في الاتجاه الذي احتجت الذهاب إليه.

احبس نفسك من الخارج، ثم حاول العودة إلى الداخل

ببساطةٍ تخرجُ وتغلق الباب
بلا تفكير. وعندما تنظر وراءك
على ما فعلته
سيكون الأوان قد فات.
إن تشابهت هذه معَ قصةِ حياة، حسنًا
قد كانت تمطر، والجيرانُ الذين كان لديهم مفتاحٌ، كانوا بعيدًا.
حاولتُ وحاولت مع النافذة الأدنى، حدقتُ بالداخل على الأريكة،
النباتات، الطاولة والكراسي، مشغلِ الستيريو.
كوبُ قهوتي ومنفضتي انتظراني على الطاولة المغلفة بالزجاج، انفطر قلبي عليهما.
قلتُ، أهلًا، أصدقائي، أو شيء من هذا القبيل. على كلٍ، لم يكن ذلك سيئًا للغاية.
أشياءٌ أسوأ قد حدثت.
قد كان هذا طريفًا قليلًا.
وجدتُ السلم. أخذته وأَملتهُ قبالةَ المنزل. ثم تسلقته تحت المطر إلى السطح، أرجحتُ نفسي فوق الدرابزين وجربتُ الباب. والذي كان مغلقًا بالطبع.
ولكنني نظرتُ كما فعلت على مكتبي، بعضُ الأوراق، كرسيي.
هذه كانت النافذةُ من الجانب المقابل للمكتب
حيثُ أرفعُ عيناي وأحدقُ خارجًا حين كنت أجلسُ على ذاك المكتب.
ليس هذا كالطابق السفليّ، هذا شئ آخر. وكان شيئًا ليظهر هكذا، غير مرئي من السطح. ليكون هناك، بالداخل، ولا يكون هناك.
لا أظن حتى أنه بإمكاني التحدثُ عن ذلك.
قربتُ وجهي من الزجاج، تخيلت نفسي بالداخل.
جالسًا على المكتب، مشيحًا بنظري من العمل بين حينٍ وآخر.
مفكرًا بمكانٍ آخر، وزمن آخر.
بالأناس الذين أحببتهم وقتها.

وقفتُ هناك لدقيقة تحت المطر.
معتبرًا نفسي أكثر الرجال حظًا.
رغم أن موجةً من الحزن عبرت من خلالي
رغم أني شعرتُ بخزيٍ شديد من الجرح الذي سببته حينها.
حطمتُ تلك النافذةَ الجميلة، وخطوت عائدًا إلى الداخل.

بسيطًا

فسحةٌ بين السحب.
الحدود الزرقاء للجبال.
الصفرة الداكنة للحقول.
نهرٌ أسود، ماذا أفعلُ هنا؟
وحيدًا وممتلئًا بالندم؟

بلا تكلف أذهب، آكل من زبدية التوت.
أذكر نفسي، لو كنت ميتًا، لم أكن لآكلهم
ليس الأمرُ بسيطًا.
لكنه بهذه البساطة.

باحثًا عن الرقم واحد

والآن بينما تغيبين لخمسةِ أيام،
سأدخن كل السجائر التي أردت، أينما أردت.
أصنعُ البسكويت
آكله مع المربى واللحم المقدد.
أصنع رغيف لحم.
أدلل نفسي.
أسير على الشاطئ إن راودتني الرغبة في ذلك.
وبالفعل أرغب. وحدي أفكر
فيّ عندما كنت صغيرًا.
في الأناس الذين أحبوني وقتها بلا سبب.
وكيف فضلتهم على الآخرين.
باستثناء شيء واحد،
أقول إني سأفعل كل ما يحلو لي بينما أنتِ بعيدة!
لكن هناك شيئًا واحدًا لن أفعله.
لن أنام على سريرنا من دونك.
قطعًا، لن يسعدني فعلُ ذلك.
سأنام حيثما يحلو لي
حيثُ يمكنني النوم في غيابك
غير قادرٍ على ضمكِ كما اعتدت.
على الأريكة المكسورة في مكتبي.

على الأقل

أريد أن أستيقظ باكرًا لصباحِ آخر قبل شروق الشمس.
حتى، قبل الطيور.
أريد أن أرمي بالماءِ البارد على وجهي وأكون على طاولةِ عملي قبل اشتعال السماءِ وارتفاع الدخان الذي يعبر مضائق كل البلدان البحرية في العالم—
سفن شحنٍ قديمة وقذرة، بالكاد تتحركِ،
وسفن شحن جديدة، تصبغ كل لون تحت الشمسِ بينما تعبرُ الماء.
أريد أن أبقي عينًا عليهم، وعلى الزورق الصغير الذي يجَمّع الماء بين البواخر ومحطةِ الملاحةِ قرب المنارة.
أريد أن أراهم يعزلون رجلًا من الباخرة ويضعون آخر على متنها.
أريد أن أقضي اليوم مشاهدًا حدوث ذلك وأصل إلى استنتاجاتي الخاصة.
أكرهُ أن أبدو جشعًا—لديّ الكثير بالفعلِ لأكون شاكرًا له.
ولكنني أريد أن أستيقظً باكرًا لصباحٍ آخر، على الأقل.
وأذهب إلى مكاني مع بعض القهوة وأنتظر
فقط أنتظر، لأرى ماذا سيحدث.


* الترجمة خاصة بـ Boring Books

** يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه