قصص لريموند كارفر

ترجمة: سيد عبد الخالق ومحمد عبد النبي

تقديم: محمد عبد النبي

يحتفظ المسؤول عن الملف بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بالترجمات دون إذن منه.


المكان: نادي الأدب الأسبوعي، في بيت ثقافة بهتيم (لم يعد له وجود، بعد هدم مبنى البريد القديم وإنشاء قصر ثقافة شبرا الخيمة).

الزمان: نهاية تسعينيات القَرن الماضي، تقريبًا يعني.

الأبطال: نُخبة مِن أفضل وأذكي الكتَّاب والشعراء والمترجمين، سواء مِن سكَّان شبرا الخيمة ونواحيها أو ما حولها.

الحدث: قرأ علينا د. وائل فاروق إحدى القصص القصيرة، زاعمًا أنها مِن كتابته، رغم أنه لم يكن يمارس كتابة القصة القصيرة، فقط ليرى ماذا سيكون رد فعل أعضاء النادي الأدبي على قصة من كتابة مبتدئ، ولو كان أكاديميًا، بينما هي قصة مُترجمة لمخضرم كبير هو الأمريكي ريموند كارفر. كان مترجم القصة الأستاذ سيد عبد الخالق وقد تواطأ معه في اللعبة حتَّى نهايتها. لا أذكر نتائج اللعبة كثيرًا، أذكر فقط إعجابي الشديد بالقصة نفسها وغيرتي مِن وائل فاروق.

بعد ذلك التعارُف الأوَّل، اكتشفت عالَم ريموند كارفر وأعدتُ اكتشافه على مدار سنوات،  قرأتُه مترجَمًا في البداية، في المجموعة القصصية الصادرة عن مؤسسة سجل العَرب، سنة 1986، بترجمة الأستاذ أمير كامل، وبعنوان محايد للغاية (قصص قصيرة)، وهي تَرجمة كامِلة لمجموعته القصصية كاتدرائية، وبمقدمة مقتضبة وعَجلى للغاية.

صدرت نفس هذه المجموعة القصصية عن دار روايات في الإمارات العربية، من خلال مبادرة 1001 عنوان، بترجمة أسامة إسبر، إلى جانب مجموعة أخرى لكارفر، هي «عمّ نتحدَّث عندما نتحدَّث عن الحب»، بترجمة سُلطان فيصل، ولعلَّ الدار نفسها سوف تصدر أعمالًا أكثر للكاتب الذي طالَ جهلُ العالَم العربي به، على الرغم مِن كونه أحد أهم كتَّاب القصة القصيرة الأمريكيين، وأحد أقطاب ما يسمَّى بمذهب الواقعية القذرة، وعلى الرغم كذلك مِن غزارة إنتاجه في القصة والشِعر والمقال والسيرة.

وُلد كارفر في كالاتسكاني، ولاية أوريجون، عام 1938، تنقَّل خلال حياته بين عدد من الولايات الأمريكية، منها واشنطن ونيويورك، حتى وفاته بسبب سرطان الرئة عام في بورت أنجلز، عام 1988. يرى روبرت تاورز أن «كارفر يُعد واحدًا من أساتذة القص الأمريكي الحديث»، ويقول جوناثان يارولي: «إنه كاتب العاطفة المدهشة. يكتب وكأنَّ عينيه مفتوحتان على جرحك».

ليس مِن السَهل تقديم عالَم كارفر ببضع كلمات أو بضعة سطور، ولَعلَّ أفضل طريقة للتعرُّف عليه وعلى كتابته هي قراءة أعماله مباشرةً، مِن غير وسيط ولا مقدمات. 

ننشر اليوم وخلال الأسابيع القادمة سبعة قصص لريموند كارفر وقد سمحت لنفسي أن أضمَّ إلى ترجماتي لقصص سِت، القصة التي ترجمها الأستاذ سيد عبد الخالق رحمه الله، وعنوانها «الوشاية».

محمد عبد النبي


الوشاية

ترجمة: سيد عبد الخالق

«كذب» صاحت زوجتي «كيف تصدق شيئًا كهذا؟ إنها امرأة حاقدة» ورفعت وجهها تحدق في، لم تكن قد خلعت معطفها بعد، فقط، ضجت حمرة الخجل فوق وجهها على أثر استماعها هذا الاتهام. «أنت تصدقني بالطبع، أليس كذلك؟ بالتأكيد لا تصدقها؟»

هززت كتفيّ، ثم قلت: «ولماذا تكذب؟ ما الذي يضطرها إلى ذلك؟ وماذا ستجني من ورائه؟»

كنت مرهقًا، أقف هناك في منتصف الردهة أبسط كفي وأكورها. أحسُ كما لو أنني مجرد من ملابسي، مدعاة لضحك الآخرين رغم موقفي. لستُ مؤهلًا على الإطلاق للقيام بدور المحقق. كم كنت أتمنى الآن لو أنني لم أسمع بهذا. ليتني لم أصغ، وليت كل شيء يعود إلى سابق عهده. قلت «من المفترض أنها صديقة. صديقة لكلينا» قالت «إنها مومس، تلك حقيقتها، ولا يجوز لك أن تتوقع من صديق، مهما كان بعيدًا أو عابرًا، أن يتفوه بوشاية قذرة كتلك، لا يمكنك أن تصدق هذا». وهزت رأسها هزة من يندهش من بلاهة محدثه. ثم خلعت قبعتها وقفازيها، ووضعت كل شيء فوق المائدة أمامها، ثم نزعت معطفها وألقت به فوق رأس المقعد. قلت:

- لا أعرف ما الذي ينبغي عليَّ أن أصدقه أكثر، ولكني أريد أن أصدقك أنت.

- فلتصدقني إذن. هذا كل ما أريده منك. فأنا صادقة فيما أقول ولم أعتد أن أكذب عليك في أشياء كهذه. والآن – قل لي إن ما سمعتَ ليس صحيحًا. قل إنك لا تصدق هذا الكذب الرخيص.

أحبُ هذه المرأة. أريد أن أطوقها بذراعيَّ، أضمها إلى صدري، وأخبرها بأني أصدقها فعلًا، ولكن – هذه الوشاية – إن كانت كذلك – تقف بيني وبينها، الآن. تحركت ناحية النافذة.

- لا بد أن تصدقني أنا. أنت تعرف أنها حمقاء وأنني صادقة.

وقفت أمام النافذة، وتابعت حركة المرور البطيئة، لو أني أرفع عيني قليلاً سأرى هيكلها وقد انعكس ظله على زجاج النافذة. أقول لنفسي: أنت رجل مستنير، رحب الأفق، ويمكن أن تتعامل بكفاءة مع هذه الأمور. فكرت في أشياء كثيرة، لا رابط بينها، في زوجتي وفي حياتنا معًا، وفي تضاد الحقائق والأوهام، والبراءة والزيف، في «ثورة الغضب»، الفيلم الذي رأيناه معًا في الآونة الأخيرة. وتذكرت «سيرة تولستوي» الموضوعة فوق المائدة، ما يقوله عن الحقيقة، والصدام الذي أثاره في روسيا القديمة، وذلك الصديق القديم الذي صاحبني إبان سنوات عمري المختلفة من المدرسة العليا، والذي لم يصدق في حياته مرة، ذلك الشخص المحترف، الدائم الكذب والمبهج الصافي النية في الآن نفسه، والصديق الحميم لعامين أو ثلاثة خلال هذه المرحلة الصعبة من حياتي. كنتُ سعيدًا باسترجاعه من جب الماضي، هو أول من يتراءى إلى خاطري الآن، في أول أزمة تعترض زواجي السعيد – السعيد حتى الآن. هذا الكاذب الروحاني، يمكنه أن يبرهن على صدق أفكار زوجتي، بأن هناك من يحترفون الكذب لأجل الكذب، كنتُ سعيدًا مرة أخرى، استدرت كي أخاطبها، أعرف ما أريد أن أقول الآن: نعم. هذا صحيح، الناس يستطيعون الكذب، ويمارسونه بلا ضوابط، وربما بلا وعي، أو بشكل فرضي بعض الأحيان، دون اعتبار بما يترتب على ذلك من توابع مؤسفة، بالتأكيد كانت السيدة التي أبلغتني تندرج ضمن هذه الشريحة العريضة من البشر. في ذلك الوقت، كانت زوجتي قد جلست فوق الأريكة، وراحت تخبئ وجهها بكفيها.

 وقالت وهي في هذا الوضع:

- إنها حقيقة، وليست وشاية. ليسامحني الرب. كل شيء قالته لك كان صحيحًا.

 كنتُ أكذب عليك عندما أخبرتك بأنني لا أعلم شيئًا عما تقول.

- أوكان صحيحًا إذن؟

قلت ذلك وأنا أتداعى فوق أحد المقاعد القريبة من النافذة. أومأت وهي لا تزال تخبئ وجهها وراء كفيها.

- ولما أنكرت؟ إن كلينا لم يعتد الكذب على الآخر، أليس كذلك؟

- كنت أشعر بالأسف.

وتطلعت نحوي وهي تهز رأسها:

- كنت أشعر بالخزي، لا يمكن أن تدرك قدر الخزي الذي كنت أشعر به. لم أكن أريدك أن تصدق ما سمعته.

- أظن أنني أفهم.

ألقت حذاءها بعيدًا، واضطجعت على الأريكة ثم طوحت شعرها إلى جانب وتناولت سيجارة هممت أشعلها لها، ولوهلة هالتني هشاشة أصابعها الطويلة، الشاحبة، ولون أظافرها المطلية بعناية، وكأنني أراها لأول مرة، أو بنحوٍ لا يخلو من مباغتة. جذبت نفسًا من السجارة، ومرت فترة قبل أن تقول:

- وكيف كان يومك؟ حسنًا. هه؟ أقصد بوجهٍ عام. أنت تفهم قصدي. وكانت تضع السيجارة بين شفتيها وهي تنهض من جلستها لوهلة كي تخلع تنورتها.

قلت:

- كانت هناك أشياء كثيرة. جاء شرطي بعد الظهر، ومعه ضابط صف. هل تصدقين؟ يبحث عن شخص كان يقيم في الطابق السفلي. كما جاء صاحب العمارة بنفسه كي يبلغ السكان بأن المياه سوف تنقطع لنصف ساعة، من الثالثة وحتى الثالثة والنصف، وذلك أنهم كانوا يُجرون بعض الإصلاحات في المناطق المجاورة، والحق، لقد انقطعت المياه فعلًا، بالضبط فور مجيء الضابط هنا.

- هكذا؟

ورفعت كفها الخالية إلى فمها – ومددت رجليها وتثاءبت وهي تغلق عينيها، ثم عادت تهز شعرها الطويل.

- ثم إنني قرأت جزءًا لا بأس به من سيرة تولستوي.

- رائع!

وبدأت تتناول بعض حبات الفستق من طبقٍ أمامها، تقذف بها الواحدة تلو الأخرى إلى فمها المفتوح، بينما لا تزال تضع السيجارة بين أصابع كفها اليسرى، ومن آن إلى آخر، كانت تتوقف قليلًا، كي تمسح شفتيها بظهر كفها، وتدخن!

الآن، تحررت تمامًا من ملابسها الداخلية أيضًا، وضمت رجليها تحتها وعادت تستقر فوق الأريكة – وما رأيك فيه؟

- به بعض الأفكار الشائقة. لقد كان تولستوي شخصية بارزة بحق.

شعرتُ بوخزٍ في أصابعي، وبدمي وهو يتدفق بين شراييني بسرعة أكبر.

أحسستُ أيضاً بالإرهاق مع ذلك.

- اقترب مني أيها الفلاح الخشن!

- أريد الحقيقة.

قلتها بإعياء وأنا أقترب، على يدي وركبتي. أثارتني نعومة البساط، وملمس نسيجه الوثير، اللين، كثيف الوبر. زحفت ببطء نحو الأريكة، وأرحتُ ذقني على إحدى وسائدها، أما هي، فقد أخذت تحرك كفها فوق شعري وتبتسم. ولاح لي أني رأيت حبات ملح تلمع فوق شفتيها الممتلئتين. وبينما كنت أرقبها بعناية، كانت عيناها مفعمتين بحزنٍ غامض، يتعذر وصفه. إلا أنها ظلت تبتسم، وتملس على شعري.

- اصعد نحوي، يا طفلي الصغير، الأحمق، أتراك تصدق حقًا هذه المرأة الكريهة؟

هذه الوشاية القذرة؟ هيا... ضع كفك فوق صدري، صدر ماما، هكذا، حسنٌ، أغلق عينيك، ... والآن كيف تصدق كذبة كهذه؟ كم أحبطتني، كنت أحسب أنك تعرفني جيدًا.

الكذب غواية، يمارسها البشر، لا أكثر!


أشياء صغيرة

ترجمة: محمد عبد النبي

نُشرت هذه القصة في المجموعة القصصية (عمَّ نتحدث عندما نتحدث عن الحب) بعنوان آخر هو (طرائق شائعة). ثم أعيد نشرها بعد ذلك عام 1988 في مجموعة (مِن حيث أتصل بك).

في وقتٍ مبكر من ذلك اليوم، تبدَّل الطقس وكان الثلجُ يذوب ماءً عكرًا، ونزَّتْ خيوطٌ منه من النافذة الصغيرة بارتفاع الكتف والمواجهة للباحة الخلفية. في الشارع بالخارج كانت السيارات تخوض في الأوحال لدى مرورها، حيث كانت السماء تقترب من العتمة. وكان الجو معتمًا في الداخل كذلك.

كان في غرفة النوم يدس ملابسه في حقيبة كبيرة حين أتت لتقف بالباب.

قالت: فرحانة لأنك سترحل! أنا فرحانة لأنك سترحل! أتسمعني؟

واصل وضع أشيائه بالحقيبة.

يا بن القَحبة! سعيدة أنكَ سترحل! وبدأت تبكي. لا تقدر حتَّى أن تنظر في وجهي، صحيح؟

ولمحت صورة الطفل على الفراش فأخذتها.

نظرَ إليها ومَسَحت عينيها وحدَّقت فيه قبل أن تستدير وتعود إلى غرفة المعيشة.

قال: أعيديها.

قالت: احمل أشياءك واخرج وخلاص.

لم يرد. حزمَ الحقيبة، ارتدى معطفه، جالَ ببصره في غرفة النوم قبل أن يطفئ النور. ثمَّ خرج إلى غرفة المعيشة.

وقفت على مدخل المطبخ الصغير، وهي تحمل الطفل.

قال: هاتي الولد.

أنت مجنون؟

لا، لكني أريدُ الولد. سأرسل شخصًا ليأخذ لوازمه.

قالت: لن تلمس الولد.

شرعَ الطفل يبكي، وكَشفت هي البطانية عن رأسه.

قالت وهي تنظر للطفل: أوه، أوه.

تحرَّك نحوها.

حرام عليك! قالتها وتراجعت خطوة إلى داخل المطبخ.

هاتي الولد.

غُر مِن هنا!

استدارت وحاولت أن ترفع الصغير في ركنٍ وراء الموقد الغازي.

لكنه لحق بها. مدَّ يديه من فوق الموقد وشدَّ قبضتيه على الصغير.

قال: دعيه.

صاحت: ابعد عنَّي، ابعد عنَّي!

راحَ الصغير يصرخ وقد احمَّر وجهه. في تنازعهما أسقطا أصيص النبات المُعلَّق وراء الموقد.

دفعها نحو الحائط، وحاول أن يفك قبضتها. تشبث بالصغير دافعًا بكل ثقله.

قال: دعيه.

قالت: لا تفعل هذا. أنت توجعه.

قال: أنا لا أوجع الولد.

لم يكن هناك أي ضوء ينبعث من نافذة المطبخ. في عتمة شِبه تامَّة، أخذ يفك أصابعها المتخشبة بإحدى يديه، وبالأخرى يقبضُ على الطفل الصارخ من تحت إبطه بالقرب من الكتف.

أحسَّت بأصابعها تنفتح قسرًا. أحست بالصغير يؤخَذ منها.

صرخت بينما تتراخى أصابعها: لا!

سوف تأخذه منه، هذا الطفل. قبضت على ذراع الطفل الأخرى، أمسكت به من حول معصمه وانحنت للوراء.

لكنه لم يُفلته. أحسَّ بالطفل ينزلق من بين يديه فشدَّه بكل قوته.

هكذا، حُسمَ الأمر.